المطلب الثاني
الرياء
الرياء داء عضال، يغضب الرب ويحبط الأعمال حذر منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، لسوء عاقبته، وخدشه للتوحيد، عافانا الله من خطره وشره.
معنى الرياء: الرياء مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة ليراها الناس فيحمدوا صاحبها. [فتح الباري جـ11 ص443]
التحذير من الرياء وصية ربانية: إن الله حذرنا من الرياء في الأقوال والأفعال وذلك في كثير من آيات القرآن الكريم، وبين لنا سبحانه أن الرياء يحبط الأعمال الصالحة.
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر [البقرة:462].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لهذه الآية: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليُشكر بين الناس أو يُقال إنه كريم جواد ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال سبحانه: ولا يؤمن بالله واليوم الآخر .
[ابن كثير جـ2 ص364]
وقال سبحانه: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [النساء:241].
قال ابن كثير في هذه الآية: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرًا عن الصلاة التي لا يُرون فيها غالبًا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس. [تفسير ابن كثير جـ4 ص813]
فاحذر أخي المسلم من الرياء لأنه من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم في كتابه العزيز إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا [النساء:145].
وقال سبحانه وتعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف:011].
قال ابن كثير في قوله تعالى: فليعمل عملا صالحا أي ما كان موافقًا لشرع الله، وقوله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وهو الذي يُراد به وجه الله تعالى وحده لا شريك له.
[ابن كثير جـ9 ص502]
وقال جل شأنه: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون [الزمر:74].
قال مجاهد في معنى هذه الآية: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.
[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ51 ص452]
وقال سبحانه موضحًا عقوبة المرائين يوم القيامة: فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراءون (6) ويمنعون الماعون [الماعون:4-7].
أقسام العمل مع الرياء
القسم الأول: عمل فيه رياء خالص:
إن العمل تارة يكون رياءً خالصًا، بحيث لا يُراد به سوى مراآة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، وهذا الرياء الخالص لا يكاد يصدر من مسلم في فرض الصلاة والصيام ولكن قد يصدر منه في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص08]
القسم الثاني: عمل لله مع رياء:
وتارة أخرى يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه في أصله، فالنصوص الصحيحة من السنة تدل على بطلان هذا العمل وحبوطه ثوابه. [جامع العلوم والحكم جـ1 ص08]
القسم الثالث: عمل يخالطه غير الرياء:
إن العمل إذا خالطه شيء غير الرياء لم يبطل بالكلية، فإن خالط نية الجهاد مثلا نية أخرى غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر المجاهد ولم يبطل بالكلية.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص28]
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثُلُثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تمَّ لهم أجرهم». [مسلم 6091]
القسم الرابع: عمل خالص لله ثم تطرأ عليه نية الرياء:
إذا كان أصل العمل لله وحده ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرًا ودَفَعهُ فلا يضره بغير خلاف بين العلماء، فإن استرسل معه، فهل يَحبطُ عمله أم لا يضره ذلك ويُجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجَّحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازي بنيته الأولى، وهذا القول مروي عن الحسن البصري وغيره، وذكر ابن جرير الطبري أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة، ويحتاج إلى تجديد نية. [جامع العلوم والحكم جـ1 ص38-48]
القسم الخامس: عمل لله يصاحبه ثناء الناس:
إذا كان عمل المسلم عملا خالصًا لوجه الله تعالى ثم ألقى الله له الثناءَ الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح المسلم بفضل الله ورحمته واستبشر به لم يضره ذلك.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص48-58]
روى مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجلَ يعملُ العمل من الخير، ويَحْمَدُهُ الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بُشرى المؤمن». [مسلم 2462]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
منقوووووووووووووووووووول
المبحث الخامس
الهجرة الي الله ورسوله
قال الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: " قد علمت وفقنا الله وإياكم أن السلف يحفلون للهجرة ولا يحتفلون بها... وأما الاحتفال بالهجرة ولم يجر إلا في عهدنا هذا وهو حسن ما لم يعتريه ما اعترى الموالد في مصر كما علمتم، وليقتصر على التنويه بالهجرة إجمالاً وتفصيلاً" ().
أولاً: تعريف الهجرة:
الهجرة لغة: اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا().
قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة"().
وضبط ابن منظور أيضاً التي بمعنى الخروج من أرض إلى أرض بضم الهاء: الهُجْرة().
ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن():
فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: {وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ} [النساء:34].
ومن الهجر باللسان قول عائشة رضي الله عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم)) قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك().
ومن الهجر بالقلب ما جاء في حديث: ((من الناس من لا يذكر الله إلا مهاجراً))()، قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: "يريد هِجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأنّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له"().
وقد تجتمع هذه الوجوه كلها أو بعضها في بعض أنواع الهجر.
الهجرة شرعاً:
عرّفها غير واحد بأنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام().
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"()، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) ()، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن()، والأولى أصل للثانية.
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة().
() الثمرة الأولى لجميعة الطلبة الجزائريين الزيتونيين ص 40، نشرة السنة الرابعة 1355ـ 1356هـ، 1936 ـ 1937م.
() انظر : لسان العرب (8/4616).
() معجم مقاييس اللغة (6/34) . ولم يذكر للأصل الثاني مثالاً.
() انظر : لسان العرب (8/4617).
() انظر : التوقيف على مهمات التعاريف (738).
() أخرجه البخاري (9/325-الفتح) [5228]. وفي هذا الحديث فضل عائشة رضي الله عنها حيث إنها أخبرت مقسمة أنها في حالة الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تتغير عن المحبة المستقرة في قلبها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يترك قلبها التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مودة ومحبة، ثم من فطنتها رضي الله عنها أنها لما لم يكن لها بد من هجر اسمه الشريف أبدلته بمن هو صلى الله عليه وسلم أولى الناس به وهو إبراهيم عليه السلام حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة. انظر : فتح الباري (9/326).
() لم أقف عليه.
() النهاية (5/245).
() انظر : التعريفات للجرجاني (256) والمفردات للراغب (537) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (1/72-73).
() فتح الباري (1/16).
() جزء من حديث أخرجه البخاري (1/53-الفتح) [10] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
() انظر: فتح الباري (1/54).
() انظر: لسان العرب (8/4617) .
ثانيًا: فضل الهجرة:
لقد جاء في فضل الهجرة وبيان ثواب المهاجرين آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة.
فمن الآيات الكريمة:
1- قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:218].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بذلك جل ذكره: إن الذين صدّقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به، وبقوله: {وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ} الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم، ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها، هجرة لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه...، وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم، كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم إلى الموضع الذي يأمنون ذلك...
فمعنى قوله إذًا: {وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} والذين تحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم، وخوف فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه، وفيما يرضى الله، {أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ} أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم"().
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة، وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته...، وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب والمألوف لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربًا إلى الله ونصرة لدينة، وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان. وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة"().
2- وقوله تعالى: {فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ ثَوَاباً مّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ} [آل عمران:195].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه: فالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله والتصديق برسوله، وأخرجوا من ديارهم، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة...، {وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ} يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف؛ لأنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"().
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران... وقوله: {ثَوَاباً مّن عِندِ ٱللَّهِ} إضافة إليه ونسبة إليه ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا"() .
وقال ابن سعدي: "فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال طلبًا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله"() .
3- وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مّن وَلـٰيَتِهِم مّن شَىْء حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ} [الأنفال:72].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُواْ} يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم...{أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يقول: هاتان الفرقتان يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار"() .
وقال ابن كثير رحمه الله: "ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض"() .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذا عقد موالاة ومحبة عقدها الله بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم لله، لأجل الجهاد في سبيل الله، وبين الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم، وأموالهم وأنفسهم. فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض"() .
4- وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ % وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال:74-75].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} أووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، ونصروهم ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًا، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغز مع المسلمين عدوّهم، {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنهما، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجوا، ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك"() .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ} من المهاجرين والأنصار، أي: المؤمنون {حَقّاً} لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين، {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} من الله، تُمحى بها سيئاتهم وتضمحل بها زلاتهم {وَ} لهم {رِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم"() .
5- وقوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ % يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ % خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:20-22].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} بالله: صدقوا بتوحيده من المشركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم مشركون"().
وقال ابن سعدي رحمه الله: "ثم صرح بالفضل فقال: {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ} بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة {وَأَنفُسِهِمْ} بالخروج بالنفس {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ} أي: لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب إلا من اتصف بصفاتهم وتخلق بأخلاقهم"() .
6- وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ فِى ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَة وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [النحل:41].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله {لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَة} يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنًا يرضونه صالحًا...
وقوله: {وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر؛ لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد"() .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه"() .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين {وَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ فِى ٱللَّهِ} أي: في سبيله، وابتغاء مرضاته {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} بالأذية والمحنة من قومهم، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك، فتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن فذكر لهم ثوابين، ثوابًا عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيئ الذي رأوه عيانا بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم، وافتتحوا البلدان، وغنموا منها الغنائم العظيمة فتمولوا، وآتاهم الله في الدنيا حسنة، {وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ} الذي وعدهم الله على لسان رسوله خير، و{أَكْبَرُ} من أجر الدنيا... {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وجاهد في سبيله، لم يتخلف عن ذلك أحد"() .
7- وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَـٰهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:110].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور... رحيم بهم.."() .
وقال ابن كثير رحمه الله: "هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه {مِن بَعْدِهَا} أي: تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم"() .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله وخلى دياره وأمواله، طالبًا لمرضاة الله، وفُتِنَ على دينه ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان وتخلص ما معه من اليقين، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله، بلسانه ويده، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس، فهذه أكبر الأسباب التي ينال بها أعظم العطايا، وأفضل المواهب، وهي مغفرة الله للذنوب"() .
8- وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرٰزِقِينَ} [الحج:58].
قال ابن جرير رحمه الله: "والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك، ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقًا حسنًا، يعني بالحسن: الكريم، وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل"() .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبًا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله {ثُمَّ قُتِلُواْ} أي: في الجهاد، {أَوْ مَاتُواْ} أي: حتف أنفسهم، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل"() .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدًا في سبيل الله"() .
9- وقوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100].
قال ابن جرير رحمه الله: "ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربًا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين، في سبيل الله، يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم { يَجِدْ فِى ٱلأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً}، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغمًا كثيرًا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب... وقوله: {وَسَعَةً} فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم ـ كان ـ من إظهار دينهم، وعبادة ربهم علانية، ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة، فقال: من كان كذلك {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ}، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته، وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه"() .
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه"() .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا"() .
10- وقوله تعالى: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأَنْصَـٰرِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ} [التوبة:100].
قال ابن جرير: "والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله {وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلبًا رضا الله {رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}"() .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم"() .
ومن الأحاديث النبوية :
1- قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: ((أما عملت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) ().
قال النووي رحمه الله: "فيه عظيم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي"().
2- قوله صلى الله عليه وسلم لأبي فاطمة الضمري: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها)) ().
3- قوله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً)) ().
4- قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن فعل ذلك منهم – أي من أسلم وهاجر وجاهد – فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)) ().
5- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم – والزعيم الحميل – لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة)) ().
6- وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الإيمان قال: ((الهجرة)) ().
7- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله...)) الحديث().
8- وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: ((أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟)) قال: الله ورسوله أعلم، فقال: ((المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟! وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك. قال: فيفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)) ().
9- وعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم() .
() جامع البيان (2/355).
() تيسير الكريم الرحمن (1/173 ـ 174).
() جامع البيان (3/ 216).
() تفسير القرآن العظيم (2/ 166).
() تيسير الكريم الرحمن (1/ 306).
() جامع البيان (6/ 51).
() تفسير القرآن العظيم (4/ 38).
() تيسير الكريم الرحمن (2/ 219).
() جامع البيان (6/ 56 ـ 57).
() تيسير الكريم الرحمن (2/ 220).
() جامع البيان (6/ 97).
() تيسير الكريم الرحمن (2/ 232).
() جامع البيان (8/ 106 ـ 107).
() تفسير القرآن العظيم (4/ 491).
() تيسير الكريم الرحمن (3/ 61).
() جامع البيان (8/ 183).
() تفسير القرآن العظيم (4/ 527).
() تيسير الكريم الرحمن (3/ 87 ـ 88).
() جامع البيان (10/ 194).
() تفسير القرآن العظيم (5/ 443).
() تيسير الكريم الرحمن (3/ 332).
() جامع البيان (4/ 238).
() تفسير القرآن العظيم (2/ 344).
() تيسير الكريم الرحمن (1/ 393).
() جامع البيان (7/ 6).
() تفسير القرآن العظيم (4/ 141).
() أخرجه مسلم (1/112) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
() شرح مسلم (2/ 497).
() أخرجه النسائي (7/465) من حديث أبي فاطمة الضمري، وحسن إسناده الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (11/605) والدكتور سليمان السعود في أحاديث الهجرة (ص244) وصححه الألباني، صحيح الجامع [4045].
() أخرجه مسلم [673] من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
() أخرجه أحمد (3/483) والنسائي (6/21) من حديث سبرة بن أبي فاكه وهو في صحيح السنن [2937].
() أخرجه النسائي (6/21) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو في صحيح سنن النسائي [2936].
() أخرجه أحمد (4/114) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. وقال الهيثمي في المجمع (1/59) : "رجاله ثقات".
() أخرجه أحمد (4/130، 202) (5/344) والترمذي (5/148) من حديث الحارث الأشعري وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2/64) وقال الألباني : "إسناده صحيح".
() أخرجه الحاكم (2/70) من حديث عبد الله عمرو رضي الله عنهما وقال : "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
() أخرجه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر (116).
ثالثًا: أنواع الهجرة:
يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1- الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام ومن البدعة إلى السنة ومن المعصية إلى الطاعة، وهذا هو مقتضى الهجرة إلى الله ورسوله، لأن الهجرة إلى الله تعالى تكون بالإيمان به وتوحيده وإفراده بالعبادة خوفاً ورجاءً وحباً، وأن يجتنب الشرك صغيره وكبيره، وأن يجتنب المعاصي والكبائر، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة لتجديد الهجرة كلما وقع فيما يضعف مسيرتها، ولذلك كان مفتاح النجاة هو التوحيد والاستغفار.
والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون باتباع سنته وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق، ونبذ البدع والمحدثات التي ليس عليها أمر الإسلام.
2- الهجرة الحسية: ومن ذلك:
أ الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع وسيأتي بيان ذلك.
ج هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حِمية منهم أو لهما معاً.
د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ().
رابعًا: حكم الهجرة:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ ظَـٰلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما)) ()، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَـئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته ي دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه().
فإن قيل : ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال" ().
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة().
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
() أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنـه الألباني في صحيح الجامـع [1461].
() انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
() فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
() مغني المحتاج (4/239) وانظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
خامسًا: الهجرة في الأمم السابقة:
لقد حكى لنا القرآن الكريم هجرة خليل الله إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى: {فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّى إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، أي آمن بإبراهيم لوط، وقال إبراهيم: إني مهاجر دار قومي المشركين إلى ربي إلى الشام، فهاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حرّان ثم إلى الشام، وهو ابن خمس وسبعين سنة ومعه لوط وسارة().
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ().
قال ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لهذا الحديث: "فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم بخلاف من يأتي إليه ثم يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام، وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم تعدل مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة"().
وكان معروفاً أيضاً في الأمم السابقة الهجرة من دار المعاصي إلى دار الطاعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجلٍ عالمٍ. فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؟ فإن بها أُناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم: فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) ().
قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته"().
وقال ابن حجر رحمه الله: "فيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه، ولهذا قال له الأخير: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها"().
() انظر: تفسير الطبري (20/142-143) وتفسير القرطبي (13/339-340) وزاد المسير (6/268) وتفسير السمعاني (4/176).
() أخرجه أبو داود [2482]، وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص 79).
() مناقب الشام وأهله (ص80)، وانظر: المجموع (27/ 509).
() أخرجه البخاري [3470]، ومسلم [2766] واللفظ له.
() شرح صحيح مسلم (17/82).
() فتح الباري (6/517-518).
سادسًا: الهجرة الباقية إلى يوم القيامة:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث أن الهجرة انقطعت بفتح مكة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)) ()، وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام)) ().
كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) ()، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد)) () في غيرهما من الأحاديث.
وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والتوفيق بينها مسالك:
المسلك الأول: أن الهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكة إلى المدينة، وأن الهجرة الباقية هي هجر السوء وتركه في أي موضع كان، وبهذا قال أبو جعفر الطحاوي()، واستدل بحديث فديك أنه قال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت تكن مهاجراً)) ().
المسلك الثاني: أن الهجرة المنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب، وبذلك قال الخطابي().
المسلك الثالث: أن الهجرة المنقطعة هي الهجرة من مكة إلى المدينة، أو الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لنصرته والجهاد معه، وأما الهجرة الباقية فهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأحوال كما تقدم بيانه، وقد قال بهذا الجمع جمع من العلماء. قال البغوي رحمه الله: "الأولى أن يجمع بينهما من وجه آخر، وهو أن قوله: لا هجرة بعد الفتح، أراد به من مكة إلى المدينة، وقوله: لا تنقطع الهجرة، أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الديار، ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما))، وعن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله))" ().
قال النووي رحمه الله: "قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأولوا هذا الحديث – أي حديث: ((لا هجرة بعد الفتح)) – تأولين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصور منها الهجرة. الثاني: وهو الأصح، أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً ظاهراً انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوي وعز بعد فتح مكة عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله"().
وقال ابن العربي رحمه الله: "الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان"().
وقال ابن حجر رحمه الله: "..((لا هجرة بعد الفتح)) أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.
الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر"().
() أخرجه البخاري [3077] ومسلم [1353].
() أخرجه البخاري [3078] ومسلم (3/1487) واللفظ للبخاري.
() أخرجه أحمد (4/99) والدارمي (2/157) وأبو داود [2479] من حديث معاوية رضي الله عنه وهو في صحيح سنن أبي داود [2166].
() أخرجه أحمد (4/99) من حديث جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه وهو في السلسلة الصحيحة [1674].() انظر : شرح مشكل الآثار (7/49-51).
() أخرجه الطحاوي في شرح المشكل (7/49 ـ 50) [2639]، والطبراني في الكبير (18/ 862)، والأوسط (2319)، والبيهقي (9/ 17)، وصححه ابن حبان (4861). وفيه صالح بن بشير بن فديك لم يرو عنه غير الزهري ولم يوثقه غير ابن حبان.
() انظر: شرح السنة (10/ 372 ـ 373).
() شرح السنة (10/ 373 ـ 374).
() شرح مسلم (13/
.
() انظر: شرح النووي لمسلم (11/
.
() فتح الباري (6/ 190).