منتدي الاستاذ شعبان النجدي المحامى لنشر الثقافة والوعي القانوني
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدي الاستاذ شعبان النجدي المحامى لنشر الثقافة والوعي القانوني

تنمية الثقافة القانونية
 
الرئيسيةمنتدى شعبان النأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 2:52 pm

المدخل لدراسة حقوق الإنسان

الدكتور الدكتور
مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي
استاذ القانون العام المشارك استاذ القانون العام المساعد
بسم الله الرحمن الرحيم

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من امرنا رشدا
صدق الله العظيم
الآية 10 سورة الكهف

مقدمه عامه

تعد حقوق الانسان حجر الزاويه في اقامة المجتمع المتحضر الحر , واحترام حقوق الانسان ورعايتها هو عماد الحكم العادل في المجتمعات الحديثه والسبيل الوحيد لخلق العالم , الحر الآمن والمستقر .
وفي جنبات هذا المؤلف حاولنا استعراض موضوع حقوق الانسان والقينا الضوء على هذا الموضوع الذي طالما شغل رجال القانون و السياسه , واستاثر باهتمام المختصين بهذا المجال من العلاقات الانسانيه لما في تعزيز احترام هذه الحقوق من نتائج منشوده يتجلى فيها خير الحاكم والرعيه , مما حداهم الى بذل الجهد الفكري المتواصل للتثقيف في مجال هذه الحقوق وضمان تطبيقها .
واذا كانت البحوث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع قد ركزت في اغلبها على الجانبين القانوني والسياسي , فان الجانب التاريخي يبقى بحاجه الى مزيد من البحث , ومتابعة الدراسه والاستقصاء , خاصه في مجتمعاتنا العربيه التى تشيع فيها فكره مفادها ان مبادئ حقوق الانسان انما هي نتاج للعقل الغربي وتتناسى موروثها الحضاري بهذا الخصوص .
ان هذا المؤلف "المدخل لدراسة حقوق الانسان " يشكل محاوله منا لبيان الجذور التاريخيه لحقوق الانسان وتطور مفاهيمها الذي ترافق مع التطور البشري ونظال الشعوب الطويل من اجل الحريه والكرامه وصولا الى الوقت الحاضر الذي اصبحت فيه مناره تشع بنور الفضيله والقيم الانسانيه الساميه وتتباهى بتبنيها الدول المتقدمه .
هذا المؤلف موجه الى مجموعه متنوعه من القراء الا ان الشريحه الاكثر استهدافا هي شريحة الطلبه الجامعيين باعتبارهم الاقدر على مواصلة الطريق في سبيل اشاعة هذه المبادئ والتثقيف بشانها وتعزيز احترامها .
فقد اضحت هذه الحقوق اليوم المعيار الرئيس للحكم العادل ومقياس شرعية السلطه وممارستها, فلم يعد بالامكان ان يتعامل الحكام مع مواطنيهم بعيدا عن المعايير الدوليه لحقوق الانسان.
ان احترام هذه الحقوق اليوم يعد التزاما دوليا على عاتق الدوله امام الاسره الدوليه ومقياسا لشرعية الحكم فيها , وفي هذا السبيل من الضروري الوفاء بالالتزامات المتعلقه باحترام الدول هذه الحقوق والتثقيف بها واشاعتها , كتلك الالتزامات الناشئه من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصاديه والاجتماعيه والثقافيه , واتفاقية حقوق الطفل , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ضد المرأه , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ,واتفاقية مناهضة التمييز في التعليم .
وقد اقتضت هذه الدراسه ان نقسم البحث الى ستة فصول بذلنا وسعنا ان تكون موازنه بين الدساتير العالميه والعربيه المختلفه كما لم نغفل اخر الاتفاقيات والمقررات الدوليه , وفق التفصيل الاتي :

الفصل الاول : الجذور التاريخيه الاولى لحقوق الانيان
الفصل الثاني : حقوق الانسان في الاسلام
الفصل الثالث : تطور حقوق الانسان
الفصل الرابع : اشكال وصور حقوق الانسان والترابط بينها
الفصل الخامس: الحمايه الداخليه لحقوق الانسان
الفصل السادس : الحمايه الدوليه لحقوق الانسان

الفصل الأول
الجذور التاريخية الأولى لحقوق الانسان

ان المسيرة الفلسفية والقانونية لحقوق الإنسان لم تبدأ في غفلة من التاريخ فهناك أصول وأسس سابقة بنت عليها الحضارة الحديثة مفاهيمها عن حقوق الإنسان، ومن ثم فان القيمة التاريخية لمضامين الحقوق لا تقل أهمية عن القيمة الموضوعية فالأولى تبرز أهمية الثانية بشكل مضاعف والتطرق لموضوع حقوق الإنسان من الناحية التاريخية ومحاولة التماس الأصول التاريخية لهذه المسيرة أمر له أهميته بهدف رسم صورة لعملية التغيير التي حدثت في الأفكار الإنسانية التي ترتب عليها الدعوة إلى حركة وطنية ودولية لحقوق الإنسان لمعرفة إمكانية ضمان تطبيق هذه الحقوق بصورة عملية.
ان هذا الفصل يهدف إلى محاولة الإجابة عن سؤال مهم، وهو هل يوجد شيء نطلق عليه حقوق الإنسان بصورة فعلية في الأزمنة القديمة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الأدوات أو الآلية التي وفرها النظام القانوني في العصور القديمة لحفظ تلك الحقوق ؟ وإذا لم يكن هناك شيء اسمه حقوق الإنسان قديماً فما هي الأسباب ؟

المبحث الأول
حقوق الإنسان في الحضارات القديمة

لا يمكن القول بوجود لحظة محددة بدأت عندها الأصول الأولى لفكرة حقوق الإنسان، ولكن في أغلب الظن فان هذه الأصول قد بدأت مع بداية تكوين حياة مشتركة لمجموعات البشر، ومن ثم فان هذه الفكرة ولو بصورتها البدائية هي فكرة قديمة قدم الحياة البشرية ذاتها وتمثل المدينة بأوجه الحياة المختلفة فيها والتي شكلت بدايات ظهور الدول في تاريخ العالم البدايات الأجدر بالبحث من خلالها عن تفاصيل محددة لفكرة حقوق الإنسان فمدينة لا رأي فيها الا لرجل واحد ليست مدينة كما انه لا يكفي لكي نعيش حياتنا ان يتحول الصراع إلى مناقشات منطقية إلا حيث تقدر قيمة الاختلاف في الرأي وتتاح المعارضة فالمدينة كمكان يعيش فيه البشر هي مستقر ومرتع تشجع فيه الحروب العقلية لا الحروب البدنية.
عليه فان البدايات لفكرة حقوق الإنسان ضمن إطار الدولة تبدأ مع ظهور المدينة.

المطلب الأول
حقوق الإنسان في حضارة وادي الرافدين
ان للعدل باعتباره المثل الأعلى للسلوك الإنساني وللحكم واقامة السلطة التي يتمتع بها الملوك والأمراء وزعماء الجماعات البشرية المختلفة تاريخاً قديماً اكثر عمقاً من الفكر اليوناني، فهو لا ينطلق من جمهورية افلاطون إذ انه عرف بصورة واضحة في شرائع وقوانين بلاد ما بين النهرين، وإذا كان لقضية الخوف التي يعاني منها الإنسان منذ ان وجد على سطح الأرض عاملاً هاماً في دفعه مع الآخرين من بني جنسه إلى البحث عن مركز ثابت للاجتماع والاستقرار الأمر الذي ترتب عليه بمعونة عوامل أخرى إلى ظهور تنظيمات مختلفة للإنسان على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جرى تنظيمها عن طريق القوانين والشرائع التي ظهرت على مر العصور، فمن الوجهة السياسية يلاحظ أن القوة السياسية كانت دائماً في يد مجلس شيوخ المدينة أو القرية وفي معظم المجتمعات فأصول قواعد السلوك والحكومة والقانون والعدل كانت موجودة في مجلس شيوخ القرية ويبدو ان هذه الوسيلة البدائية من أدوات الحكم كانت من مميزات المجتمعات القروية في كل العصور، ولقد بلغ من خطورة شأن هذه المنظمة انها تركت طابعها على كل القصص الدينية ونشاط الأداة الحكومية في مدن بلاد ما بين النهرين اذ انه إلى ما بعد ذلك بآلاف السنين كان لا يزال في بابل مجلس للآلهة على نمط القرية العتيق، وهكذا فانه مع تطور المدينة أصبح في المجتمع طبقة مميزة تسيطر على الطبقات الأخرى وعندها أدعى الملوك والزعماء أنهم يستمدون سلطانهم من مصادر الاهية حيث أصبحوا حلقة الوصل بين السماء والأرض، وبذلك امتزجت السلطتان الدينية والزمنية كما كان الأمر في الحضارات القديمة كلها، وهذه حقيقة تشمل حضارات بلاد ما بين النهرين والحضارات الأخرى كالمصرية القديمة والصينية والهندية واليابانية(13).
ان هذه الأوضاع الجديدة منحت الحاكم صلاحية الانفراد بالسلطة واسترقاق الآخرين حيث امتد الأمر ليشمل طبقات بأكملها داخل مجتمعه، وعليه فانه لم يكن هناك حق إنساني إلا في حدود ما يقره الحاكم فقط، ويمكن بالاستناد إلى ذلك تفسير ظاهرة الحرب والسبي والقتل والتدمير اذ أن كل ملك من الملوك كان يطمح إلى المزيد من القوة المادية والمعنوية والتي لا يتم الحصول عليها إلا بمقابلة الآخرين أو قتلهم والاستيلاء على أموالهم، وهذا الوضع العام أدى إلى وجود أقلية حاكمة ومسلحة على حساب الكثرة التي غالباً ما تحرم من حقوقها الإنسانية، فإذا كان ظهور الملك الحربي قد حقق الأمن لنظامه الملكي ولحاشيته وعسكره فانه من جهة أخرى قد فرض نظاماً قاسياً على رعيته، وبقدر تعلق الأمر ببلاد ما بين النهرين يشير أحد الكتاب إلى أن (الإرهاب كان هو السمة العامة للمجتمع، وقد بلغت أعمال الوحشية ذروتها في شخص آشور بانيبال ملك آشور، وتضاعفت مظاهر القسوة هذه ووصلت الذروة في عهد متأخر كعهد حمورابي حيث كانت نصوص القانون الذي اشتهر به يحتوي على قائمة من الذنوب لا حصر لها، وكثير منها طفيف، لكنها كانت تستوجب العقاب بالموت، أو بالتشويه عملاً بالنص الحرفي لمبدأ العين بالعين والسن بالسن(14).
وربما كان لهذا الشكل من أشكال الإرهاب أسبابه المتعددة ومنها قسوة الطبيعة. ففي بلاد ما بين النهرين للطبيعة قسوة مميزة تمثلت في فيضان الأنهار المفاجئ والمدمر لمحاصيل الفلاحين بينما يمثل النيل سهولة الحياة وسلاستها فالفلاح المصري يعرف أوقات الفيضان، الأمر الذي يقود إلى استغلال المحاصيل الزراعية على أكمل وجه وهو ما يقود بدوره إلى حياة الأمن والاستقرار، ويمكن تفسير القسوة الإنسانية كنتيجة لقسوة الطبيعة في بلاد ما بين النهرين ونقيض ذلك في بلاد النيل من خلال الضغط والإرهاب الذي أدى إلى وحدة الأقاليم في المنطقة الأولى بينما أقيمت وحدة الأقاليم في وادي النيل على المنفعة العامة التي تجنى من مياه النيل.

وقد ازدادت الحياة قسوة عندما جاء رجل ووضع قدمه على قطعة أرض وقال هذه ملكي مما ترتب عليه تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، ومع ذلك فان التقسيم الحقيقي للملكية لم يبدأ إلا عندما بدأ الحكام يوزعون هباتهم للمقربين منهم ولم تظهر حقوق الملكية بتفاصيل قانونية إلا في الألف الثاني قبل الميلاد وهو ما جاءت به شريعة حمورابي التي عالجت تفاصيل الملكية وحق نقلها، وهنا يمكن ملاحظة حقيقة أساسية، وهي أن معظم الحضارات القديمة قد قامت بشكل أو بآخر على أكتاف الرقيق، وبالمثل فانه يمكن القول أن الثروات الطائلة التي يجمعها أفراد مهيمنون لا تتم إلا عن طريق الاسترقاق والقسوة التي تخلو من الشعور بالإنسانية تجاه الآخرين، ومن ثم فإن الفترة الأولى التي شهدت عصر ما قبل التاريخ والحضارات القديمة لم تتعرض لقضية حقوق الإنسان بمعناها الحقيقي من حيث حقه في تقرير المصير وحقه في الوجود حتى أن القوانين التي وضعها حمورابي لا تؤدي إلا لأن يكون الناس جميعاً بلا عيون وبلا أسنان وبلا أطراف وفي نهاية الأمر فلا نجد في ظل هذه القوانين داخل المجتمع الإنساني سوى عقاب يتبعه عقاب وليس حقوقاً تليها حقوق.
عليه فان الحقوق التي أقرتها الشرائع القديمة لم تكن حقوقاً جماعية بالمعنى المعروف في الوقت الحاضر بل كانت حقوقاً فردية يتمتع بها الحاكم، ومن ثم فان تناقض الوعي وصراع الذات والموضوع لم تؤدي إلى تطور الوعي في الحضارات القديمة ولذا انعدمت الحرية فيها حيث لم يكن هناك سوى شخص واحد حر هو الحاكم(15) .
أن ما تقدم من أفكار يمثل وجهة نظر واحدة عن حقوق الإنسان وأصولها في المجتمعات القديمة على وجه العموم، وفي حضارة ما بين النهرين على وجه الخصوص، ومن ثم فانه يحق لنا ان نتساءل فيما إذا كانت الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟ فمن الضروري أن نلاحظ أن البدايات الحقيقية للتشريع والقانون إنما ظهرت في بلاد ما بين النهرين التي تكونت فيها أولى التجمعات البشرية المشكلة للأشكال الأولى للدولة بكل ما تعنيه من تنظيم سياسي واقتصادي واجتماعي.
عليه فان هناك وجه آخر فازدهار القوانين في بلاد ما بين النهرين أمر مؤكد بالمقارنة مع المدنيات الأخرى التي زامنت الحضارة العراقية القديمة، والحقيقة هي أن تطور القانون لا ينفصل عن تطور الفكر بشكل عام وهو بدوره يمثل انعكاساً للمديات المتقدمة في جوانب الحياة المادية، فالقانون في الأساس، منطلق لتنظيم العلاقات، وتثبيت حقوق وواجبات طرفي العلاقة في أشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ومن بين أوجه العلاقات تلك التي تقوم بين الناس، فرادى وجماعات في جانب، وبين الحاكم أو من يمثله من سلطات وإدارات وهيئات من جانب آخر، ولأن الملك في نظرة العراقيين القدماء شخص لا يختلف كثيرا ً عن بقية الناس، أوكلت الآلهة إليه مهمة حكم البشر وادارة شؤونهم، فهي من واجباته، مثلما له حقوق على الناس، لذلك برزت الحاجة الماسة إلى تعيين الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة الرئيسيين الملك من جانب والمجتمع من جانب آخر.
وعلى الرغم من أن هذا التصور للعلاقة لم يصل إلينا مدوناً بشكل مباشر ولكننا نستشفه من أقوال الملوك وبعض النصوص الدينية، فالملك مكلف بنصرة المظلومين والاقتصاص من الظالمين وهو الراعي العادل، ولكنه لم يمثل صورة الحكم الإلهي (فإذا لم يحرص على تطبيق العدالة، فسيغير الإله ايا قدره) بمعنى أن مصير الملك كصاحب سلطان منوط بموقفه من العدالة وعمله على تطبيقها، لأنها إرادة الآلهة. وجانب من هذه الحقيقة تشير إليها قوانين حمورابي إذ نقرأ على لسان هذا الملك (انتدبني آنذاك آنو وانليل، أنا حمورابي الأمير الكريم عابد الالهة، لأنشر العدل في البلاد واقضي على الشر والغش وامنع القوي من اضطهاد الضعيف).
وبقدر تعلق الأمر بالجوانب الخاصة بحقوق الإنسان يلاحظ على القوانين العراقية القديمة إقرارها ببعض العقوبات الصارمة أو اعتمادها على بعض المبادئ الساذجة والتي لا تتوافق مع أعراف البشر المتمدنين في العصر الراهن، ومن أمثلة ذلك تعميم المسؤولية أو استنتاج البينة عن طريق الامتحان، وما إلى ذلك، ولكن إذا ما تذكرنا اننا نستعرض أعمالاً قانونية يقرب عمرها من أربعة آلاف عام، سنقبل بالضرورة بعض المآخذ التي تسجل على جوانب من القوانين، غير متناسين أن القوانين العراقية القديمة تشكل التجربة الأولى في تاريخ البشر، وانها بالمقارنة مع الكثير من الأعمال القانونية اللاحقة، تمثل الأساس الصحيح والسليم لتجربة الإنسان القانونية(16).
ومن النصوص القانونية التي جاءت بها شريعة حمورابي والتي لا تنسجم مع أسس حقوق الإنسان النص الذي يعالج حالة أي مواطن يتهم مواطناً آخر بجريمة يعاقب عليها بالإعدام ثم لم تثبت عليه فانه يعدم عوضاً عنه، كما تضمنت هذه المدونة النص على حق المحارب الذي يؤسر في ديار الأعداء في أن يسترد زوجته إذا عاد إلى بلده، حتى لو كانت قد تزوجت أثناء أسره برجل آخر، وهي تحتم على زوجة الأسير ان تلزم داره مادام فيها ما تقيم به أودها وإذا ما تزوجت رجل فانه يلقى بها في النهر، ومع ذلك فان هناك نصوصاً عبرت عن احترام بعض الأسس التي تعد من حقوق الإنسان حتى في العصر الحديث، فقد اعتبرت الدولة مسؤولة عن تقصيرها في حماية الأشخاص والممتلكات، ولهذا السبب، فانه إذا قتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله تعاونت المدينة وحاكمها على دفع الدية إلى أهله، وإذا سرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه واسترجاع المسروقات عوضته مدينته وحاكمها عما سرق منه.
فضلاً عما تقدم من أحكام تبرز ملامح أخرى لحقوق الإنسان يمكن الإشارة إليها كالإصلاحات المنسوبة إلى حاكم مدينة لجش أوروكوجينا التي تتمحور إصلاحاته على معالجة الوضع الضرائبي وشؤونه بصورة أساسية ومع ذلك فقد أكدت هذه الإصلاحات على بعض المبادئ المهمة كفكرة الحرية في حدود القانون وان المناصب الوظيفية العالية في الحكومة والإدارة لا تعفي صاحبها من الحدود القانونية، وهذا كله بهدف توفير أساس قانوني لمعاقبة الموظفين وجامعي الضرائب ممن خرقوا التقاليد وتجاوزوا على حقوق المواطنين وممتلكاتهم(17)، ومما تجدر الإشارة إليه ان إصلاحات اوروكوجينا هي الوثيقة الأولى في تاريخ البشرية التي وردت فيها كلمة الحرية(18).
القانون الآخر هو قانون اورنمو الذي يعد من اقدم القوانين المدونة في تاريخ البشرية وقد اعتمد مبدأ التعويض في العقوبات على خلاف المبدأ الذي يعتمده قانون حمورابي وهو القصاص.
وفي إطار عمل الأجهزة القضائية يمكن الإشارة إلى جريمة قتل اخبر القتلة الزوجة بمقتل زوجها فلما عرضت القضية على مجمع المواطنين في مدينة (نفر) صدر الحكم بان العقوبة ينبغي ان لا تشمل سوى القتلة والفاعلين وقد ترجمت تلك الوثيقة وعرضت على عميد كلية الحقوق بجامعة بنسلفانيا وعضو المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1930 – 1940 لبيان رأيه فيها فأجاب بان القضاة المعاصرين يتفقون مع القضاة السومريين القدامى في هذا الحكم، لأن تلك الزوجة لا يمكن أن تعد شريكة في الجريمة بموجب أحكام قوانيننا فان من ينبغي أن يعد شريكاً في الجرم ليس من علم بارتكاب الجريمة فقط، بل يجب أن يكون قد أوى المجرم القاتل أو أسعفه أو زين له أو ساعده.
ووثيقة أخرى تدل على العدالة القضائية اذ يستدل في تلك الوثيقة على أن المحاكم السومرية لم يكن يحق لها أن تصدر حكماً على شخص يرفع أمره إليها ما لم يكن حاضراً المحاكمة أو بلغ بالحضور فلم يحضر(19).
بناءً على ما تقدم فان الأصول القديمة لفكرة حقوق الإنسان يمكن أن تلاحظ بصورتها البدائية مع ظهور التشريعات العراقية القديمة والإصلاحات المالية والاجتماعية التي شهدها العراق القديم فلا يمكن الحديث عن الحقوق والواجبات ضمن المجتمع إلا في ظل القانون أو الأعراف المطبقة من جانب البشر، وقد عبر العراقيون القدماء بشكل أو بآخر عن فهم لهذه الحاجة الإنسانية فشرعوا القوانين التي كفلت لكل الأطراف حقوقها ضمن الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البشري في ذلك الوقت، وإذا كانت المجتمعات القديمة الأخرى قد سنت بدورها قوانين خاصة بها وطبقت أعرافاً اجتماعية في علاقات أطرافها فانه مما لا شك فيه أن هاجس العدالة كان مسيطراً على المجتمع العراقي القديم بشكل متميز عن بقية المجتمعات القديمة، ومن ثم فان الأصول البدائية والأفكار الأولية لجوانب من مفهوم حقوق الإنسان كان معروفاً في المجتمعات العراقية القديمة وهو ما عبرت عنه القوانين التي طبقت في ذلك الزمان بشكل أو بآخر.
كذلك يتعرض الأستاذ جاكوبسن في بحثه الموسوم (الديمقراطية في بلاد ما بين النهرين) والدكتور عامر سليمان في كتابه الموسوم بالقانون في العراق القديم إلى جانب مهم يتعلق بالبحث المتقدم اذ يشير الكاتب الأخير إلى أن التناقض بين الحكم الديكتاتوري المطلق الذي تميزت به ممالك العراق القديمة في الآلف الثاني قبل الميلاد، وبين وجود بعض المظاهر الديمقراطية فيها حمل العلامة جاكوبسن على دراسة الأساطير الدينية، والملاحم والقصص السومرية والأكدية للتعرف على الحال الذي كان عليه العراق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد وما قبل هذا التاريخ، وقد انتهى هذان الكاتبان وغيرهما إلى أن الحكم في بلاد ما بين النهرين يستحق أن يوصف بالديمقراطية البدائية، فقد كانت آلهة أولئك السكان القدماء مقيدة بقرارات مجلسها وكان لذلك المجلس صلاحيات دينية وعقابية معينة لتحديد الآجال ومحاكمة الإنسان على ارتكابه ما يغضب الآلهة، وانتخاب أحد الآلهة ليكون رئيساً، ومنحه السلطة المطلقة في حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية وإسباغ الصفة الملكية على إنسان ليحكم باسم الآلهة على الأرض، وخلع تلك الصفة عنه، كما أكد هؤلاء على أن الغاية من تخويل السلطة الملكية لإنسان على الأرض هي بهدف حماية الحقوق الأزلية التي خلق الكون بموجبها، وهذه حقائق تحكم الآلهة والبشر، أما السبيل إلى ذلك فنشر العدالة وإصدار القوانين ومراقبة حسن تطبيقها فان صدق كل ذلك فان أولئك القدماء هم أول من رسم مخططاً بدائياً للديمقراطية والعدالة وفلسفة القانون، وأول من ذهب إلى وحدة القانون العادل في السماء وعلى الأرض بين الآلهة وبين البشر(20).

ضمانات تحقيق العدالة
أما ضمانات تحقيق العدالة في حضارة وادي الرافدين فيمكن ردها إلى مبدأ خضوع الحكام لسيادة القانون، والقانون، والقضاء. فمبدأ خضوع الحاكم لسيادة القانون كان ولا يزال يعد من المبادئ الأساسية لتحقيق العدالة وهو من أهم الأهداف التي تسعى الدول إلى تحقيقها في الوقت الحاضر إذ تتحقق فكرة المساواة في جانب منها يتحقق المبدأ المذكور، وهو يعني خضوع السلطة إلى جانب الأفراد إلى حكم القانون الصادر عن الدولة والدولة التي يخضع فيها الأفراد والحاكم لحكم القانون يطلق عليها تسمية الدولة القانونية على أن خضوع الحاكم يكون بالاستناد إلى التقييد الذاتي، ومن ثم فان هذا الخضوع من جانب الحاكم للقانون يختلف عن خضوع الأفراد له، ويبدو أن هذا المبدأ كان معمولاً به بشكل أو بآخر في العراق القديم فإذا كان الملوك هم الذين يصدرون القوانين وإذا كانت أوامرهم وكلماتهم هي القانون فان خضوع سلطانهم كان مقيداً بقواعد العدالة فالقواعد الدينية والعرفية والقانونية كلها شكلت قيوداً على سلطة الحاكم، فالتزام الملك بضمان وتحقيق العدالة كان يعد من أبرز الأمور التي تقود إلى ازدهار مملكته وهناك نص من أدب الحكمة تضمن النصائح الموجهة إلى الحاكم إذ تلزمهم بتحقيق العدل بين المواطنين ويعود تأريخه إلى العصر الآشوري الأخير (911-612 ق.م) إذ جاء فيه (أن الملك إذا لم ينشر العدالة …. وإذا لم يستمع إلى نصح مستشاريه، فان حياته ستكون قصيرة وان رعيته ستثور عليه وان مملكته ستتهاوى).
ويبدو أن الحكام قد طبقوا شيئاً أو أشياء مما تغنوا به من أفكار عن العدالة ففي زمن حمورابي أرسل بعض الأفراد رسائل يشكون من تجاوز بعض الموظفين على حقولهم وأموالهم دون وجه حق فأرسل حمورابي إلى حاكم المدينة يخبره أنه أخذ من المدعي أرضه التي يمتلكها منذ ثلاث سنوات، كما سأله عن سبب أخذه للمحصول من الرجل وأمره بقراءة لوح التعليمات وإرجاع الحقل وغلتها طبقاً لهذه التعليمات. كما توجد وثيقة هامة أخرى إذ تشير سابقة حدثت قبل 3400 عام في مدينة نوزي (Nuzi) القديمة وهي تبعد حوالي عشرة أميال عن مدينة كركوك الحالية إلى مبدأ سيادة القانون من جهة التطبيق فقد سيق حاكم هذه المدينة المدعو (كوشي – حارب) إلى المحكمة لمحاكمته عن التهم التي وجهت إليه بأخذ الرشوة والغش وهتك العرض، وقد استمع القضاة وهم ثلاثة إلى دفاع الحاكم المتهم الذي كانت الأدلة ضده، إذ حضر مجموعة من الشهود وكان من بينهم أحد أعوانه فلم يجرأ الحاكم على نفي تلك التهم وأدين بهذه الجرائم ونال العقوبة القانونية عليها(21).
أما القانون بوصفه من ضمانات تحقيق العدالة في العراق القديم فهو يعد الوسيلة الأكثر ثباتاً في تحقيق هذا الهدف إذ انها كانت أشبه بتقارير ملكية موجهة إلى الآلهة، وتتضمن القضايا التي فصلت فيها المحاكم التابعة للملك والدولة واتخذت بخصوصها قرارات عادلة لتثبيت عدالة الملك واستقامته أمام الآلهة. ودراسة جانب من القوانين العراقية القديمة يظهر الهاجس الذي ظل مسيطراً على المشرع في بلاد ما بين النهرين وحلمه بتحقيق العدالة فعلى سبيل المثال أخذت القوانين في وادي الرافدين بمبدأ عدم التعسف في استعمال الحق الفردي، وهو مبدأ يستند إلى اعتبارات العدالة كما نصت المادة 137 في شريعة حمورابي على أن ضرورة التزام الزوج الذي يطلق زوجته التي أنجبت له أولاداً، أن يتنازل لها عن نصف ثروته لكي تقوم بتربية أولادها كما نصت المادتين 168 و 169 على عدم جواز حرمان الوارث ورثته من التركة، ولا إنقاص نصيب أي منهم ما لم يرتكب الوارث خطأ جسيماً، وتقدير الخطأ الذي يسمح للوارث حرمان ورثته من التركة يخضع لرقابة القضاء فلا يجوز للمورث حرمان ورثته من التركة إلا بعد صدور قرار قضائي وأن يكون ذلك الخطأ قد حدث منه للمرة الثانية(22).
كما ثبت قانون اشنونا المبدأ الذي يقضي بالتعويض عن الضرر الذي يلحقه الجاني بالمجني عليه بما يتناسب مع جسامة الضرر إذ نصت المادة (45) من القانون المذكور على أنه (إذا قطع رجل إصبع رجل آخر فانه يؤدي غرامة ثلثي المنا من الفضة) كما نصت المادة (47) على أنه (اذا كسر قدمه فانه يدفع غرامة نصف مناً من الفضة).
ومن الأحكام التي سعت إلى ايجاد نوع من الحقوق القائمة على التضامن الاجتماعي ما جاءت به شريعة حمورابي التي تجعل المدينة وحاكمها الجهة المسؤولة عن تعويض الضرر الذي يتعرض له الأفراد بسبب ارتكاب جريمة سرقة ضدهم، وعدم تمكن السلطات المختصة من التوصل إلى معرفة الفاعل، وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة قتل ولم يتم التعرف على الفاعل فعلى المدينة دفع دية إلى أقرباء القتيل.
وعند هذا الحد يشير أحد الكتاب إلى أنه لا يعرف تشريعاً قديماً أو حديثاً يتضمن مثل هذا المفهوم المتقدم الذي يستهدف تحقيق نوع من التضامن الاجتماعي القائم على تحمل السلطة العامة المسؤولية في حماية المواطنين وأموالهم، ويعرف هذا المفهوم في العصر الحديث بنظرية الضرر الاجتماعي ولم يتم تطبيقها حتى الوقت الحاضر إلا في حدود ضيقة اقتصرت على التأمين الصحي والعجز. وهنا يقيِّم ول ديورنت في كتابه قصة الحضارة الإنجاز المتقدم إذ يقول (هل ثمة في هذه الأيام مدينة بلغ صلاح الحكم فيها درجة تجرؤ معها على أن تعرض من تقع عليه جريمة بسبب إهمالها مثل هذا التعويض، وهل ارتقت الشرائع حقاً كما كانت عليه أيام حمورابي أو أن كل الذي حدث لها أنها تعددت وتضخمت)(23).
أما القضاء وهو الضمانة الثالثة من ضمانات تطبيق القانون في بلاد الرافدين فضلاً عما أشرنا إليه فيما تقدم من أمثلة تؤكد على دور القضاء في تحقيق العدالة فان القضية التي نظر فيها في مدينة نفر تظهر وجود نوع من المحاماة في العراق القديم وأن لم يكن يوجد قانون ينظم هذه المهنة في ذلك الوقت إذ عرفت بابل طبقة من الحكماء كانت تقوم بالدفاع عن الغير والمطالبة بحقوقهم ويطلق عليهم وكلاء الغير وكانوا يتمتعون بمنزلة اجتماعية رفيعة وكان الملك يختار القضاة منهم وكان لحمورابي دور مهم في نقل القضاء كمهنة سامية من إطار المعبد حيث كان يقوم به الكهنة إلى قضاة مدنيين وان كانت هذه الخطوة قد سبقت حمورابي في العراق القديم وكان القضاء يحاول التخفيف من شدة القانون الصارم(24).

المطلب الثاني
حقوق الإنسان في الحضارتين اليونانية والرومانية
في إطار الوضع العام لحقوق الإنسان في الحضارات الأوربية القديمة فإن التعرض للموقف من هذه المسألة على المستوى النظري والتشريعي من خلال المدارس الفلسفية التي ظهرت في تلك البلاد والقوانين التي شرعت من الحكام والمشرعين هو أمر يمكن أن يوضح لنا الموقف من حقوق الإنسان ويبرز الصورة من هذه المسألة فإذا كان اليونانيون قد نجحوا في ميدان الفكر فإن الرومان قد أسسوا إمبراطورية مترامية الأطراف، فكيف كان يعيش الإنسان في تلك الفترة ؟ وما هو التنظيم القانوني الذي خضع له في تلك المجتمعات؟
الفرع الأول – حقوق الإنسان في الحضارة اليونانية
في إطار الحضارة اليونانية فان البحث او التعرض لمسألة حقوق الإنسان وأصولها الأولى يمكن ان تتم عبر منفذين: الأول يخص التشريعات اليونانية القديمة، والثاني يرتبط بالمدارس الفلسفية اليونانية التي أكدت على بعض الأسس أو المبادئ الرئيسية التي تعكس رؤية محددة لموضوعات لها علاقة بفكرة حقوق الإنسان إلى حدٍ ما فبموجب قانون صولون الذي صدر عام 594 ق.م منح الشعب حق المشاركة في السلطة التشريعية عن طريق مجالس الشعب، كما جعل القانون للشعب حقاً في المساهمة بانتخاب قضاته، وقد حرر صولون المدينين من ديونهم وأطلق سراح المسترقين منهم ومنع استرقاق المدين والتنفيذ على جسمه كوسيلة لإكراهه على الوفاء بالدين وقضى على نفوذ أرباب الأسر عن طريق تفتيت الملكيات الكبيرة(25).
والحقيقة أن المواطن الأثيني كان دائم الاهتمام بالشؤون العامة والمشاركة فيها دون قيد أو شرط اذ استطاعت أثينا أن تتغلب على قضية حق الفرد الواحد في الحكم والسياسة العامة والاقتصاد ونظرت إلى قضية حق المواطن في الحرية والحياة بشكل متطور عن الحضارات السابقة، فقد كان الإنسان محور الحياة وهذه هي الفترة التي امتدت بين صولون وبركليس(26) إلا ان المسالة بدأت تتغير بعد بركليس، فهذا الحاكم الذي حكم أثينا اعتباراً من عام 444 ق.م إلى عام 429 ق.م تمتع المواطنون أثناء حكمه بحق المساواة في حرية الكلام والمساواة أمام القانون كما أخذت الديمقراطية الإغريقية شكل الديمقراطية المباشرة التي تقوم على أساس فكرة مزاولة المواطنين للسلطة بأنفسهم دون أن يوكلوها إلى من يمثلهم(27)، وهكذا يعتبر بركليس خير من دافع عن النظام الديمقراطي في أثينا حيث أكتسب مكاناً بارزاً بين قادة الفكر الديمقراطي بسبب إصلاحاته ونجاحه في إدارة شؤون دولة المدينة وتخطيط سياستها العامة، فالديمقراطية كما طبقتها أثينا كانت تقوم في نظر بركليس على الأسس الآتية:
1. المساواة أمام القانون، وهي مساواة مدنية وسياسية، فالكل يخضع للقانون والديمقراطية هي نظام الشرعية ونظام المساواة.
2. حرية الرأي، فالكل يقول رأيه بحرية فيما يخص المصالح العامة، ولا يوجد في النظام الديمقراطي وجهة نظر رسمية، إذ أن كل مواطن في دولة المدينة يستطيع إبداء رأيه ورأي الأغلبية هو الذي تلتزم به الدولة.
أما أخلاقيات الديمقراطية كما يؤكد عليها بركليس فإنها تتلخص في الأخوة بين المواطنين والتسامح وتقديم المساعدة إلى الضعفاء والفقراء.
وكان سكان دولة المدينة الإغريقية ينقسمون إلى ثلاث طبقات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى من الناحيتين السياسية والقانونية، إذ كان هناك طبقة المواطنين الذين لهم حق المشاركة في الحياة السياسية للمدينة وفي الشؤون والوظائف العامة، أما الطبقة الثانية فهي طبقة الأجانب المقيمين في المدينة، وهي محرومة من المساهمة في الحياة السياسية برغم كون أعضائها أحرارا، أما طبقة الأرقاء فتأتي في أدنى السلم الاجتماعي، فقد بقي الاسترقاق مشروعاً عند الإغريق وربما كان ثلث سكان أثينا من طبقة الأرقاء، وهذه الطبقة لا تدخل في حساب المدينة الإغريقية مطلقاً وكان الرقيق ملكاً لسيده وشيئاً من أشيائه، ولقد دعا ارسطو صراحة إلى أن يخصص المواطنون أنفسهم للشؤون السياسية تاركين كل الأعمال اليدوية للأرقاء، أما افلاطون فلا يقول شيئاً عن نظام الرق حيث يتحدث عن نظريته في الملكية الفردية ولكن يبدو أنه لم يقصد إلغاء نظام عالمي في ذلك الوقت هو نظام الرق دون أن يذكر ذلك صراحة.
عليه يمكن القول أن مسألة حقوق الإنسان لم تبلغ شأواً كبيراً عند الإغريق وهذا أمر يرجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية اشتركت فيها الحضارات القديمة عموماً ولكن بعض الفلاسفة الإغريق انتقد مع ذلك التقاليد القائمة والقوانين النافذة في المجتمع والتي تقصي العبيد والأجانب فقد اثر عن بعض هؤلاء قوله (اننا جميعاً متساوون في الميلاد وفي كل شيء إننا جميعاً نستنشق الهواء من الفم والأنف)، ولقد جاء في بعض النصوص على لسان أحد الأرقاء (أنني يا سيدي وان أك رقيقاً، اعد أنسانا مثلك، ولقد خلقنا من لحم واحد، فليس هناك من هم أرقاء بالفطرة).
وقد أنكر يوريبيدس صحة الفوارق الاجتماعية القائمة على أساس المولد حتى بالنسبة للرقيق إذ قال (ان هناك أمراً واحداً يجلب العار على الأرقاء وهو الاسم ولا يفضلهم الأحرار فيما عدا ذلك الشيء، فكل منهم يحمل روحاً سليمة).
أما السفسطائيون فقد أنكروا بدورهم أن الرق ونباله المولد أمران طبيعيان وقد نسب إلى واحد منهم قوله ان الله خلق جميع الناس أحرارا ولم يجعل أي واحد منهم عبداً، بل وقد أنكر السفسطائي أنطيفون في القرن الخامس قبل الميلاد وجود أي فارق طبيعي بين الإغريق والبرابرة(28).
وكان للسفسطائيون وجهة نظر من فكرة العدالة تربط بين العدالة وبين مصلحة الأقوى، وهذا معناه أن السفسطائيون لهم موقف من فكرة العدالة ذات الطابع الثوري فهم يشيرون إلى الصلة بين العدالة القائمة في كل دولة وبين ما تقدره الطبقة الحاكمة من مصالح اقتصادية واجتماعية تملي على المشرع تشريعه، فان الأقوى هو الدولة وحيث أن الدول متنوعة فان معنى العدالة بعيد عن الثبات بل هو في الدولة الديمقراطية ديمقراطي وفي الدولة المستبدة يحمي القانون مصالح الطبقة المستبدة.
أما افلاطون 427-347 ق.م فقد قبل مذهب المحافظين من هذه الفكرة القائم على فكرة الثبات في العدالة فهو يعتقد أن من أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلا من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره ومن ثم فان أحداً لا ينبغي ان يتعدى على ما يمتلكه الغير أو يحرم مما يمتلكه هو…. إن العدالة إنما هي ان يمتلك المرء ما ينتمي إليه فعلاً، ويؤدي وظيفته الخاصة به .. ان التعدي على وظائف الغير والخلط بين الطبقات الثلاث يجر على الدولة في نظر افلاطون أوخم العواقب بحيث ان المرء لا يعد الصواب اذ عد ذلك جريمة.
وهذا الموقف الافلاطوني من العدالة التي وضع لها حدوداً طبقية واضحة لا يسمح بتخطيها فتعرض بذلك لنقد القائلين بحرية العمل(29).
أما ارسطو فالحقيقة أن موقفه يستدعي الكثير من التأمل من مسألة الرق على وجه الخصوص فهو يتساءل فيما إذا كانت الطبيعة تعد اناساً أرقاء فيصبح الرق بالنسبة إليهم إجراءً مشروعاً ومناسباً وهو يجيب بالإيجاب فلا مناص طبقاً لرأيه من وجود فئة حاكمة وأخرى محكومة، فالأعلى منزلة يجب أن يحكم الأوطأ منزلة منه، والطبيعة، عادة تهب بدناً قوياً للرقيق بينما تودع في جسد الحر عقلاً أرجح وفكراً أنضج، ومن ثم يصبح الإنسان الحر مهيئاً لان يحكم تأسيساً على قاعدة الفكر يحكم البدن، ويقف ارسطو ضد مبدأ المساواة في الحقوق الطبيعية فهو يعتقد أن الطبيعة قد ميزت البعض بالعقل ووهبت آخرين القدرة على استعمال أعضاء البدن فالطبيعة تجعل أجسام الأفراد الأحرار مختلفة عن أجسام العبيد فتمد العبيد بالقوة اللازمة للقيام بالأعمال الشاقة بينما خلقت أجسام الأحرار بطبيعتها غير صالحة لأن تحني قوامها المستقيم للقيام بمثل تلك الأعمال الشاقة إذ أن الطبيعة تعد الأحرار لوظائف الحياة المدنية فحسب.
وتبدو صرامة موقف هذا الفيلسوف من فكرة الرق جلية وواضحة إذ يؤكد ان السبب الوحيد لانتفاع السيد بخدمات من يسترقهم هو معاونته على مباشرة الفضائل البشرية لا تنمية ثروته أو زيادة قوته، فان عجز السيد عن إدراك الفضل انتفى النفع الأصيل الذي يجنيه الرقيق من عبوديته، ألا وهو توجيه حياته توجيهاً مثمراً بفضل خضوعه لمن هو أفضل منه، وهنا تنفصم العلاقة بين التابع والمتبوع وقد واجه ارسطو نتيجة هذه النظرة نقداً شديداً خاصة وهو صاحب الفكرة التي تؤكد ان (من الأرقاء من هم أهل للحرية وان من الأحرار من يستحق الرق) والحقيقة أنه في أواخر حياته قد وضع بعض الشروط التي تكفل إدخال بعض الإصلاحات على حالة الرقيق فقد نادى بضرورة معاملة الرقيق معاملة حسنة، وبان يمد له الأمل في منح الحرية يوماً كما نصح بعتق الأرقاء وقرر في وصيته عتق عبيده(30).
أما المدرسة الرواقية وهي إحدى المدارس الفلسفية التي أسسها الفيلسوف زينو الفينيقي أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد فقد كان لها موقف كذلك من بعض الأفكار العامة المرتبطة بحقوق الإنسان وإذا كان من الصعب اعتبار المدرسة الرواقية مدرسة إغريقية خالصة إذ أنها في حقيقة الأمر قد عكست التفاعل بين الشرق والغرب الذي ظهر نتيجة فتوحات الاسكندر المقدوني فجميع مفكري هذه المدرسة كانوا من خارج بلاد الإغريق، فالرواقيون الأوائل سوريون في غالبيتهم، والرواقيون المتأخرون من الرومان، وهذه المدرسة أكدت على مبدأ الأخوة الإنسانية، فالأفراد كمخلوقات عاقلة هم أساسا متشابهون أو متماثلون ويخضعون جميعهم إلى القانون الطبيعي ولهم حقوق متساوية كما آمن الرواقيون بمبدأ المساواة في رفع المستوى الأخلاقي وهم بذلك لا يتفقون مع افلاطون وارسطو بشأن وجود تباين بين الأفراد بسبب الجنس أو المواطنة فالعبد طبقاً لأفكارهم إنسان ولا يوجد عبد بالطبيعة، بل انه إنسان يجب معاملته من منطلق أنه عامل مستأجر مدى الحياة، ومع ذلك فان الانتقاد الذي يوجه إلى المدرسة الرواقية أنها قسمت البشر إلى عقلاء وحمقى وهذه التفرقة لا تقل قسوة وشدة عن تقسيم الإغريق العالم إلى إغريق وبرابرة فليس هناك ما يمنع من تعميم أي الصفتين- العقل والحمق على شعب دون آخر بأسره(31).
أولاً: تقييم مفهوم الحقوق والحريات العامة في أثينا
لا يمكن إنكار أن الديمقراطية المباشرة قد وجدت لها أرضاً خصبةً في أثينا، فقد تم الأخذ بمبدأ السيادة الشعبية إلا أن فكرة الشعب لم تكن تعني جميع المواطنين المكونين لشعب المدينة لكن المقصود بفكرة الشعب هو مجموع المواطنين الذكور، وبذلك حرم النساء والعبيد من المشاركة في ممارسة السلطة.
إن أسلوب الديمقراطية المباشرة الذي أخذت به أثينا كان يعني أن الشعب يحوز كل السلطة ويمارسها بنفسه فضلاً عن أن سلطة الشعب كانت مطلقة ولم تتمتع الحقوق والحريات بأية ضمانات في مواجهة هذه السلطة. والحقيقة أن مفهوم الحرية كان مختلفاً عن مفهومها في الديمقراطيات المعاصرة إذ أن الحرية عند قدماء الإغريق لم تكن تعني حرية الفرد، وإنما هي حرية المواطن باعتباره عضواً في المجتمع التي تسمح له أن يساهم في الشؤون العامة للمدينة دون أن يكون للأفراد الحريات المدنية الحديثة مثل الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية العقيدة، وانطلاقاً من هذا المفهوم الأثيني للحرية كان المواطن في مدينة أثينا يتمتع بمجموعة من الحقوق السياسية المتمثلة بالعضوية في جمعية الشعب، وحق تولي المناصب العامة، فضلاً عن تمتعه بحرية التفكير وحرية إبداء الرأي، وعلى ذلك لم يكن المواطن الأثيني يعرف الحرية الفردية الحقيقية نظراً لتمتع الدولة بسلطات واسعة وشاملة وعدم وجود ضمانات للأفراد في مواجهة دولة المدينة.

والجدير بالذكر أن أثينا لم تأخذ بفكرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما هي معروفة اليوم، على الرغم من أن بركليس قد اعتبر مساعدة الضعفاء والفقراء اقتصادياً من القواعد الأخلاقية التي يجب أن تفخر بها أثينا.
كذلك فقد عرفت أثينا نظام الإبعاد وبموجبه كان يجوز لجمعية الشعب أن تقوم بطرد أي مواطن خارج أثينا إذا ما ثبت أن لهذا المواطن أطماعاً خطيرة، أو كانت له شعبية قد تؤدي إلى الاستبداد، ونظام الإبعاد بهذا الشكل وإن كان يمثل ضمانة ضد الاستبداد، إلا أنه يتضمن في نفس الوقت اعتداءاً على حرية المواطن المبعد، وفي كل الأحوال فإن الحقوق والحريات التي تمتع بها المواطن في مدينة أثينا لم تكن تمثل قيداً على سلطة الدولة إذ أنها كانت عبارة عن حقوق أو حريات في مواجهة المواطنين بعضهم البعض، أما بالنسبة للدولة فكانت تستطيع أن تنكر هذه الحقوق والحريات إذ لم تكن هناك ضمانات مقررة لمصلحة الأفراد في مواجهة الدولة التي كانت تتمتع بسلطات شاملة قِبَلْ المواطنين ولا يحدها إلا قيد واحد هو معاملة المواطنين جميعاً على قدم المساواة، وهذا ما يتم بإعلاء كلمة القانون وخضوع الجميع لأحكامه وبهذه الطريقة كانت تتحقق الحرية والمساواة في أثينا.
الفرع الثاني – حقوق الإنسان في الحضارة الرومانية .
شهدت روما بعض المحاولات المحدودة في سبيل الحرية والمساواة وإذا كان القائمون بهذه المحاولات قد نجحوا في الحصول على جانب من هذه الحقوق فان هذا لا يعني مطلقاً ان الإمبراطورية الرومانية قد شهدت عصراً تمتع فيه الفرد بكامل حقوقه وحرياته تجاه الدولة التي كانت مسيطرة تماماً على الشؤون المختلفة في الحياة، وقد دوّن الرومان العادات والتقاليد والأعراف المرعية في قانون الألواح الاثني عشر 450 ق.م لكي تثبت وتستقر ويتساوى الجميع في معرفتها والخضوع لاحكامها واخذ الرومان ينادون بصورة تدريجية بحرية العقيدة في المسائل الدينية كما أن الفقهاء الرومان قد نظروا إلى الرق نظرة غير مشجعة، ورأى بعضهم أن نظام الرق مضاد للطبيعة، وقد أكد (اولبيان) أنه لا يجوز في القانون الطبيعي ان يولد الناس إلا أحراراً وان العبيد وان عدوا موجودين في نظر القانون الوضعي فانهم ليسوا موجودين في نظر القانون الطبيعي الذي يقرر ان الناس جميعاً متساوون(32).
ان المحاولات المتقدمة وان كانت تمثل خطوة في الإمبراطورية الرومانية باتجاه تنظيم الحياة فان واقع المجتمع والدولة في روما كان يتناقض تماماً مع الأفكار الحقيقية لحقوق الإنسان حتى في مفهومها البدائي فما كان يدور من قتل لحقوق الإنسان في روما واهدار لكرامته يمثل جانباً من مظاهر تلك الدولة وعلامة بارزة تعكس جانباً مهماً من طبيعة المجتمع الروماني. وبهذا المعنى يؤكد لويس ممفورد في كتابه تاريخ المدينة على انه لابد للمرء من ان يمر بأقسى تجربة عندما يمر بروما، إذ عليه (ان يسد انفه من الروائح الكريهة، ويصم آذانه عن صرخات الألم والفزع، ويغلق فكه حتى لا يتقيأ ما في جوفه، وفوق كل شيء يجب ان يحتفظ المرء بعواطف باردة، فيصر في غلظة رومانية حقه كل باعث على اللين والشفقة، وذلك لأن كل أنواع التضخم سوف تنشط أمامه في روما وليس الانحطاط والشر أقلها ضخامة)(33).
من جانب آخر اعتقد المشرعون الرومان ان الطبيعة جاءت بمبادئ محددة يجب أن تعبر عنها القواعد القانونية الوضعية، فالقانون الطبيعي طبقاً لما ذهب إليه هؤلاء، هو المفسر لمبادئ العدالة العامة باعتبارها المبادئ الطبيعية الخالدة التي تحتم احترام الاتفاقات وتنسجم مع قيم العدالة في المعاملات بين الأفراد وحماية القاصرين من الأطفال وحماية النساء والاعتراف بالمطالب التي تقوم على صلات الدم والقرابة، وأدت هذه المبادئ إلى ظهور تنظيم قانوني حطم سلطة الأب المطلقة على ابنائه، ومنحت المرأة المتزوجة مركزاً قانونياً يقترب من حقوق الزوج فيما يتعلق بإدارة الأملاك أو تربية الأطفال(34).
أن من ابرز المفكرين الذين اهتموا بجوانب عامة ترتبط بفكرة حقوق الإنسان وعاشوا في الفترة الرومانية هو شيشرون 106-43 ق.م وسنيكا 4ق.م– 65م فشيشرون اسهم في الحوار حول القانون الطبيعي، وهو يرى انه مرادف للعقل وان العالم هو عالم واحد له قانون واحد صالح لجميع الأمم وفي مختلف الأوقات لانه ذو طبيعة واحدة وان غاية هذا القانون تحقيق العدالة والفضيلة مادام قد أنبثق عن طبيعة إلهية عادلة وفاضلة، وان الأفراد متساوون في ظل هذا القانون جميعاً بالحقوق القانونية وبالمساواة أمام الله وأمام قانونه الأعلى وهو ما تبناه الفكر المسيحي بعد ذلك، وكان هدف شيشرون من كل ذلك إعطاء الأفراد شيئاً من الكرامة التي هي من أهم حقوق الإنسان، فحتى العبيد يجب ان يكون لهم حصة منها لانهم ليسوا مجرد آلات بشرية حية كما يذكر ارسطو يستخدمها السادة لغرض الإنتاج(35).
أما سنيكا فعبر عن الفكر الرواقي في السنوات الأولى من العصر الإمبراطوري وكانت أفكاره تعبر عن صبغة دينية واضحة وكان يعتقد ان الطبيعة هي التي تقدم الأساس الذي يعيش في ظله الأفراد واقر بمبدأ المساواة الإنسانية إذ ان الاختلافات بين السيد والعبد هي مسألة اصطلاح قانوني وان الحظ السيئ وحده الذي يجعل الإنسان عبداً، وعليه فقد رفض سنيكا كما رفض شيشرون والرواقيون الأوائل ادعاء ارسطو ان البشر غير متساوين بالطبيعة.
من جانب آخر فقد ادعى سنيكا أن الاعتماد على الطاغية يعد الخيار الأفضل إلى حدٍ كبير من الاعتماد على الجماهير، إذ ان جمهرة الشعب هي من الشر والفساد بحيث تغدو أكثر قسوة من الحاكم الطاغية(36).
أخيراً يمكن القول بأن الآراء التي نادى بها كل من شيشرون وسنيكا على وجه العموم قد ظلت الأساس الذي قاد إلى ظهور الأفكار الأولى بهذا الخصوص لآباء الكنيسة عبر فكرة المساواة العامة والأفكار الإنسانية والثورة على الدولة عند سنيكا والقول بوجود قوة فعالة تحاول تصحيح مسيرة الحياة وتخليصها من الشر على وجه الأرض(37).


تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها الأولى وموقف المسيحية منها
إذا كانت القوانين والمدارس الفلسفية القديمة قد تعاملت بشكل أو بآخر مع أفكار المساواة والعدالة حيث كان للعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الدور في إظهار مواقف معينة لتلك التشريعات والمدارس فان أمر تقييم بعض هذه الجوانب أو الأفكار يمكن ان يساعد على فهم الحال بشكل أفضل كما أن التطرق لموقف المسيحية من هذه المسألة يساهم في إسدال الستار على مرحلة تاريخية مهمة حول الموقف من بعض الأصول الفكرية التي تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان.
المطلب الأول
تقييم فكرة حقوق الإنسان في جذورها التاريخية الأولى
إن الأسس العامة التي تبرر المجاهرة بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا تخرج عن مفاهيم العدل والحرية والمساواة وإذا كنا قد تعرضنا لمفهوم حقوق الإنسان من خلال التشريعات ومواقف بعض الفلاسفة والمدارس الفكرية التي ظهرت في العصور الأولى فانه يحق لنا أن نتساءل عن القيمة الحقيقية للأفكار التي طرحناها، وهذا يس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 2:53 pm

الفصل الثاني
حقوق الإنسان في الإسلام
سنتعرض في هذا الفصل الى المقصود بحقوق الانسان في الاسلام من حيث النظرية والتطبيق، وفي المراحل المختلفة التي مرت بها الدولة الاسلامية. فما هي الأسس التي تقوم عليها فكرة حقوق الانسان في الاسلام؟ وهل تتفق هذه الأسس مع الأسس العالمية التي ظهرت في العصر الحديث وهي تمثل بشكل أو بآخر هاجس الانسان الأول في تحقيق العدالة؟ فكيف حدد الاسلام حقوق الانسان كفرد وكعضو في الجماعة؟ وما هي المعادلة التي طرحها الاسلام لإخضاع الدولة للشريعة التي هي بمثابة القانون في الدولة الحديثة؟ ثم ما هي تفاصيل الحقوق الاساسية التي اعترف الاسلام بها للانسان؟
أن ما تقدم من تساؤلات يمكن البحث فيها والإجابة عنها من خلال دراسة الأسس الفكرية التي طرحها الاسلام لحقوق الانسان، والتطرق لمبدأ خضوع الدولة الاسلامية للقانون أو الشريعة، ثم البحث في تفاصيل الحقوق والحريات الاساسية التي أقر الاسلام بها للانسان.

المبحث الأول
المنطلقات الأساسية لحقوق الانسان في الاسلام

أن الكلام في هذا العصر كثير عن مبادئ حقوق الانسان وأن تعداد هذه الحقوق الاصلية والجزئية لا حصر لها، وإذا كان من الضروري فهم المقصود بحقوق الانسان في الاسلام بصورة صحيحة فإن البداية يجب أن تكون من المنطلقات الفكرية التي تمثل الجوهر أو الأساس لفكرة حقوق الانسان فهذه هي الخطوة الأولى باتجاه دراسة تفاصيل هذه الحقوق، وقبل ذلك معرفة موقف الدولة الاسلامية من هذه المسألة.

المطلب الأول
الأساس الإسلامي لحقوق الانسان
ترتكز مفاهيم حقوق الانسان في الشريعة الاسلامية على طابع الضرورة المؤسس على العقيدة، وهو طابع يقوم على ضمان معنى الإنسانية، فالإسلام دين عالمي ولم يرسل النبي محمد (ص) للعرب فقط فدعوته جاءت للناس جميعاً، وقد انطلق الاسلام من قاعدة أساسية ثابتة فيما يتعلق بحقوق الانسان، وهي أن أصل الانسان واحد ومصيره واحد. قال تعالى(ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين)المؤمنون، 12.
وقد تبنى الاسلام في نظرته للأمور كافة فلسفة وسطية حيث الاعتدال أبرز ملامحها، بمعنى مجانبة الإفراط والشذوذ والتفكك والتفريط والمبالغة والتسيب بل يقوم على الاتزان. قال تعالى(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) البقرة،143 (1)، وينظر الاسلام الى الانسان باعتباره أغلى الكائنات وأعظمها طالما كان مخلصاً لله تعالى الذي سخر له الكون ليحقق له السعادة. قال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية13. والحقيقة ان تكريس الكون بما فيه للانسان إنما هو تكريم له من الله تعالى ومن تفضيل الله للانسان ان جعله خليفة في الأرض لما تمتع به من الطاقات والقدرة والاستعداد للقيام بمهام المسؤولية في الحكم. قال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة،30 .

مما تقدم يبدو جلياً أن الأساس الاسلامي لحقوق الانسان إنما يقوم على التكريم الإلهي للانسان فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ومحور الرسالات السماوية وله سجدت الملائكة وفضل على سائر المخلوقات وسخر له ما في الكون، وقد شرع الاسلام الكثير من الأحكام وبيّن الحقوق والواجبات في جوانب الحياة المختلفة وإلزام المسلمين أداءها والوقوف عندها، والتقيد بها فقال تعالى ( تلك حدود الله فلا تقربوها)، فالحدود هي الفواصل بين الحقوق والواجبات والأوامر والنواهي والحق والباطل، ومن ثم فإن الأساس في الاسلام لحقوق الانسان هو ما قرره الاسلام في تشريعاته وأحكامه وان هذه الحقوق هي منحة من الله تعالى ويمكن ان يعبر عن الأساس لحقوق الانسان في الاسلام بمبدأ (العبودية لله تعالى) فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالإسلام دين الفطرة وهو الحامي لها والمدافع عنها ومن مستلزمات هذا الحق أن يرعى كل فرد من الناس هذا الحق لأمثاله بمقدار ما يرعاه لنفسه ويكون هذا الحق الانساني المطلب الأساسي للناس جميعاً على مستوى الفرد والجماعات، ويرى آخرون أن حقوق الانسان في الاسلام تنبع من العقيدة وبشكل خاص من عقيدة التوحيد فالله الواحد خلق الناس أحراراً ويريدهم أن يكونوا أحراراً ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها، قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(2).
والحقيقة أن مدلول هذه العبارات واحد فحقوق الانسان في الاسلام تنبع من التكريم الإلهي له بالنصوص الصريحة وهو جزء من التصور الإسلامي لهذه المسألة القائمة في جانب مهم منها على العبودية لله تعالى وفطرة الانسان التي فطره الله عليها فكرامة الانسان هي الأساس لكل الحقوق الأساسية، فهي دليل إنسانية البشر وإذا كانت الكرامة الإنسانية هي المنبع لحقوق الانسان جميعاً فقد كانت هذه المسألة ولازالت غاية جميع القوانين والدساتير وعماد حياة الفرد الاجتماعية وهذا ما عبرت عنه المواثيق والإعلانات والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 أن(الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم)، أن ما تقدم يظهر أن حقوق الانسان مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالعقيدة الصحيحة وأن الإيمان بالله تعالى أولاً وبالشريعة المنزلة ثانياً هو مصدر الحقوق وأساسها(3).

أذن حقوق الانسان التي يقررها الاسلام هي في حقيقتها ليست منّةً من حاكم أو دولة أو اية جهة محددة وإنما هي حقوق أزلية فرضتها الإرادة الإلهية فرضاً كجزء لا يتجزأ من نعمة الله على الانسان حين خلقه في أحسن صورة وأكمل تقويم فحقوق الانسان في الاسلام موضوعة ومقررة سلفاً، وهي تتناسب مع كونه انساناً متميزاً على سائر المخلوقات إذ أوكل له دورٌ في الحياة مما يعني إعطاءه مقومات الحياة الكريمة.
إن الأسس التي تقوم عليها مفاهيم حقوق الانسان انما تجد اساسها في مفاهيم بنى عليها المسلمون حياتهم فمفاهيم العدل والحرية أساسية لتأسيس الافكار الخاصة بحقوق الانسان وقد جعل الاسلام من العدل اساساً للحكم. قال تعالى (ان الله يأمر بالعدل والإحسان) النحل،90، والعدل غاية في الاسلام الذي نادى بالحرية والمساواة ويختلف المفهومان عما هو عليه الحال بالنسبة للمدارس الغربية التي تنادي بالحرية الفردية على حساب المساواة أو المساواة على حساب الحرية الفردية، فالحرية والمساواة في الاسلام مقيدة وذلك بهدف تحقيق العدل العام المعبر عنه في الشريعة التي تنص على مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، والعدل ان يعطي الحاكم كل ذي حق حقه ويسمح الاسلام بدخول الافراد في سباق لتحقيق مصالحهم ولكنه يؤكد على ضرورة مساعدة الانسان لأخيه الانسان وعند عدم تحقيق هذه المساعدة تتدخل الدولة عندها، ومن ثم فان الشريعة تنص على تحريم القتل حفاظاً للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وتحريم الزنا حفاظاً للنسل، وتحريم السرقة حفاظاً للأموال، وتحريم القذف حفاظاً للعرض، وتحريم الخمر حفاظاً للعقل، ومعاقبة المرتد حفاظاً للدين وهذه كلها ضروريات تحقق العدالة الاجتماعية في جوانب اساسية منها، كما تقرر أحكام الاسلام المساواة بين افراد المجتمع وجعل التفضيل في العمل الصالح. قال تعالى ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(4) .
فتتميز حقوق الانسان وحرياته الاساسية في الاسلام بأنها ذو بعد أخلاقي عميق وهي ذات خصائص ثلاث
1- هي أنها منح ربانية الهية وليست منة من دولة أو حاكم.
2- انها شاملة من حيث الموضوع لكل الحقوق والحريات وعامة لسائر الجنس البشري، وبذلك فإن الشريعة الاسلامية تكون قد أدانت التفرقة العنصرية والنظم التميزية الأخرى على المستوى الوطني والمستوى الدولي.
3- انها كاملة وغير قابلة للإلغاء أو الوقف لمجرد ضيق الدولة أو الحاكم بمباشرتها لأنها جزء من الشريعة الإسلامية(5).

المطلب الثاني
حقوق الإنسان والدولة الإسلامية
في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش قرونها الوسطى وقد سيطر على حياتها السلطان المطلق للحاكم والدولة بحيث تلاشت أية ملامح لفكرة الشرعية أو خضوع الدولة للقانون، نشأت في الجزيرة العربية أول دولة قانونية أقامها الرسول محمد(ص) بعد هجرته الى المدينة وقد وطد دعائمها الخلفاء الراشدون، وكانت دولة قانونية بالمعنى المعاصر، دستورها القرآن الكريم، وعرفت مبدأ التدرج في القيمة القانونية لقواعد القانون التي تنظم العلاقات بين سلطات الدولة بعضها مع البعض الآخر، وبين الأفراد وتم الإقرار بالحقوق والحريات الفردية ووضعت القواعد التي تكفل احترام الدولة وخضوعها للقانون مثل مبدأ الفصل بين السلطات وتنظيم الرقابة القضائية وتقرير السيادة الشعبية في قاعدة المبايعة أي اختيار الشعب للحاكم ومراقبته وعزله، وبذلك يكون القانون قد أرسى دعائم الدولة القانونية لأول مرة في تاريخ البشر، فالرسول (ص) اقام دولته في المدينة وباشر فيها اختصاصات الرئيس الأعلى للدولة بالمعنى المعاصر، من اعلان الحرب، وعقد الصلح، وإبرام المعاهدات، ورئاسة الجهاز التنفيذي والقضائي، والخلاصة أنه ما من مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية أو بالشؤون الداخلية إلا وكان النبي يلجأ فيها الى الشورى فيما لا وحي فيه(6).
والدولة الاسلامية قائمة على دستور ديني هو القرآن الكريم حيث الشريعة الاسلامية هي عماد الدولة والسيادة في الدولة الاسلامية ليست للحاكم أو للمحكوم. قال تعالى(انا نزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)النساء،105، وقد أكد بعض الفقهاء على أن دور الحاكم المسلم لا يزيد عن كونه يراقب تنفيذ أوامر الله وعندما يتحقق ذلك فقد وجب على المسلمين طاعة الله ورسوله وأولي الأمر، فضلاً عما تقدم فإن الشرع الاسلامي هو صاحب السيادة في سياسة الدولة الخارجية فالحرب والسلم والمعاهدات خاضعة للشريعة وأحكامها.

والشريعة الاسلامية عند فقهاء المسلمين نظام عند الله سابق لوجود الفرد والمجتمع والدولة وذهب بعضهم للتأكيد على أن الاسلام أعفى كل شريعة سابقة عليه وما الدولة إلا منفذة لأوامر المشرع الاسلامي وفي حالة عجزها عن القيام بهذه المهمة فإنها ستفقد مكانتها كدولة وفي كل الأحوال يظل المؤمن ملتزماً بالقوانين الدينية حتى في غياب الدولة(7).
وهدف الدولة الاسلامية إنما يتجسد من خلال إقامة العدل واستتباب الأمن والاستقرار لسكانها بصرف النظر عن أشكالهم وألوانهم وعقيدتهم وأعراقهم. قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنك شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة،8-9 . وليس للحاكم في الدولة الاسلامية سيادة على الشعب فهو لا يزيد عن كونه موظفاً يختاره أبناء الأمة وهو يستمد شرعيته من طاعته للقوانين الاسلامية التي يخضع لها الحاكم والمحكوم معاً(Cool.
ومن هنا فإن الدولة الاسلامية إنما تقوم طبقاً للفكر الاسلامي على أسس قانونية أو شرعية ويكفي أن نشير هنا إلى هذه الحقيقة التي عبر عنها أحد الحقوقيين بقوله (أول دولة قانونية في الأرض يخضع فيها الحاكم للقانون، ويمارس سلطاته وفقاً لقواعد عليا تقيده ولا يستطيع الخروج عليها بما للأفراد من حقوق وحريات نص عليها الاسلام، ونظمها، وقرر الضمانات التي تكفل حمايتها ضد اعتداء الحكام والمحكومين على السواء، فالإسلام عرف فكرة الحقوق الفردية المقدسة التي تكون حواجز منيعة أمام سلطات الحاكم، عشر قرون، قبل أن يظهر على السنة فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السادس عشر، فمن الاسلام انتقلت فكرة الدولة القانونية الى مختلف النظم القانونية في العالم وهي الأفكار التي لولاها ما عرف العالم حقوق الانسان في أوربا في القرن السادس عشر بسبب المطالبة بحقوق الأفراد وحرياتهم نتيجة شيوع الأنظمة الاستبدادية الظالمة ونتيجة لها أصبحت السيادة تجد مصدرها في المجموع لا في فرد واحد، وهذه الفكرة بدورها ساهمت بالنتيجة في إبراز فكرة العقد الاجتماعي في نشوء الدولة، وهو العقد الذي انتقل بموجبه الأفراد من حياة الفطرة غير المنظمة الى العيش في مجتمع منظم غير أن الخلاف نشأ بين أنصار هذه النظرية بشأن تحديد مضمون هذا العقد الاجتماعي فمنهم من صوره باعتباره تنازل من الجماعة عن حقوقها السيادية لصالح الحاكم الذي اختارته وانتهوا الى المناداة بالسلطة المطلقة، في حين ذهب آخرون وبحق الى القول بأن السيادة غير قابلة للتصرف فيها، ومن ثم لا تملك الجماعة التنازل عنها للحاكم لكنها تفوضه ممارستها بالنيابة عنها وتحت مراقبتها وبشرط أن يكون الحق في مقاومته وإيقاع الجزاء عليه في حالة خرقه لنصوص العقد(9).
وفي الدولة الاسلامية ليس للحاكم سيادة على الشعب اذ أنه مجرد موظف يستمد سلطته من طاعته للشريعة الاسلامية وعلى الرعية مساعدته في الخضوع للشريعة فإذا تصرف الحاكم خلافها فالناس في حلٍ من ولائهم له ولعل في خطبة الخليفه أبي بكر تعبيراً واضحاً عن القضية حين قال (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن احسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني….. إلى قوله … أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)(10).
إن ما تقدم يعني أن ليس لرئيس الدولة الاسلامية أية قداسة شخصية يتميز بها عن أي مواطن عادي وسلوكه الشخصي كسلوكه الوظيفي عرضة للخطأ والصواب ويستوجب الحساب ولا خلاف بين المسلمين عموماً على أن رئيس الدولة في حالة إخلاله بواجباته يمكن عزله، ويجب عزله اذا قدر على ذلك، ولكن الخلاف ظهر فيما اذا لم يقدر على عزله فهل يجب الخروج عليه وخلعه بالقوة؟
أخيراً في حالة قيام ثورة ضده فإن من يقودها يصبح الرئيس الشرعي إذا انتصر على الأول وهؤلاء الذين قالوا بجواز الخروج والثورة. أما الذين رفضوا الثورة أو الخروج على رئيس الدولة في حالة إخلاله بواجباته لا حظوا في ذلك أمرين: الأول حرصهم على وحدة الأمة الاسلامية وتجنب الفتن إعمالاً للقاعدة الشرعية في تحمل الضرر الأدنى لتفادي الضرر الأكبر.
أما الأمر الثاني فهي السوابق التاريخية الثابتة ايام الصحابة والتابعين اذ امتنع الصحابة عن الخروج على سلطان الخلفاء الأمويين الذين فسقوا عن أمر ربهم وخالفوا الكتاب والسنة في كثير من أعمالهم.
والحقيقة أن الرأي الأخير ليس بالرأي الراجح في الفقه الاسلامي فضلاً عن أنه يعتمد على أساس مادي ويرتكز الى القوة المسلحة التي يتمتع بها الحاكم الجائر في الوقت الحاضر، وهو رأي ضعيف ويتجافى مع الأسس الدستورية في الاسلام التي انتهجها الخلفاء الراشدون(11).
مما تقدم يبدو لنا أن الإسلام قد قرر مجموعة من المبادئ العامة التي يعتبرها دعائم ضرورية يلتزم بها نظام الحكم في المجتمع الإسلامي وهذه المبادئ هي:-
1. الشورى: إذ ورد النص على الشورى في القرآن الكريم وفي أحاديث نبوية شريفة، كقوله تعالى(وشاورهم في الأمر) وقول رسول الله (ص) (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار)، ويذهب الرأي الراجح من علماء المسلمين إلى القول بأن الشورى تعد فرضاً واجباً.
2. العدالة: فقد اشتهر الإسلام بأنه دين العدالة وهو لا يطلب العدالة من رجال القضاء فقط بل يطلبها من كل من يملك سلطة أيا كانت إعمالا لقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
3. المساواة: وهي من المبادئ الأساسية المقررة في القرآن والسنة. قال تعالى(إنما المؤمنون أخوة)، ويقول الرسول (ص) في خطبة الوداع (ليس لعربي على اعجمي ولا اعجمي على عربي ولا أحمر على ابيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى). فالقرآن والسنة يقرران مبدأ المساواة بوصفه وسيلة لتحقيق العدالة.
4. الحرية : تضمنت أحكام الإسلام منهجاً يحقق حرية الفرد ويحفظ كرامته وإنسانيته ولم يضع من القيوم التي تحد من هذه الحرية إلا ما يتطلبه الصالح العام، وقد كفل الحرية دينياً فضلاً عن كفالة الحقوق والحريات التقليدية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
5. مسؤولية الخليفة: فهذا مبدأ معمول به في اطار النصوص الشرعية التي وردت في القرآن والسنة والتي توجب الشورى كما إن الاقرار بهذا المبدأ أمر يفهم من نهج الخلفاء الراشدين واعترافهم بمسؤوليتهم عن أعمالهم، ويترتب على تقرير مسؤولية الخليفة ما ذهب إليه بعض العلماء من جواز عزل الخليفة إذا فقد صلاحيته للمنصب لأسباب جسدية أو خلقية(12).
إن المبادئ المذكورة أعلاه تجعل النظام السياسي في الإسلام أكثر النظم السياسية قرباً لمفهوم الديمقراطية الغربية والعكس اصح على اعتبار أن الإسلام رسالة سماوية أولاً وأن النظام الإسلامي كان اسبق في الظهور والتطبيق ثانياً، ومع ذلك فعلى الرغم من وجود هذا التقارب فإن الاختلاف في بعض الجوانب موجود كذلك فالديمقراطية هي دولة فقط بينما الإسلام هو دين ودولة معاً، ويترتب على هذا بروز بعض الفوارق بين الديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام وبالشكل الآتي:
1. تقترن الديمقراطية بفكرة القومية فالفكرة الأخيرة لعبت دوراً في بروز الدولة القومية إذ يتحدد شعبها بأنه الشعب الذي يعيش في اقليم واحد يجمع بين أفراده روابط الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة، بينما يتحدد شعب الدولة الإسلامية على أساس وحدة العقيدة.
2. تهدف الديمقراطية إلى تحقيق غايات دنيوية حيث تلعب الجوانب المادية دوراً مهماً بينما يهدف النظام الإسلامي إلى تحقيق اغراض روحية وأخرى مادية.
3. تقرر الديمقراطية سلطة مطلقة للشعب باعتباره صاحب السيادة، بينما الأمر ليس كذلك في الإسلام إذ أن سلطة الشعب مقيدة بالشريعة الإسلامية(13).
على مستوى العلاقات الخارجية يؤكد الاسلام على وحدة الجنس البشري، قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا)، النساء،1، ويحث الإسلام على ضرورة احترام حقوق الآخرين كحقهم في الحياة، والملكية طالما أن حقوقهم لا تضر بحقوق المسلمين.
وتقرر الشريعة الاسلامية بإمكانية الدفاع عن الدولة الاسلامية اذا اعتدى أحد عليها أو على أمنها واستقرارها كما أن هناك قوانين تلتزم الدولة الاسلامية بها في حالة الحرب، فالإسلام لا يسوغ اللجوء الى الحرب العدوانية ولا يجيز قتل الأبرياء أو حرق المنازل والأشجار ولا يقاتل الشيوخ والنساء والأطفال الذين لا يقاتلون ولا يجيز تعذيب سجناء الحرب أو إساءة معاملتهم(14).


المبحث الثاني
تصنيف حقوق الانسان في الإسلام
تتعدد حقوق الانسان بشكل لافت للنظر مع مرور الوقت إلا أن معالجة المسلمين للحقوق الأساسية بقي أمراً مطروحاً ومفهوماً في مصادر القاعدة الشرعية التي نستطيع من خلالها سواء عبر المصادر الأصلية أو المصادر التبعية أن نتلمس وجود العديد من هذه الحقوق التي بدأت الاتفاقيات الدولية ودساتير العالم تشير إليها بينما كان الاسلام قد تحدث عنها ونبه الى أهميتها قبل قرون عديدة، كما يمكن تصور وجود ضمانات قانونية وقضائية لحماية الحقوق التي أقرها الإسلام، ومن ثم سنبحث في تفاصيل بعض الحقوق الأساسية في الاسلام فضلاً عن الضمانات القانونية والقضائية.

المطلب الأول
صور من حقوق الإنسان في الإسلام
توجد العديد من الحقوق التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان لكي يعيش بكرامة وأمن ويمكن ردها الى مجموعات محددة سنتعرض إلى بعض منها من خلال استعراض موقف الإسلام بالشكل الآتي:
الفرع الأول – الحقوق الشخصية
إن حقوق الانسان والنظرة إليها يجب أن تتم في اطار واحد وككل لا يتجزأ، ومع ذلك فإن بعضها أهم من البعض، والحقيقة هي أن الحقوق الأساسية أو ذات الطابع الشخصي هي التي تحافظ على المصالح الضرورية شرعاً وبشكل خاص في الدين والنفس ومنها:
أ- حق الحياة: هذا الحق هبة من الله تعالى الى الانسان، وقد اجمعت على هذه الشرائع والأديان، وهو مأخوذ من الحديث الشريف (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه) وهو ما جاء في خطبة الوداع (إن دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وينبني على هذا الحق مجموعة من الأحكام الشرعية المهمة هي:
1. تحريم قتل الانسان، لقوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، الانعام،151، وأن هذا الحق يتساوى فيه الناس جميعاً بمجرد الحياة لا فرق بين شريف ووضيع وبين عالم وجاهل وبين عاقل ومجنون وبين بالغ وصبي وبين ذكر أو أنثى وبين مسلم وذمي.
2. تحريم الانتحار، فالحياة هبة الله والروح أمانة في يد صاحبها فلا يجوز له الاعتداء عليها بل ويعاقب من يحاول الانتحار، وقد روى الشافعي أن رسول الله (ص) قال ( من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذبَ به يوم القيامة).
ويلحق بالأمر المتقدم تحريم الاذن بالقتل حيث الله هو المحي والمميت فان اذن شخص لآخر بان يقتل الأول منهما الثاني فقد اختلف الفقهاء في العقوبة التي توقع على الجاني فاعتبر الحنفية ذلك شبهة تدرأ العقوبة، ولا يقتل الجاني، بل يلتزم بالعقوبة تعزيراً، وقال المالكية لا يعتبر الاذن شبهة لأنه باطل، ولا يبيح الفعل فالجاني يعد قاتلاً ويستحق القصاص.
3. وحرمت المبارزة، وهي الاقتتال بين شخصين بهدف إثبات حق أو لدفع عارٍ أو اهانة.
ولأجل المحافظة على حق الحياة لكل إنسان فقد اباح الشارع له بعض المحظورات للحفاظ عليها فأجاز له أكل المحرمات كالميتة والخنزير والخمر حفاظاً على حياته كما أجاز للمريض الفطر في رمضان حفاظاً على صحته ويتصل حق الحياة بالكرامة الانسانية وضرورة المحافظة عليها فالتكريم للانسان جاء من الله تعالى، وقد روي أن جنازة مرت بالنبي(ص) فقام، فقيل له إنها جنازة يهودي فقال أو ليس إنساناً؟)
كما يثبت حرمة أفناء النوع أو الجنس البشري تحت أي ظرف ولأي سبب ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا به في حدود ضيقة.
وحرم الاسلام انطلاقاً من الأفكار المتقدمة المثلة بالميت، والقتيل ولو كان من الاعداء المحاربين في المعركة وبهذا المعنى قال رسول الله (ص) (كَسْرُ عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم)، انطلاقاً من فكرة تكريم الإسلام للإنسان حياً وميتاً ثم حث الرسول (ص) على صيانة عرض الميت بقوله (اذكروا محاسن موتاكم) ومنع وطئ القبور والجلوس عليها حيث قال (لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحترق ثيابه فتخلص الى جلده، خير له من أن يجلس على قبر).
وقد نص الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان في المادة (2) فقرة (4) على (يجب أن تصان جنازة الانسان وألا تنتهك، كما يحرم تشريحه إلا بمجوز شرعي، وعلى الدولة ضمان ذلك)(15).
وقد نصت المادة 33 من مشروع الدستور الإسلامي الذي وضعته لجنة من العلماء في الشريعة على أن (تعذيب الأشخاص جريمة، ولا تسقط الجريمة أو العقوبة طول حياة من يرتكبها، ويلتزم فاعلها أو الشريك فيها بالمسؤولية عنها في ماله. فان كان بمساعدة موظف أو بموافقته أو بالسكوت عنها، فهو شريك في الجريمة جنائياً ومسؤول مدنياً، وتسأل معه الحكومة بالتضامن)(16).
فالإسلام انطلاقاً من احترامه للحق في الحياة يقرر تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملات غير الإنسانية.
ب- حق الحرية: يعتبر هذا الحق من أكثر الحقوق التصاقاً بحق الحياة فهو من الحقوق الاساسية للانسان ويعد حقاً عاماً شاملاً واصل لحقوق متعددة تدخل تحت عناوين مختلفة منها حرية الاعتقاد والتدين وحرية التفكير المرتبط بالعقل والبحث والاختيار لكشف الحقائق وحرية التعبير والدعوة الى الخير أعمالاً لقوله تعالى (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، آل عمران،3/104. وبقدر تعلق الأمر بالحرية الشخصية فهي محترمة في الاسلام بقيدين:
1. أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين.
2. ضرورة تقييد هذه الحرية بالأنظمة والأحكام.
والقوانين العادلة التي تراعي المصالح العامة وقد كفل الاسلام حق الحرية الشخصية فالناس متساوون في هذا الحق اذ أن الأصل هو الحرية حتى يعلم أنهم غير أحرار.
أما موقف الاسلام من الرق فيجب أولاً أن نعترف بحقيقة وهي أن الاسلام لم يستحدث نظام الرق، لكنه شجع على القضاء عليه كما أن الاديان السابقة للاسلام لم تحرمه ولما جاء الاسلام كان المجتمع العربي وحاله في ذلك حال بقية المجتمعات الأخرى يأخذ بالرق اذ كان النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والقانوني لا يجد في اقرار مبدأ الرق جانباً سيئاً، وليس في القرآن الكريم نص صريح يدل على فرض نظام الرق على أي فئة من البشر حتى ولو كان مشركاً يقاتل المسلمين على الرغم من وجود آيات أخرى فيها اشارة الى الرق لكنها جاءت لبيان بعض الأحكام كقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، المؤمنون،5/6، أو في الآيات التي تدعو الى تحرير الأرقاء كقوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة)، سورة المجادلة،3، وهناك آيات تدعو الى تحرير الرق كقوله تعالى (حتى اذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فأما مناً بعد، وأما فداء)، سورة محمد،4.

ولم يفرض القرآن الرق على أسرى الحروب وإنما اضطر المسلمون الى اللجوء لفرض الرق على أسرى الحروب من باب المعاملة بالمثل أما التعذيب أو التنكيل بأسرى الحروب بعد استرقاقهم فقد أدانه الاسلام بشدة.
وقد وسع الاسلام من أبواب العتق من باب اعتباره من الكفارات حيث كانت منافذ العتق قبل الاسلام ضيقة تنحصر أو هي تكاد أن تكون كذلك في أرادة السيد وقد اتبع الاسلام في توسيع منافذ العتق عدة اساليب منها:
1. الحث والترغيب دون أن يقيد ذلك بكفارة الذنب كقوله تعالى (فلا أقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة فك رقبة)، سورة البدل.
2. الأخذ بنظام الكفارات بصدد الذنوب الكبيرة كالقتل الخطأ اعمالاً لقوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله)، سورة النساء، 92(17).
فضلاً عما تقدم فقد أقر الاسلام حق الاعتقاد أو الحق في التدين والتفكير والضمير اذ يأتي هذا الحق بعد الحق في الحياة من حيث الأهمية لأن الدين أحد الضروريات الخمس وقد أكد القرآن الكريم هذا المنهج في قوله تعالى (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، البقرة،2/256، وقال تعالى (ولو شاء ربك لأمَنَ من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، يونس،10/99، وقد أقر الاسلام حرية الاعتقاد الديني والتسامح بشكل لم يعرف له التاريخ مثيلاً، وتمثل هذا بمظاهر عديدة منها احترام بيوت العبادة والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش وفي المعاهدات التي تم ابرامها من جانب المسلمين ووقت الفتوحات مع غير المسلمين كالوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس فالأساس في التعامل مع غير المسلمين هو البر والقسط مع الناس جميعاً إلا اذا قاتلوا المسلمين فهذا يشرع الجهاد ضدهم.
وقد أنفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان في مادته العاشرة بتثبيت حكم الردة وما قال به علماء المسلمون بهذا الخصوص اذ نصت على (لما كان على الانسان ان يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الاكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره، أو ضعفه، أو جهله لتغيير دينه الى دين آخر، أو الى الإلحاد).
فحرية العقيدة في الاسلام هي من جنس حرية الرأي مقيدة بعدم الردة، فالنظام الاسلامي الذي منح غير المسلمين حرية العقيدة وسمح لهم بالعيش في الدولة الاسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين فهو لم يسمح لهم ولا لسواهم أن يدخل أحدهم في الاسلام متى شاء بنية الخروج منه متى شاء بدعوى
حرية العقيدة أو الرأي فالإسلام وضع هذا القيد حماية لمصلحة الجماعة ودرأً للمفسدة وبيان ذلك أن الردة عن الاسلام وإعلانها على وجه الخصوص انما هي مفسدة للجماعة وإضراراً بها مع سبق الاصرار لأن المرتد ما كنا نعرفه لولا اعلانه لردته المتعمدة بهدف التشكيك بعقائد الناس التي اتخذت الاسلام اساساً في قيامها وبقائها والدليل على أن المرتد المعلن ردته يقصد فعلاً هذا الاضرار بمصالح جماعة المسلمين قوله تعالى (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، آل عمران،73، وهنا لابد من الاشارة الى أن الرسول (ص) قد أكد على حرية العقيدة في أول اعلان دستوري لحقوق الانسان عندما أسس دولته في المدينة اذ أكد هذا الاعلان على أن (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)(18).
أخيراً من المفيد ان نسجل شهادة المستشرق البريطاني الكبير السير آرنولد بهذا الصدد حيث يؤكد على (إننا اذا نظرنا الى التسامح الذي أمتد الى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الاسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس الى الاسلام بعيدة عن التصديق(19).
الفرع الثاني - الحقوق السياسية
والمراد بها الحقوق التي تنظم علاقة الانسان بالدولة والمجتمع وإذا كان اقامة الدولة من الضرورات فإنها لا تقوم إلا بالأنظمة والقوانين ومنها ما ينظم علاقة الأفراد بالدولة وقد تتعارض هذه الأنظمة والقوانين مع حقوق الانسان ذات الطابع الشخصي، ومن هنا تنشأ الحقوق السياسية للأفراد في الدولة.
إن ميدان الحقوق السياسية ميدان واسع وسوف يقتصر حديثنا هنا على ما تمنحه الدولة للأفراد من حقوق ذات صلة شخصية بهم ضمن مفهوم وحدود المصلحة العامة كحرية الرأي والتعبير والحق في الاشتراك في شؤون الحكم (الشورى).
أ- حرية الرأي والتعبير وحق الشورى
ان الاسلام يعتبر الحكم مشاركة بين الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم انما يقوم وجوده على أساس تحقيق مصالح الناس ومن هذا المنطلق وضع الفقهاء القاعدة الفقهية التي تقول (تصرفات الأمام منوطة بالمصلحة).
ومن ثم فإن حرية الرأي والتعبير تتمثل في قدرة الانسان في ابداء وجهة نظره بوسائل مختلفة ومن بين المسائل التي يمكن أن يعبروا عن وجهة نظرهم بخصوصها المسائل المتعلقة بسياسة الحكم، وقد كان الخلفاء يطلبون نصيحة الناس وآرائهم في المسائل المختلفة.
أن الضمان لحرية التعبير انه يعد واجب من واجبات الأمة وهو واجب ديني كما أنه من جهة ثانية لا يعتمد على إذن من سلطان طالما أن القصد منه رضا الله تعالى والتذكير بطريق العدل والحق، كما أن لحرية التعبير حدوداً لا يجب أن يتم تجاوزها ومن ذلك أن تتقيد بالحق والحجة والبرهان كما ينبغي أن لا تؤدي الى حرمان الآخرين من إبداء رأيهم كما يجب أن يكون الرأي المعبر عنه بعيداً عن الظن والوهم وسوء النية. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، الحجرات، 49،6.
ويرتبط بالحق في حرية الرأي والتعبير ما يعرف بحق الشورى الذي يعني ضرورة التشاور بين المسلمين من الرعية والحكام، اذ أن أساس الشورى طبقاً للرأي الراجح في الفقه الاسلامي إنما يوجد في آيات قرآنية، قال تعالى (وشاورهم في الأمر) كما أن سيرة الرسول (ص) تؤكد هذا المنهج.
والحقيقة أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلفاء الراشدين، فما يذكر أن الأمام علي بن أبي طالب حين خرج عليه الخوارج وكانوا نحو ثمانية آلاف بعد قبوله تحكيم الحكمين في النزاع الذي قام مع معاوية اذ لم يعمد الأمام علي الى استعمال القوة معهم بصورة تلقائية بل بعث اليهم الصحابي الجليل أبن عباس ليناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فبعث الى الآخرين أن ارجعوا فأبوا فأرسل اليهم (كونوا حيث شئتم بيننا وبينكم ألا تسفكوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً فإن فعلتم نبذت الحرب معكم) كما قال لهم (لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فساداً) وهذه الحادثة تظهر أن حرية الرأي في الميدان السياسي كانت مكفولة في عهد الخلافة الراشدة، ومع ذلك فإنه لا يمكن الادعاء أن هذه الحرية كانت مكفولة في الغالبية العظمى مما تلا هذا العهد من تاريخ المسلمين، ولقد كان الخليفة منذ عهد الخلافة الأموية يطلب الى الناس قبل وفاته مبايعة ولي عهده وهذه المبايعة لم تكن في حقيقة الأمر تتم في حرية تامة إنما كان ( الاكراه فيها أكثر وأغلب) على حد تعبير أبن خلدون، وفي العهد العباسي قل من الوزراء من لم يلق حتفه على يد أحد الخلفاء ومع ذلك فقد عرف في بعض العهود بعض العلماء الذين تكلموا بشؤون الحكم وانتقدوا تصرفات الخلفاء والأمراء دون أن يصيبهم أذى كالحسن البصري في عهد الأمويين إلا أن هذه الحالة تمثل الاستثناء عن القاعدة(20).
ب- موقف مشروع الدستور الاسلامي من الحقوق السياسية
أن تقييم أية تجربة لابد أن يتم من خلال فهم النظرية أو الأسس الفكرية التي جاءت بها ومقارنتها مع الأسس العملية أو الجانب التطبيقي وبهذا الخصوص يمكن بحث ذلك من خلال مشروع الدستور الاسلامي الذي لم تعتمده بعد أية دولة اسلامية اذ يحتوي هذا الدستور على رؤية متكاملة في هذا المجال.
فالمادة الرابعة منه تنص على قيام الشعب بمراقبة الأمام ومساعديه ومحاسبتهم كما أن الشعب مصدر السلطات حيث تقر المادة 29 منه بحريات سياسية مهمة كحرية الفكر وإبداء الرأي وإنشاء الجمعيات والنقابات والانضمام اليها وحرية الانتقال والاجتماع، كما تقر المادة 41 منه حرية الصحافة وتمنع الدولة من محاربة وقتل خصومها السياسيين اقتصادياً اذ تنص المادة 17 منه على (حق العمل والكسب والتملك مكفول لا يجوز المساس به …) وفي المادة 42 على أن (للمواطنين حق تكوين الجمعيات والنقابات) وفي المادة 49 التي نصت على (لا جناح على من أبدى رأيه ضد البيعة للإمام قبل تمامها) كما لا يقر الاسلام بالحصانة المطلقة لرئيس الدولة إذ نصت المادة 45 على (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا للإمام في أمر مقطوع بمخالفته للشريعة) والنص في المادة 51 على (يخضع الأمام للقضاء وله الحضور بوكيل عنه) أما المادة 94 فقد أكدت على عدم جواز منع القضاء من سماع الدعوى ضد الامام والحاكم. كما يقر الاسلام ومشروع الدستور الاسلامي الحق في الشورى والرقابة على دستورية القوانين في المواد 61، 71، 83، 84(21).
فضلاً عما تقدم تمنع نصوص مشروع الدستور الاسلامي الحاكم من وضع يده على الأموال العامة أو قبول الهدايا، كما لا تجيز الشريعة، ومشروع الدستور الاسلامي العبث بالسلطة القضائية بهدف التنكيل سياسياً بالأفراد أو حقوقهم السياسية المكفولة لهم شرعاً كما لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية(22).
الفرع الثالث - حقوق الأسرة
تعد الأسرة النواة الحقيقية التي أقر الاسلام من خلالها منظمة الزواج والإنجاب وقرر فيها المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، قال تعالى(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ولكن هذه المساواة ليست مطلقة في الجزئيات بل يفضل كل منهما الآخر في جانب، وقد جاء الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان فنظم جانباً من الاحكام المتعلقة بالأسرة والزواج بشكل موجز في مادته الخامسة وفي فقرتين هما:
(1. الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية. 2. على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها).
ويتفرع من حقوق الأسرة في الأمومة والأبوة اذ جاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان مذكراً بما تقدم في فقرته الثالثة من المادة السابعة منه التي نصت على (للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم، وفقاً لأحكام الشريعة).
وهذا النص يحيل على الشريعة وقد انفرد بالإشارة الى الأقارب بينما ثبتت الفقرة الثانية من المادة السابعة الحق للأب باختيار نوع التربية لأولاده وهو ما انفرد به الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان حيث نصت هذه الفقرة على (للآباء ومن بحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم، مع وجوب مراعاة مصلحتهم، ومستقبلهم، في ضوء القيم الأخلاقية، والأحكام الشرعية).
أما حق الطفولة فقد ثبت للأولاد في الشريعة الاسلامية اذ يجب على الوالدين رعاية الصغير منذ الصغر وتربيته وتوجيهه وتعريفه بالحلال والحرام وتعليمه ممارسة العبادات وإقامة الصلات الاجتماعية القوية وتحفيظه القرآن والتسوية بين الأولاد والحقيقة أن حقوق الأبناء المقررة شرعاً هي حق التربية وحق النسب وحق الرضاعة وحق الحضانة.
وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان هذه الحقوق في الفقرة الأولى من المادة السابعة التي نصت على أن (لكل طفل منذ ولادته حق على الأبوين، والمجتمع، والدولة في الحضانة، والتربية، والرعاية المادية، والعلمية، والأدبية، كما تجب حماية الجنين، والأم وأعطاءهما عناية خاصة)(23).
الفرع الرابع - الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
أكدت الشريعة الاسلامية على ضرورة ضمان مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويمكن الاشارة الى بعض منها بصورة موجزة وهي:
أ- حق العمل
أمر الله تعالى الانسان بالعمل، قال تعالى (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وهناك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي حثت على العمل اذ قال الرسول (ص) (أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) وقال (ص) (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وضرب الرسول (ص) المثل بنفسه فكان يرعى الغنم قبل البعثة ويقول (ما من نبي إلا رعى الغنم)(24).
ولا تتقيد حرية الحق في العمل إلا بموجب القيود العامة في الحلال والحرام وضمن الاحكام الشرعية وألا يؤدي العمل الى الإضرار والضرر بالغير لقوله (ص) (لا ضرر ولا إضرار)(25).
وقد أفرد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان مادتين لتأكيد حق العمل إذ نصت المادة 13 على أن العمل حق تكفله الدولة والمجتمع وللإنسان حرية اختياره، وحق العامل في الأمن والسلامة، وحق كل فرد بأجر متساوٍ للعمل، دون أي تمييز بين ذكر أو أنثى، والحق بالأجر العادل والمرضي الذي يكفل العيشة اللائقة للعامل وأسرته مع طلب الإخلاص والإتقان في العمل، ووجوب تدخل الدولة لفض النزاع ورفع الظلم، كما نصت المادة 14 على حق الانسان بالكسب المشروع دون احتكار أو غش(26).
ب- حق الضمان الاجتماعي
عرف هذا الحق في الفكر الاسلامي المعاصر تحت عنوان (العدالة الاجتماعية في الاسلام) أو (التكافل الاجتماعي في الاسلام).
وأعلن رسول الله (ص) حق التكافل الاجتماعي لعمال الدولة على وجه الخصوص فقال (من ولي لنا عملاً، وليس له منزل، فليتخذ له منزلاً – أي من بيت المال – أو ليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة). وفي حديث آخر لرسول الله (ص) قال (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع الى جنبه، وهو يعلم)(27).
وقد أكد الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على الحق في الضمان الاجتماعي في المادة 17 التي نصت على (1. لكل انسان الحق أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنوياً، وعلى المجتمع والدولة أن يوفر له هذا الحق. 2. لكل انسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج اليها في حدود الإمكانيات المتاحة. 3. تكفل الدولة لكل انسان حقه في عيش كريم، ويحقق له تمام كفايته، وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية)(28).
ج- حق التملك
يراد بحق التملك الاعتراف بحق الملكية الفردية للانسان وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء والاستفادة منه واستغلاله، والأصل في الملكية أن تكون للأفراد وهي الملكية الفردية وأقر الاسلام كذلك الملكية العامة للدولة في الأموال التي تعد أساسية لتلبية حاجات الأمة والتي تعد مصدر الثروة، وقد نصت المادة 15 من الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على هذا الحق بالشكل الآتي: (1. لكل انسان الحق في التملك بالطرق الشرعية والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة، ومقابل تعويض فوري وعادل. 2. تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي).
كما أكدت المادة 16 في الاعلان الاسلامي لحقوق الانسان على اقرار حقوق الملكية الفكرية اذ نصت على (لكل انسان الحق في الانتفاع بثمرة إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية الناشئة عنه على أن يكون هذا الانتاج غير منافٍ لأحكام الشريعة(29).
ان ما تم ذكره من تفاصيل لبعض الحقوق التي أقرت من جانب الشريعة الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال انها جميع الحقوق التي يتمتع بها الانسان في ظل آخر الرسالات السماوية.
المطلب الثاني
ضمانات حقوق الإنسان في الإسلام
لم يقم الإسلام بتأكيد حقوق الانسان المختلفة أو بيانها فهي ليست مجرد شعارات تطرح في مناسبات معينة، ومن هنا قرر الاسلام أنه لا فائدة من منح الحقوق أو النص عليها اذا لم تتوافر الضمانات القضائية اللازمة لحمايتها ووضعها موضع التطبيق وسواء تم ذلك عبر الايمان والقناعة أو من خلال الرهبة والقوة فلا ينفع التكلم بالحق اذا لم يكن هناك نفاذ له والدين بغير قوة تحميه فلسفة محضة.
ومن هنا فإن القضاء يعد وبحق من أهم الضمانات التي يمكن أن تحمي حقوق الانسان وتقيم الشرع وتطبق الأحكام العامة ولذلك فقد اعتبر الاسلام القضاء من أركان الدولة وهو من وظائف الأنبياء، قال تعالى (يا داود إنا جعلنك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ...)، الصف 83/26).

والإسلام مفتوح الأبواب لجميع الناس لا يدفع أحد المتنازعين أية رسوم مقابل الخدمة القضائية فالدولة تتحمل نفقاته اذ أنه لا يقل أهمية عن الأمن والتعليم والصحة العامة التي تتكفل الدولة بها، وقد رغب الرسول (ص) في القضاء العادل حيث قال (ليوم واحد من أمام عادل أفضل أو خير من عبادة ستين سنة) وقال (ص) كذلك (أن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه)(30).
وفي مقدمة الضمانات المقررة في الاسلام لحماية حقوق الانسان هي حق التقاضي المكفول في الشريعة لكل مواطن في الدولة الاسلامية مسلماً كان أم غير مسلم، وهنا روى وكيع عن شريح، قال (لما رجع علي من قتال معاوية وجد درعاً له افتقده بيد يهودي يبيعها، فقال علي: درعي، لم أبع، ولم أهب فقال اليهودي: درعي، وفي يدي، فاختصما الى شريح، فقال له شريح حين أدعى: هل لك بينة، قال نعم، قنبر(مولاه) والحسن أبني، فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال (علي): سبحان الله رجل من أهل الجنة(31).
والحقيقة أن المساواة بين الخصوم وإقامة العدالة بينهم مهما تفاوتت مكانتهم الاجتماعية والدينية، سبباً مباشراً لكثير من الناس في اعتناق الاسلام والانضواء مع المسلمين في العقيدة.
ومن الضمانات الأخرى لحقوق الانسان هي المساواة بين المتقاضين بغض النظر عن الغني أو الفقير أوالمكانة الاجتماعية أو اختلاف الدين والمذهب والجنسية والحاكم والمحكوم إعمالا لقوله (ص) (من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده)(32).
كذلك فالأصل براءة الذمة حيث لا يقام حد أو قصاص على أحد اذا اثبت ذلك أمام القاضي بالأدلة أما اذا لم يتحقق ذلك فلا مجال لفرض العقوبة عليه كما لا يجوز اللجوء الى ضرب أو تعذيب المتهم لانتزاع الاقرار منه وشملت ضمانات التقاضي فيما يتصل بحقوق الانسان جميع المشاركين في العمل القضائي ومنهم الشهود، قال تعالى(ولا يُضار كاتب ولا شهيد)، البقرة،2/282.
كما أقرت مبادئ الشريعة جوانب مهمة من حقوق الانسان عند تنفيذ الأحكام القضائية وبهذا يقول الرسول (ص) (أن الله كتب الاحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة).
أخيراً لابد من الاشارة الى حقيقة مضمونها أن قضية حقوق الانسان في الاسلام اذا ما كان هناك خلل فيها فان هذا الخلل كان مرده الدولة الاسلامية ابتداءاً من بدايات الحكم الأموي وهو بدوره ناتج عن المشاكل السياسية التي تولدت عن قضية الخلافة والحكم الأمر الذي انعكس بشكل أو بآخر على المسائل الانسانية الأخرى الخاصة بحقوق الانسان، أما الاسلام فالواقع أنه كنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي قد وضع الخطوط العريضة للعدالة داخل المجتمعات الاسلامية على المستوى النظري بهدف تحويل العالم الى مجتمع اسلامي موحد.

هوامش الفصل الثاني
1. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق، ص132.
2. د. محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص131-132.
3. المصدر نفسه، ص133-134.
4. د. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص188.
5. د. عبد العزيز محمد سرحان، المدخل لدراسة حقوق الإنسان في القانون الدولي، الطبعة الأولى، 1988، ص56-57.
6. المصدر نفسه، ص54.
7. د. أحمد جمال الظاهر، حقوق الإنسان، المصدر السابق،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 2:56 pm

الفصل الثالث
تطور الحقوق والحريات
لم تكن الحقوق والحريات التي حصل عليها الإنسان وليدة زمن واحد أو مكان واحد إذ ان تطور الحقوق والحريات عملية تمت في أماكن عديدة من العالم تبعاً لتطور تاريخ الأمم والشعوب وما مر عليها من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية وسوف نحاول في هذا الفصل ان نتتبع مراحل التطور التي مرت بها هذه الحقوق والحريات من خلال متابعة الاعلانات التي ظهرت نتيجة الثورات والأحداث السياسية، فضلاً عن المدارس والمذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية.


المبحث الأول
المذاهب والمدارس والنظريات الفلسفية والفكرية
ساهمت المذاهب والنظريات الفلسفية والفكرية التي ظهرت منذ نهايات العصور الوسطى الأوربية في بلورة اتجاه يخدم بشكل أو بآخر بعض مفاهيم حقوق الإنسان أو الأسس التي قامت عليها هذه الأفكار في العهود اللاحقة.
ومن ثم فان التعرض لبعض التيارات أو الأفكار التي شهدتها هذه الفترة أمر يساعد في فهم جانب من الأصول الفكرية لتطور الحقوق والحريات.

المطلب الأول
العصور الوسطى
يقصد بالعصور الوسطى تلك الفترة التي تمتد من الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة فترات أساسية:
الفترة الأولى تمتد حتى القرن العاشر للميلاد شهدت أوربا خلالها غزو الجرمان من الشمال والفتوحات العربية في الجنوب، وفي هذه الفترة شهدت الكنيسة تأكيداً لمركزها في إطار الإمبراطورية، وكان هناك إصرار على ضرورة الطاعة للكنيسة والولاء لها كما تم تقبل أية سلطة حتى لو كانت ظالمة وترفض مقاومتها حتى لو جاءت من غير مؤمن، فضلاً عما تقدم فقد سعت الكنيسة إلى اكتساب امتيازات قبل السلطة الزمنية ومما ساعد الكنيسة في تركيز هيمنتها خلال هذه الفترة سيطرة الإقطاع.
الفترة الثانية هي التي تلت القرن العاشر والتي تمتد حتى القرن الثالث عشر للميلاد وخلالها تنامت واشتدت قوة الكنيسة حيث شهدنا صراعاً بينها وبين رجال الدولة بحيث أصبحت نظرية السيفين التي وصفها جلاسيوس الأول والتي تقرر نوعاً من المساواة بين السلطتين الدينية والدنيوية موضوعاً منتهياً.
الفترة الثالثة امتدت من بداية القرن الرابع عشر وخلالها نشهد المراحل الأولى لانهيار السلطة البابوية، وقيام النظام الاستبدادي مع دعوات لإقامة مجتمع عالمي وحكومة الهية واحدة في مقابل دعوات أخرى أساسها إقامة الدولة القومية(1) واعتبارها نظام مقدس، وان الملوك هم ظل الله فهم لا يخضعون لسلطة الكنيسة ولا يسألون أمام بابواتها، وقد أدى هذا الصراع بين الدولة والكنيسة إلى ظهور أفكار جديدة ذات طابع سياسي على يد بعض المفكرين.

فنحن نجد في كل مجتمع عقيدة سياسية وصياغة قانونية للأفكار السياسية المتبناة إذ تميل هذه الصياغة إلى جانب المحكومين في الدول الحرة بينما هي تنـزع نزعة عكسية في الدول الاستبدادية أو الشمولية، والعقيدة السياسية في الدول الحرة تعد مصدراً أساسياً من مصادر ضمانات الأفراد إذ انها تؤكد قيام النظام السياسي بأسره على احترام الشخصية الإنسانية الحرة لما تتميز به. ومن ثم يجب ان تتمتع بأوفر قسط ممكن من الحرية.(2)
والحقيقة ان العقيدة السياسية التي قامت عليها النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة انما ترجع إلى أصول تاريخية تمتد إلى القرون الوسطى الأوربية على الرغم من انها لم تتبلور بشكل كامل إلا في أواخر القرن الثامن عشر فالوضع العام في العالم القديم كان يعارض فكرة قيام حقوق للأفراد في مواجهة السلطة العامة وكان في مكنة الجماعة ان تأتي ما تشاء طالما كان ذلك إجراءاً عاماً، وقد نبتت بذور العقيدة الحرة الأولى خلال العصر الوسيط الذي تميز بطبيعته السياسية الخاصة من ناحية وبالحركة الفكرية التي نشطت فيه من ناحية أخرى(3) وبقدر تعلق الأمر بالحركة الفكرية يمكن الإشارة إلى أهم المفكرين الذين ظهروا خلال هذه المرحلة فضلاً عن التطرق لأهم الأحداث التي ساهمت في حصول الشعوب على حقوقها.
الفرع الأول- جريجوري
كان جريجوري من أقوى البابوات، وقد نُصب عام 573 عمدة على روما غير انه اعتزل هذا المنصب ليتفرغ كلية للدين، وفي عام 590 تولى منصب البابوية، وتضمنت كتاباته أقوى الحجج المؤيدة لواجب احترام السلطة الزمنية، فهو الوحيد من بين الشخصيات البارزة في الكنيسة الذي تكلم عن قداسة الحاكم السياسي بلغة تدعو إلى الطاعة السلبية وتتلخص وجهة نظره في ان للحاكم السيئ الحق ليس في الطاعة وحدها، وانما في ضرورة كون هذه الطاعة صامته وسلبية، والرعايا يجب عليهم ان يطيعوا كما يجب عليهم الامتناع عن محاولة الحكم على حياة حكامهم أو نقدها أو مناقشتهم فيما يقومون به، وكان جريجوري يحتج على أوامر الإمبراطور إذ كان يعتقد انها تناقض القانون، لكنه مع ذلك يطبقها، ويبدو ان نظريته تتلخص في اعتبار الإمبراطور يمتلك السلطة اللازمة لإصدار الأوامر التي يراها حتى ان كانت هذه الأوامر غير قانونية ما دام يتحمل مسؤولية ذلك وإذا قادت هذه المسؤولية إلى تعرضه للعنة روحية، فليست سلطة الحاكم مستمدة من الله فقط، لكنها أعظم سلطة على الأرض باستثناء سلطة الله(4).
الفرع الثاني- توماس الاكويني
هو من أعظم فلاسفة القرن الثالث عشر الميلادي، وتقوم فلسفته على التوفيق بين العقل والإيمان، وقد انصبت معالجات هذا المفكر على توضيح جوانب متعلقة بالدولة والمجتمع ونظم الحكم وعلاقة الدولة بالكنيسة وغيرها من المواضيع، وهو يرى ان السلطة السياسية حق من الحقوق الإنسانية، وان هذه الحقوق الإنسانية تعتبر جزءاً من الحقوق الطبيعية الصادرة عن الذات الالهية، كما ان الله لا يمكن ان يعد مسؤولاً عن أي شكل من أشكال الحكومات، لأنه لم يكون بفعل إرادي هذا الشكل أو ذاك، كما ان الله لم يقرر أفضلية أحد الأشكال على غيره من أشكال الحكومات، أي انه يرى ان السلطة السياسية تقوم على الحقوق الإنسانية، رغم ان الله هو مصدر السلطة(5)، ويعتقد بان فكرة الدولة وأصولها تتصل بشكل أساسي، بنزعة الاندفاع الاجتماعي للإنسان، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش خارج اطار الجماعة وهذا يعني ان الدولة عبارة عن حدث طبيعي تقتضيه طبيعة الحياة الإنسانية، وتتمثل في كونها تنظيم ارتضاه الأفراد بحريتهم لتحقيق هدف الأفراد للحصول على السعادة.
ويقول الاكويني أيضاً ان السيادة هي سلطة عمل القوانين، وهي مركزة في جميع أفراد المجتمع السياسي أو فيمن يمثلونهم، وان الملك أو الأمير انما يستمد سلطته العليا من سلطة المجموع ويزاولها باسمهم، والحكومة الصالحة في نظر الاكويني هي الحكومة التي تشرك أصحاب السلطة وهم أفراد المجتمع في مظاهر الحكم، ويؤكد ان أفضل أشكال الحكومات هي الحكومة المختلطة التي تختلط فيها عناصر النظام الملكي والنظام الارستقراطي والنظام الديمقراطي(6).
ان الفكرة المتقدمة تتحقق من خلال أعمال مبدأ انتخاب الحاكم، فالملكية التي يريدها الاكويني تكون انتخابية على ان يعاون الملك مجلس ارستقراطي منتخب من قبل الشعب، فهناك ملك يعاونه مجلس ارستقراطي منتخب، والنظام المذكور هو ملكية معدلة بأرستقراطية وديمقراطية، كما يظهر الاكويني معارضته للحكم الاستبدادي، ويمنح الشعب الحق في مقاومة الحاكم المستبد الذي يتجاوز حدود سلطته بشرطين أساسيين هما: إلا تمارس هذا الحق طائفة معينة من الشعب بل يجب ان يمارسه مجموع الشعب، كما يجب ان يأخذ القائمون بالمقاومة على مسؤوليتهم الا ينتج عن حركتهم تلك مساوئ تفوق مساوئ الحاكم المستبد أو تعادلها وهو يقول (ان للشعب حق قانوني في ارغام الحاكم- الذي يستمد سلطته من الشعب- على التزام الشروط التي بموجبها تنازل له عن السلطة).(7)

الفرع الثالث- مارسليو بادوا
دوّن هذا الايطالي أفكاره في كتاب أصدره عام 1324 عنوانه (المدافع عن السلام) وكان هدفه هو هدم السيطرة البابوية، وصولاً إلى تحديد دقيق وفعال لما تدعيه السلطة الروحية من حق في السيطرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على أعمال الحكومة الزمنية حيث ذهب الى وضع الكنيسة تحت سيطرة الدولة وبهذا يكون قد وصل إلى مرحلة متقدمة في دفاعه عن السلطة الزمنية(Cool، وينسب إليه بعض الكتاب انه أول من نادى في العصور الوسطى بمبدأ حق الشعوب في السيادة، إذ ميز بين الأمة وهي مصدر السلطة، وبين الحكومة وهي الأداة المنفذة لإرادة الأمة، وقرر بادوا حق الشعب في السلطة التشريعية وسيادة هذه السلطة على السلطة التنفيذية، إذ انه طبقاً لآرائه يختار الشعب السلطة التنفيذية ويكون له حق الإشراف عليها وتكون هي مسؤولة أمامه، كما نادى بحق الشعب في معاقبة الحكام إذا انتهكوا القوانين التي سنها الشعب، ومن حق الشعوب خلع حكامها وإبعادهم عن السلطة(9).
ان نظرة بادوا إلى القانون باعتباره من الضروري ان يصدر عن هيأة دستورية (المواطنين) فالأفراد أو جميع المواطنين أو غالبيتهم هم الذين يقررون بإرادتهم، في جمعية عامة، وفي لغة معبرة لا لبس فيها ما هو المباح للناس وما هو المحرم من الأعمال المدنية مع تعرض المخالف للعقوبة، فالقانون البشري ينشأ نتيجة اشتراك الجماعة في تشريعه وصياغته، والحقيقة ان هذا المفهوم يقدم لنا فكرة عن سيادة الارادة العامة تذكرنا بروسو فنحن مع بادوا في عالم مختلف عن عالم القديس توماس الاكويني حيث لا نجد في أفكار بادوا أثر لفكرة الاكويني الخاصة بان الدولة تخضع لنظام أبدي مطلق من القيم يعبر عنه القانون الالهي والقانون الطبيعي، فالدولة هي مصدر القانون، وقانونها يجب طاعته ليس لأنه يقترن بالإكراه المادي لكنه في ذاته تعبير عن العدالة(10).
الفرع الرابع- وليم أوكام
ولد هذا الفيلسوف عام 1290 في مقاطعة أوكام التابعة لولاية بوركشارير وتوفي عام 1349 وقد عكست كتاباته عدم رضا جانب كبير من المسيحيين عن سيطرة البابا التي شاع الاعتقاد انها شر على الكنيسة وأوربا معاً ومن ثم فقد حاول أوكام ان يحدد مجال اختصاص كل من السلطتين الزمنية ممثلة بالإمبراطور أو الملك والسلطة الدينية ممثلة بالبابا إلا انه في كل الأحوال لم يكن يفكر في إلغاء أو تذويب سلطة الكنسية في الدولة وإنما أراد إصلاح الأوضاع القائمة عبر فصل مجال اختصاص كل من السلطتين الدينية والزمنية(11).

ان فلسفة أوكام السياسية عكست حالة الفكر السياسي الذي كان قائماً في القرن الرابع عشر بصورة واضحة، وهي لم تكن تخرج في جوهرها عن مناقشة طبيعة العلاقة بين السلطتين الدينية والدنيوية على الرغم من ان السلطة الفعلية لبابوات روما على الملوك كانت قد تلاشت تقريباً إلا ان الجديد في فلسفة أوكام انها طرحت في المناقشات السياسية العلاقة بين الملك ورعاياه، وكذلك حق هؤلاء الرعايا في مقاومته إذا ما أتخذ قراراً يمس ضمائرهم حول ما يعتقدون انه يمثل حقيقة العقيدة المسيحية(12).
أخيراً يمكن القول ان العصور الوسطى قد تميزت بأفكار طرحت من جانب مفكرين وفلاسفة ورجال دين عبرت عن وجود انواع مختلفة من الثنائية، فهناك رجال الدين وسلطاتهم في مواجهة السلطة الزمنية أو العلمانيين أو ما يمكن ان يعبر عنه بثنائية البابا إزاء الإمبراطور، الحقيقة ان نهايات العصور الوسطى خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر قد شهدت تحولات عميقة ومهمة إذ عصفت الأزمات الاقتصادية بالقارة الأوربية فضلاً عن انتشار الأوبئة التي قضت على ثلث سكان فرنسا وبريطانيا كما ان بذخ الكنيسة كلها عوامل قادت الى التفكير بأساليب مختلفة والقبول بآراء جديدة ساعدت على بروز الدولة القومية مع بدايات عصر النهضة التي وضعت الأسس الفكرية الأولى للنظام السياسي والاقتصادي لأوربا وما صاحب ذلك من صراع طويل للشعوب في سبيل الحصول على حقوقها لكن هذا الصراع تحول إلى صراع مباشر بين الملوك من جهة والشعوب من جهة أخرى بدل الصراع الذي كان قائماً بين البابا والإمبراطور.
وإذا كانت الأفكار المتقدمة هي التي مثلت أو عكست جانباً من الصراع الفكري في العصور الوسيطة فان سواد الشعب كان محكوماً بسيادة نظام الاقطاع الذي انشأ إلى جانب سلطات الدولة سلطات رؤساء الاقطاع، ولا غرابة ألا يزدهر سلطان الدولة في ظل النظام الاقطاعي كما انه ليس من الغريب ان لا يتم ترجيح الصالح العام في مواجهة مصالح الإقطاعيين إذ ان من شان سلطان زعماء الاقطاع ان يضعف من سلطات الدولة وان يقلل من سيادتها، والحقيقة اننا نجد في النظام الإقطاعي رؤساء يملكون الأراضي والمقاطعات ويتمتعون بسلطان واسع وحقوق متعددة، هذه الحقوق وذلك السلطان لا ترد عليهما قيود إلا تلك التي يقررها العرف أو تنشأ عن العقد المبرم بين رئيس الاقطاع والملك، وهذا هو الذي يحدد حقوق كل طرف تجاه الآخر، فإذا دفعوا ضريبة، فالأساس القانوني لدفعها هو العقد السالف الذكر وليس حق الدولة في فرض الضرائب على الأفراد الذين يعيشون في إقليمها كما ان رؤساء الإقطاع لم يخضعوا لقضاء الدولة، فإذا وجبت مسؤوليتهم فإنهم يحاكمون أمام قضاة من نفس درجتهم الاجتماعية، ومع ذلك فان هؤلاء أي رؤساء الإقطاع لم يكونوا ملزمين بالمثول أمام محكمة مكونة بهذه الطريقة لأنهم كانوا يملكون اعلان الحرب، ومن ثم فقد كان رئيس الإقطاع يفضل ان يصفي منازعاته عن طريق الحرب على ان يسويها عن طريق اللجوء الى المحاكم، ومن ثم فانه لن يعتبر أمراً مستغرباً ألا يكون هناك مجال للكلام عن حقوق الأفراد تجاه الدولة، لان رابطة الإقطاع القائمة على وجود إقطاعي متنفذ لم تترك مجالاً لتنظيم علاقة حقيقية واضحة بينهم وبين السلطة المركزية، كما انه ليس غريباً ألا تسود فكرة الصالح العام(13).

المطلب الثاني
الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في عصر النهضة والعصور الحديثة
إذا كانت العصور الوسطى في القارة الأوربية قد تميزت بالصراع الذي نشب بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء، والذي انتهى بانتصار الملوك والأمراء وفصل الكنيسة عن الدولة مما قاد إلى ان يصبح الملوك أو الأمراء الممثلين للسلطة الزمنية أصحاب النفوذ والسلطان بدون منازع وبشكل خاص بعد القضاء على نظام الإقطاع وقيام الطبقة الوسطى التي يمثلها التجار والصناع والحرفيون.
ومما ساعد في الوصول إلى هذه النتيجة حركة الاستكشافات الجغرافية التي دفعت مع عوامل أخرى إلى قيام الطبقة الرأسمالية التجارية فهي التي قامت بمقاومة النظام الإقطاعي القائم على الملكيات الكبيرة واقتصاد المدن المستقلة وقد نجحت هذه الطبقة في سعيها عندما حققت وحدة السلطة المتمثلة بالملك الذي تم دعم سلطاته في المراحل الأولى من جانب عدد لا بأس به من المفكرين.
ولهذا فقد شهد عصر النهضة ولادة النظام الملكي المطلق الذي ساد في القارة الأوربية وتركزت السلطات الثلاث بيد الملك، فقد مارس السلطة التشريعية بواسطة الأوامر التي كان يصدرها، كما استحوذ على السلطة التنفيذية بشكل كامل ودون شريك.

ولكي يمنع كبار النبلاء والأشراف من الاحتجاج والثورة فقد قام باختيار وزرائه من صغار النبلاء، كما ثبتت له ولاية القضاء بحيث كانت الأحكام تصدر باسمه وله حق التدخل في الدعاوى وفي أي وقت فضلاً عن صلاحيات أخرى أفقدت القضاء كل استقلال(14).
أما الأفراد فقد كانوا في هذه المرحلة محرومين من كل الحريات الفردية وكانت أقوى وسيلة لردع هؤلاء خطابات الملك المغلقة، وهي عبارة عن رسائل مختومة بختم الملك الشخصي وبموجبها توقع العقوبة دون حكم قضائي إلا ان هذا الحال لم يقدر له ان يستمر على المستوى الفكري إذ ظهرت حركات فكرية ناوئت الاستبداد الملكي وأخذت تبحث عن مصدر للسلطة في غير النظريات الثيوقراطية ذات الطابع الديني، ومن ثم فإننا سنحاول تتبع أكثر المفكرين والفلاسفة تأثيراً في هذا المجال سواء في عصر النهضة أو في العصور أو القرون التي أعقبت هذا العصر وبداياته.
الفرع الأول- الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في عصر النهضة
مع فجر عصر النهضة وبدايات العصور الحديثة حدث تقدم في مجالات مختلفة شهدتها القارة الأوربية وعلى وجه الخصوص في مجال الأفكار والنظريات السياسية الأمر الذي أثرى الجدل الفكري المتعلق بمفهوم الحقوق والحريات العامة ومن أبرز مفكري هذه المرحلة ميكافيلي وبودان وهوكر:-
1. نيقولا ميكافيلي
ولد المفكر الإيطالي ميكافيلي في مدينة فلورنسا سنة 1469 في وقت كانت قد قامت فيه الدولة القومية المستقلة في كل من انجلترا وفرنسا بينما ظلت ايطاليا تعاني من الانقسام مما أثر على وضعها المستقبلي في القارة الأوربية، وهو ما اثر بدوره على الفلسفة السياسية لهذا المفكر فنادى بسبب ذلك بإتباع سياسة واقعية مؤسسة على القوة والحذر وهما الصفتان اللتان اعتبرهما ضروريتان للحاكم(15).
آمن ميكافيلي ان (الأنبياء المسلحين هم الذين كانت لهم الغلبة والسلطة، بينما فشل غيرهم غير المسلحين) وهم الذين لم يمتلكوا القوة، وقد أسند الضعف الذي عانت منه ايطاليا في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر إلى الكنيسة الكاثوليكية ورجال دينها الذين صنعوا كما قال (الايطالي اللاديني الشرير) كما ان الكنيسة كانت السبب الأساسي في تقسيم ايطاليا إلى دويلات وإمارات مجزئة متقاتلة معاً والحل في نظره يكمن في ايجاد أمير قوي قادر على توحيد هذه الإمارات المتنازعة، ومن ثم فقد كانت دعوة هذا المفكر صريحة لحاكم فلورنسا الأمير مديسي لتحرير ايطاليا من الفرنسيين والأسبان وتوحيد هذا البلد بكامله وكانت نصيحته للأمير المذكور ان يكون ماكراً كالثعلب لا طيباً وان يكون قوياً كالأسد ولا يثق بأحد كما أشار عليه ان يكون مخادعاً ومدعٍ للتدين وحب الدين، أي ان الغاية تبرر الوسيلة وكل ذلك من أجل بناء دولة آمنة قوية ومستقرة يحكمها دستور يحفظ حقوق الأمير والنبلاء وبقية أفراد الشعب بنسب تتفق مع ما يتمتعون به من مراكز قوة(16).
يفضل ميكافيلي النظام الجمهوري بالمقارنة مع النظام الملكي فالأول هو نظام حر حسب رأيه تتحقق فيه الحرية والمساواة وإذا كان هذا المفكر من انصار الحكم المطلق في مؤلفه الأمير إلا انه وفي مؤلفيه الآخرين وهما المحاضرات أو الخطب ودستور فلورنسا دافع عن الحرية وأكد ان الحرية تتطلب المساواة إذ لا حرية دون مساواة وقال ان أعداء المساواة هم الأشراف الذين يعيشون مما تنتجه مزارعهم وممتلكاتهم دون ان يكون لهم عمل حقيقي فهم أي النبلاء سبب كل فساد على حد قوله ولا يمكن قيام نظام جمهوري إلا بالقضاء عليهم، ويعترف ميكافيلي للشعوب بالحق في استعمال القوة للحصول على حقوقها في الحرية والمساواة، فقد نادى كما ذكرنا في مؤلفه المحاضرات أو الخطب بالسلطة الجمهورية المعتدلة وعدل في هذا المؤلف عن فكرة الحكم المطلق(17).
وعند تقييم آراء ميكافيلي فمن الضروري الإشارة إلى وجود رأيين الأول يقول انه كان يدعو إلى الحكم المطلق عند انشاء الدولة، لكنه يؤيد الحكم الجمهوري للمحافظة على النظام وتأكيد دعائمه.
بينما ذهب رأي آخر إلى القول ان هذا الرجل كان وطنياً وهذا ما يبرر دعوته للحكم المطلق بهدف توحيد ايطاليا، ومن ثم فان ميكافيلي طبقاً لهذا الرأي من انصار الحكم المطلق الذي يعد وسيلته لتوحيد ايطاليا ومن انصار النظام الجمهوري الذي يحقق الحرية ويكفل المساواة بالنسبة للدول الأخرى(18).
2. جان بودان
ولد هذا الفقيه عام 1530 وتوفي عام 1596، في الفترة التي تميزت بانشقاق الكنيسة بعد ان ظهر المذهب البروتستانتي المنادي بحرية العقيدة وضرورة تخليص المسيحية من الشوائب والادعاءات التي علقت بها نتيجة الصراع بين الكنيسة والأمراء واستخدام بعض رجال الدين الأمير كوسيلة للتمتع بالثروة والسلطة وقد انتقل هذا الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت إلى فرنسا وبلغ ذروته بمذبحة سانت بارتليمي سنة 1572 وفي خضم هذا الصراع الدموي نشأ حزب سياسي أكد على ضرورة التعايش والاعتراف بحرية العقيدة لكل طرف من الأطراف المتنازعة وكان جان بودان فقيه هذا الحزب والمنظر الفكري لآرائه.
ألف بودان كتابه الشهير (الجمهورية) في ستة أجزاء عام 1576 وكان من انصار نظرية التطور العائلي في أصل نشوء الدولة، وبموجبها فان الأسرة هي أصل نشوء الدولة إذ ان الدولة تتألف من مجموعة من الأسر المرتبطة مع بعضها بمصالح مشتركة وتخضع لسلطة عليا واحدة، ويعتبر بودان من انصار النظام الملكي الذي يفضله على النظام الشعبي والنظام الارستقراطي فالملكية هي النظام الطبيعي المتفق مع الطبيعة، فالعالم يحكمه اله واحد والسماء لا توجد فيها إلا شمس واحدة والأسرة لها رئيس واحد، ومن ثم فان الدولة يجب ان يكون لها رئيس واحد كذلك يعترف الجميع به ويخضعون له(19).
والحقيقة ان بودان لم ينادِ بملكية مطلقة استبدادية بصورة كاملة فسيادة الملوك يجب ان تقيد بالقانون الطبيعي، ولا يمكن للملك ان يخرج على أحكام هذا القانون في أي أمر يأمر به أو أي قانون يسنه، والقانون الطبيعي الذي على الملك ان يتقيد به من صنع الإله، ومن ثم فانه يجب على الملك ان يحترم العقود ذات السبب الشرعي ويجب عليه ان يحترم الملكية الخاصة(20).
إذن الملكية التي نادى بها بودان هي ليست نظاماً يتنكر فيه الملك للقوانين الطبيعية والإلهية، ولعل أبراز بودان لفكرة السيادة يعد المساهمة المميزة له في المجال القانوني والسياسي فهي العنصر الذي يميز الدولة عن التجمعات البشرية الأخرى ويعرفها (بأنها السلطة المطلقة الدائمة في الدولة، وهي الخاصية الرئيسية التي تظهر الدولة على غيرها من التجمعات والتنظيمات البشرية الأخرى) فالسيادة هي سلطة عمل القوانين لكل أفراد الشعب وتتصف بأمرين الأول انها سلطة دائمة فعنصر الدوام هو الذي يربط السيادة بالدولة والأمر الثاني ان السيادة سلطة مطلقة نسبياً إذ لا تتقيد سلطة صاحب السيادة إلا بالقوانين الالهية والطبيعية، وقد لعبت فكرة السيادة دوراً في تحرر الشعوب(21).
3. ريتشارد هوكر
ولد ريتشارد هوكر عام 1544 وتوفي عام 1600 وهو يفترض وجود حالة الطبيعة الأصلية التي يخضع فيها الناس إلى القوانين الطبيعية فقط وقد أدرك الأفراد ضرورة إزالة الآثار الضارة الناتجة عن العلاقات فيما بينهم وهذا ما لم يكن من السهل إتمامه دون وجود اتفاق بينهم لتنظيم نوع من الحكومة العامة وإخضاع أنفسهم لها، وهو يشير بكلامه هذا إلى وجود شكل من أشكال العقد الاجتماعي(22).

الفرع الثاني- الأصول الفكرية للحقوق والحريات العامة في القرنين السابع عشر والثامن عشر
في نهايات عصر النهضة الأوربية وبدايات العصور الحديثة كان هناك أساس لتقييد صاحب السيادة ببعض القيود التي أشرنا إليها كالقانون الطبيعي وأوامر الله والقوانين الأساسية للدولة، والحقيقة ان هذه القيود لم تكن حديثة النشأة وعلى وجه التحديد القيود المستمدة من القانون الطبيعي، بل هي تمتد في جذورها التاريخية الأولى إلى عهد الإغريق والرومان إلا انها عادت للظهور مرة أخرى لمقاومة الطغيان والاستبداد والحكم المطلق على يد الفقيهين جروشيوس وبفندورف إذ ظهر على يد الأول ما بات يعرف بمذهب الحقوق الطبيعية حيث نشر جروشيوس سنة 1625 كتابه الشهير (حقوق الحرب والسلم) أما الثاني فقد نشر سنة 1673 كتابه (حقوق الطبيعة والبشر) ثم توالت المؤلفات التي تتحدث عن الحقوق الطبيعية للبشر إذ نشر فولف سنة 1748 كتاباً في أصول الحقوق الطبيعية وفاتل الذي وضع كتابه المسمى (حقوق البشر أو مبادئ السنة الطبيعية) في الموضوع ذاته(23).
عليه فان القرن السابع عشر قد شهد انبعاث الحديث عن نظرية الحقوق الطبيعية التي ترجع الى قرون قديمة فهي من نتاج الفلسفة اليونانية إلا ان مفهوماً محدداً لم يتبلور إلا في هذين القرنين وتعرف هذه الحقوق كونها القواعد التي أملاها العقل والتي يجب ان تسود علاقات الأفراد وهم في الحالة الطبيعية، ففي حالة الطبيعة هذه كان الأفراد يتمتعون بكامل حقوقهم وحرياتهم التي يكفلها لهم القانون الطبيعي الذي يقف مانعاً أمام أي اعتداء عليها، وهذه الحقوق والحريات سبقت وجود الدولة، وان دخول الفرد أو الإنسان في الجماعة أو الشعب المكون للدولة لا يعني مطلقاً انه تنازل عن هذه الحقوق مما لا يعطي للدولة الحق بالاعتداء عليها(24).
عليه يمكن الإشارة إلى أبرز فلاسفة ومفكري هذين القرنين ممن كان لهم مساهمة متميزة في بلورة مفاهيم وأفكار تخص حقوق وحريات الأفراد أثرت في مسيرة الشعوب على المستوى السياسي والقانوني.
1. جوهانس الثيوسيس
هو مفكر ألماني استعمل فكرة التعاقد الاجتماعي في بناء نظامه السياسي عام 1603 وقد طبقت هذه النظرية عملياً من قبل الآباء الحجاج على الباخرة (May Flower) عام 1620 حيث أشير إلى (ونحن أيضاً نقوم أحياناً بالاتفاق وإبرام العهد فيما بيننا أمام الله ونلزم أنفسنا معاً في رباط سياسي مدني).(25)
ويطرح هذا المفكر قيداً يرد على سلطات الدولة إذ يقرر عدم وجود فرد أو كائن ذو سلطات مطلقة لا حدود لها إلا الله الذي هو الإله الواحد، أما سلطان الرجال فلا يمكن ان يكون مطلقاً لا ترد عليه القيود، وطبقاً لوجهة نظره توجد قواعد ثلاث تحد من سلطات صاحب السيادة، وهي القوانين الإلهية وقواعد العدالة الطبيعية والقوانين الأساسية للدولة، مع انه لم يضع تعريفاً دقيقاً لما أطلق عليه القوانين الأساسية للدولة.
ويلاحظ على آراء Loyseas ان القيود التي ذكرها لا تنشئ للفرد حقاً خاصاً به يولد معه ويتصل بذاته، فالقيد الأول يستمد أصوله من واجبات الملك تجاه الله، والثاني عن القانون الطبيعي وهذا القيد في نهاية المطاف صورة من صور القيد الأول مادام القانون الطبيعي من صنع الله، وهذه الفكرة تؤدي إلى ضرورة ان يحترم الملك أوامر الله أو القانون الطبيعي باعتبارهما واجبات دينية، ولكن ليس للفرد إذا خالف الملك واجباته أي حق تجاهه، ومن ثم لا يملك أية دعوى قانونية تضمن له استيفاء حقه المسلوب، أما القيد الثالث الخاص بالقوانين الأساسية، فهو قيد غامض لان حدوده غير واضحة وماهيته غير ظاهرة(26).
2. جون ميلتون
ولد هذا الفيلسوف عام 1608 وتوفي عام 1674 وأشار إلى الطبيعة التعاقدية التي قادت إلى ظهور الدولة، ومن ثم فان افكاره بهذا الخصوص يمكن ان تمثل حلقة من حلقات نظرية العقد الاجتماعي التي طورت بعد ذلك على يد هوبز ولوك وروسو فميلتون يشير في كتاب له صدر عام 1649 إلى ان الناس ولدوا احراراً، وان الخطأ الأول كان قد نهض مع خطيئة آدم، ولكي يستطيع الأفراد الطيبون العيش بسلام وتجنب الأشرار والسيئين، فقد اتفقوا على صيغ عامة لربط أنفسهم بهدف الخلاص من الأذى المشترك، وليدافعوا عن انفسهم ضد أي معارض أو معتدي أو مخلٍ بهذا الاتفاق.(27)

3. توماس هوبز
ولد هوبز عام 1588 وتوفي عام 1679 حيث عاش هذا الفيلسوف الانكليزي خلال الحرب الأهلية 1642-1651 وربما كان لهذا الأمر تأثير على تأييده لفكرة الحكم المطلق إذ كانت أعظم الحاجات الملحة لإنكلترا في تلك الفترة تتمثل في حكومة قوية تحافظ على القانون والنظام،(28) والحقيقة ان هوبز كان قد بدأ التعبير عن آراءه في السياسة عندما ترجم أعمال ثيوسيديدس مشيراً إلى عيوب وشرور الديمقراطية إثر مطالبة أعضاء البرلمان الانجليزي سنة 1628 بتنفيذ وثيقة الحقوق، وفي سنة 1615 نشر كتابه التنين (Leviathan) الذي لم يلق القبول والترحيب به لا في فرنسا التي كان يعيش فيها بسبب هجومه على الكنيسة الكاثوليكية ولا من أقرانه الانجليز المقيمين في فرنسا مما أضطره للرجوع إلى انكلترا بعد ان وعد كرومويل ان لا يعمل في الحقل السياسي.(29)
وفي تبريره لكيفية قيام الدولة وما يتمتع به الحاكم من سلطان مطلق يؤكد هوبز على ان الإنسان ليس كائناً اجتماعياً بطبيعته كما تصوره أرسطو لكنه مخلوق اناني محب لنفسه لا يعمل إلا بالقدر الذي تتحقق فيه مصالحه الشخصية وهذا ما قاد إلى ان تكون حياة الإنسانية الأولى حياة صعبة تسودها الفوضى والاضطراب حيث سيطر الأقوياء فيها على الضعفاء وبما ان الفرد اناني بطبعه فان هذه الصفة قد ولدت لدى الأفراد ضرورة التعاقد على ان يعيشوا تحت رئاسة أحدهم يتنازلون له عن حقوقهم الطبيعية كافة وترتب على ذلك التعاقد ان تحول الأفراد للعيش في حياة اجتماعية بدل العيش في حياة الفطرة التي كانت تقود إلى حرب الكل ضد الكل، وفي الحالة الطبيعية يقرر هوبز، انه لا توجد ملكية ولا عدالة أو ظلم، لكن هناك حرب ضروس وقاسية، وفي مثل هذه الظروف لا يظهر من الفضائل إلا القوة والخداع، وهكذا فقد تخلص الأفراد من شرور حياة الفطرة الأولى عن طريق الانصياع لقوة مركزية قادرة على حفظ الأمن وتوفير الاستقرار لمصلحة الجميع، وهو ما تم عن طريق العقد الاجتماعي، وأساس هذا العقد عند هوبز انه تم بين الأفراد وحدهم حيث يتعاقد كل فرد مع غيره من الأفراد لمصلحة الحاكم الذي لم يكن طرفاً بهذا العقد، وهذا يعني ان العقد سيكون ملزماً للأفراد بما يتضمنه من التزامات دون ان يلتزم الحاكم بأي شيء طالما انه ليس طرفاً فيه ودون ان يتنازل الحاكم عن حقوقه الطبيعية التي كان يتمتع بها في حياة الفطرة، ومن ثم فان الأفراد عن طريق هذا العقد يحولون سلطتهم السياسية إلى الحكام، وهو ما سيجعل حقوق الأقلية والأكثرية تحت رحمة السلطة الحاكمة التي تستطيع ان تقرر لهم نوعية الحقوق التي يمكن ان يتمتعوا بها، ومن ثم فانه لا يحق للأفراد الثورة والخروج على السلطة الحاكمة لان الحاكم مجرد شخص مستفيد من العقد الذي تم بين الأفراد، وهذا يعني بالنتيجة انه لا مجال للحديث عن الديمقراطية في فلسفة هوبز،(30) طالما لا يمكن الحديث عن تقييد سلطة الحاكم أو سلطة الدولة فهوبز وضع الأساس النظري لدولة مطلقة السلطات مبنية على تعاقد وقبول حر، والأساس النفسي لهذه النظرية هو الخوف.(31)
4. جون لوك
ولد لوك عام 1632 وتوفي عام 1704 وهو أكبر أعداء الحكم المطلق وممثل الحركة الليبرالية في أوربا والذي جاءت أفكاره متطابقة مع آراء أنصار المذهب الحر فقد كرس حياته للدفاع عن الحرية ومعاداة الاستبداد والتحكم، كما يرجع إليه الفضل في إعطاء الثورة الانكليزية سندها الفكري والفلسفي ضد أسرة آل ستيوارت عندما عبر عن فلسفته في كتابه عن الحكومة المدنية الصادر سنة 1690 وقد أسهم في تحليله لفكرة العقد الاجتماعي في إقامة نظرية السيادة الشعبية كما شارك في اقامة مبدأ الفصل بين السلطات.(32)
ينطلق لوك من مبدأ ان الحكومة المدنية انما هي نتيجة عقد اجتماعي وهو يتفق مع هوبز في وجود حياة فطرية عاشها الإنسان قبل ان ينتقل إلى حياة الجماعة وان العقد الاجتماعي هو الذي نقل الأفراد للعيش من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة أو المجتمع المنظم سياسياً لكنه أختلف مع هوبز في ان حياة الفطرة لم تكن حياة فوضى سادت فيها سيطرة الأقوياء على الضعفاء إذ ان لوك يرى ان حياة الفطرة كانت حياة فاضلة يسودها القانون الطبيعي وأهم مبادئه الحرية والمساواة، وبما ان الأفراد أرادوا الانتقال إلى حياة أفضل فقد عمدوا إلى تنظيم الحريات التي يوفرها لهم القانون الطبيعي ودفع الاعتداء الذي يمكن ان يقع عليهم فقد تعاقدوا فيما بينهم على أن يقيموا سلطة تتمثل في شخص أو مجموعة من الأشخاص يمثلون المجتمع بأكمله وبناءاً على ما تقدم فالعقد الاجتماعي عند لوك قد تم بين الشعب من جانب والحاكم من جانب آخر من أجل إقامة العدل وتنظيم الحريات التي كان الأفراد يتمتعون بها في حياة الفطرة، فلوك يعتبر الحاكم طرفاً في العقد بعكس هوبز وترتب على العقد الاجتماعي طبقاً لمفهوم لوك ان الأفراد أو الشعب لم يتنازل للحاكم عن حقوقه كاملة ولكنه تنازل له عنها بالقدر الذي يقيم السلطة وهذا ما لم يقل به هوبز، كما أكد لوك على ان سلطة الحكام مقيدة وليست مطلقة وأساس التقييد هو ما تضمنه العقد من التزامات متبادلة إذ ان الحاكم مقيد باحترام حقوق الأفراد التي لم يتنازلوا عنها كما انه ملزم بإقامة العدل بينهم في مقابل التزام الأفراد بواجب الطاعة تجاه الحاكم في حدود العقد أما إذا تجاوز الحاكم صلاحياته بموجب العقد واعتدى على حقوق وحريات الأفراد فان الحق سيكون ثابتاً لهم في مقاومة الحاكم وعزله.(33)
عليه فان نظرية لوك هي نظرية ديمقراطية تُقر بمسؤولية الدولة أو الحاكم حيث يستطيع الأفراد معارضته لكن الشيء الوحيد الذي يقيد ويحد من ديمقراطية لوك هو انه يخرج من لا يملك عقاراً من قائمة المواطنين، ومن ثم فهو يقصر المواطنة على جزء معين من الشعب.
ويرى لوك ان من غير المقبول وهو يعد خطأ في ان تملك الدولة كل السلطات وتحكم حكماً مطلقاً، ولابد للسلطة القضائية ان تتمتع بالاستقلال عن السلطة التنفيذية(34) التي تكون سلطة خاضعة وتسمو السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية وهي تستمد هذه المكانة من حقيقة قيامها بسن القوانين المعبرة عن الصالح العام، فلوك يتصور الفصل بين السلطات على انه نوع من القانون الذي يتحقق عبر تحقيق التوازن بينها ولكن هذا التعاون يميل لمصلحة السلطة التنفيذية إذ ان هذا التوازن يتحقق عبر دور أساسي للملك.(33)
5. مونتسكيو
ولد مونتسكيو عام 1689 وتوفي عام 1755 وهو يعد صاحب الفضل الحقيقي في تقديم تحديد واضح لمبدأ الفصل بين السلطات عندما عرض فهمه لهذا المبدأ في كتابه الشهير (روح القوانين) الصادر سنة 1748. وهو يقر بوجود ثلاث سلطات حيث تتكون السلطة التشريعية من مجلسين باعتبار وجود اناس متميزون عن عامة الشعب بسبب المولد أو الثروة، ومن ثم فان لهم مصلحة خاصة من الضروري تمكينهم من الدفاع عنها وعنده فان اختصاصات المجلسين متساوية إلا انه عند التعارض سيقتصر اختصاص المجلس الثاني على الاعتراض فقط، أما السلطة التنفيذية فهي توضع بيد الملك ويسميها السلطة المنفذة للقانون العام، أما السلطة القضائية فيسميها السلطة المنفذة للقانون الخاص.(36)
ويؤكد مونتسكيو على ان الحرية تتحقق بتقييد السلطة أياً كانت هذه السلطة فجمع السلطة في يد واحدة يعد خطراً على الحرية ولا يمكن ان توجد الحرية مع جمع السلطات الثلاث، فالفصل طبقاً لرأيه هو الوسيلة الوحيدة الفعلية لتأمين الحرية وهو يبرر هذا المبدأ بثلاثة اعتبارات هي:
1. ان التجارب البشرية قد أثبتت ان من يتمتع بسلطات واسعة غير محددة سيسيء استعمالها، وهذا ما يجعل من الضروري ان يقوم النظام السياسي على أساس مبدأ الفصل بين السلطات.
2. ان مبدأ فصل السلطات هو الوسيلة الوحيدة التي تكفل احترام القوانين وتطبيقها بصورة صحيحة.
3. اعتقاد مونتسكيو ان النظام الانجليزي في عصره الذي كان معجباً به يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات.
ولتحقيق هذا المبدأ يشير مونتسكيو إلى ضرورة ان تتمتع كل سلطة بقدرة البت في الأمور التي تدخل في اختصاصها فالبرلمان يسن القوانين وهكذا بالنسبة لبقية السلطات، كما انه يجب ان تتمتع كل سلطة بقدرة المنع أي ان لكل سلطة سلطة منع السلطات الأخرى في ان تتدخل باختصاصاتها.(37)
والخلاصة ان آراء مونتسكيو تنتهي إلى إقرار أمرين:
الأول التخصص بالنسبة لكل سلطة في مباشرة وظيفتها فضلاً عن ضرورة التعاون مع السلطات الثلاث. أما الأمر الثاني فهو الرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث.(38)
6. جان جاك روسو
ولد روسو عام 1712 وتوفي عام 1778 وهو يمثل مرحلة مهمة في تأريخ الفكر الديمقراطي إذ يعد كتابه العقد الاجتماعي الصادر عام 1762 من أوضح وأقوى الكتب التي كتبت عن نظرية السيادة الشعبية ولهذا فانه لا يمكن انكار أثره على التطور الديمقراطي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما لعب روسو دوراً فكرياً مهماً في التمهيد للثورة الفرنسية فكثيراً من قادتها يعدون من مؤيدي روسو والمعتنقين لآرائه، وقد صدر إعلان الحقوق الفرنسي عام 1789، ليسجل الكثير من آراء هذا الفيلسوف كسيادة الشعب، والحريات الفردية، والقانون يعبر عن الإرادة العامة.(39)
فروسو دعا للديمقراطية المباشرة وأنكر نظرية الحق الإلهي للحكام وكان يعتقد ان الديمقراطية المباشرة هي النظام الأمثل للحكم أما الحكومة التمثيلية فيسميها انتخاب الارستقراطية.(40)
وهذا يعني انه لا يوافق على النظام النيابي وهذا الاتجاه يتفق مع ما كان يعتقده حول فكرة السيادة إذ انها عند روسو غير قابلة للتصرف كما انها غير قابلة للانقسام وعلى هذا الأساس فان السيادة لا يمكن نقلها لأنها تجد التعبير عنها في الإرادة العامة، ولا يتصور ان تحل إرادة شخص محل إرادة شخص آخر فروسو بالنتيجة يرفض النظام النيابي القائم على فكرة الديمقراطية غير المباشرة التي قال بها لوك ومونتسكيو.(41)
بدأ روسو كتابه العقد الاجتماعي بعبارة (ولد الإنسان حراً، إلا انه مكبل بالأغلال في كل مكان، وعلى ذلك فهو الإنسان يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية).(42)
يستهدف روسو إقامة ديمقراطية مباشرة من خلال فكرته عن العقد الاجتماعي فهو يقول بتنازل الأفراد عن جميع حقوقهم الطبيعية لا لشخص معين بالذات ولا لأشخاص معينين بالذات كما ذهب هوبز ولوك ولكن التنازل المذكور للمجتمع بأكمله وهذا هو أساس مبدئه الشهير ألا وهو مبدأ السيادة الشعبية.
يضاف إلى ذلك ان الأفراد حين تنازلوا عن حقوقهم الطبيعية لم يفقدوا جميع تلك الحقوق عملياً إذ انهم استعاضوا عنها بحقوق مدنية تضمن لهم حياة أفضل وهي حقوق أكثر فعالية من تلك الحقوق التي كانوا يتمتعون بها في حياة الفطرة فالحقوق المدنية مضمونة من جانب السلطة السياسية والتعاقد عند روسو وظيفته تتمثل في إحلال الإرادة العامة محل الإرادة الفردية، ويؤكد روسو على ان حياة الفطرة كانت حياة سعيدة وان السلطة لا يمكن ان ترتكز على القوة أو على حق الفتح وإلا فان هذا سيقود إلى انكار الحق بصورة كلية وطالما ان الأفراد في حياة الفطرة كانوا أحراراً متمتعين بكامل حريتهم ومتساوين مع بعضهم فهم لا يستطيعون الانتقال إلى حياة الجماعة أو حياة المجتمع المدني المنظم إلا بموجب اتفاق حر يتم بينهم وهذا ما حصل عندما تم الاتفاق بإجماع الإرادات الحرة للأفراد وهو اتفاق يتم لصالح الجماعة لا لمصلحة فرد أو مجموعة من الأفراد وهدف هذا التعاقد تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية لمصلحة المجتمع وما دام هذا التنازل يتم دون تحفظ من قبل الأفراد فليس لأحدهم ان يطالب بشيء وبهذا الشكل يتحقق مبدأ المساواة كما انه ما دام كل فرد قد تنازل عن حقوقه للمجتمع فانه لن يكون هناك من يدفعه الى التعدي على الآخرين وفي هذا تحقيق لمبدأ الحرية إلا ان التنازل عن الحقوق الطبيعية يقابله كما ذكرنا تمتعهم بحقوق مدنية حيث يقوم الشخص العام الذي أقاموه بحمايتهم وبذلك يكون روسو قد اختلف عن هوبز الذي جعل التنازل يتم بصورة كلية لصالح الحاكم، كما أختلف مع لوك الذي قصر هذا التنازل على بعض الحقوق دون البعض الآخر وبذلك فانه طبقاً للعقد الاجتماعي الذي طرحه روسو فان السلطة أو السيادة تكون للجماعة أي انه أقر بمبدأ السيادة الشعبية الذي يعبر عنه بمبدأ سيادة القانون بوصفه تعبيراً عن الارادة العامة.(43)
ويلاحظ على عقد روسو الاجتماعي ان هدفه الحرية ولكنه في حقيقة الأمر يعلي من شان المساواة حتى وان كان ذلك على حساب الحرية.(44)
والخلاصة ان النظام الذي جاءت به أفكار روسو يقوم على فكرتين أساسيتين هما:
1. الحرية الديمقراطية، ويراد بها الاستقلال الفردي بمعنى خضوع الفرد للقانون الذي يشارك في صنعه كما انها تعني تأكيد حرية الفرد بشرط ان لا تتجاوز حرية غيره، ومن ثم فالحرية بهذا المعنى لا توجد في النظام النيابي.
2. المساواة، ويراد بها المساواة في الاستقلال الفردي والمساواة في الحريات فهي تفهم بمعنى رفض ان تكون الحرية امتيازاً للبعض دون البعض الآخر، ولاضمان في ان تكون الحرية للجميع إلا بالمساواة(45) وينتهي روسو إلى الربط بين الحرية والمساواة عن طريق عمومية القانون واستبعاد كل سلطة شخصية.(46)
أخيراً من الضروري الإشارة إلى ان الإرادة العامة الحرة التي يتحدث عنها روسو هي عبارة عن قوة ميتيافيزيقية خارجة عن نطاق الطبيعة، كما ان روسو لا يعتقد بمبدأ فصل السلطات.(47)
7. آدم سميث
ولد سميث عام 1723 وتوفي عام 1790(48) وهو اقتصادي اسكتلندي شهير نظر إلى المجتمع الانكليزي، خارج نطاق الطبقة المسيطرة وهو يعتقد انه مجتمع مليء بالصراع لا يحكمه قانون مستقر أو متزن وأخلاقيات أفراده سيئة جداً، فالنساء والأطفال يعملون في مناجم الفحم ويتقاضون أجوراً بخسة ولا يرون النور، والحقيقة ان الحياة الاجتماعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر كانت توصف بأنها من أسوء ما يمكن ان يشاهده ويعيشه إنسان.
أصدر سميث كتابه الشهير المعروف باسم (ثروة الأمم) الذي ناقش فيه قضية هامة تتلخص في كيفية استمرار المجتمع في مسيرة الحياة رغم التباين الموجود بين أفراده واختلاف توجهاتهم. بمعنى كيف يضع الفرد نصب عينيه البحث في منفعته الخاصة أولاً بحيث تأتي في النهاية مصلحة المجتمع؟(49)
يقول سميث ان الأفراد لا يتعاطفون معهم لأنهم إنسانيين ولكن التعاطف ناتج عن حب مصلحتهم الخاصة وهذه هي التي تدفع الأفراد إلى العمل إلا ان المجتمع الذي يعمل افراده بدافع المصلحة الخاصة هو مجتمع ضعيف ومتضعضع، ولكن المنافسة بين الأفراد هي التي تخلق المجتمع القوي، إذ ان الباحثون عن المصلحة الخاصة مقيدون بما تمليه عليهم اعتبارات المنافسة مع الآخرين التي تفرض عليهم تقديم أفضل ما عندهم أثناء العمل تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة على المدى الطويل، وهذه المصلحة الخاصة طبقاً للاعتبارات المتقدمة تولد بطبيعتها نتيجة للمنافسة في السوق نتائج لصالح المجتمع وهو ما يطلق عليه بالانسجام الاجتماعي.(50)

أما هدف سميث الأول في هذا الكتاب فكان إبعاد العوامل المؤثرة كسيطرة الدولة أو غيرها على فعاليات السوق التجاري فهو يؤكد على ان عدم التدخل في قوانين السوق أمر مهم لتأخذ عوامل التقدم مجراها من دون تدخل من أحد وبهذا الأسلوب ينتشر الغنى ولا يكون هناك هوة كبيرة بين الرأسمالي وبين الفقير وأفكار بهذا الشكل تنطبق على بريطانيا في القرن الثامن عشر.
سميث رأى كذلك ضرورة انتصار العقلانية فهو القائل (لا تحاول ان تعمل صالحاً، ولكن دع العمل الصالح يبرز من خلال الانانية) وقد ناصر سميث تحرير الرقيق ذلك ان هذه الخطوة أصح على المدى الطويل.(51)
مما تقدم يبدو واضحاً ان أفكار سميث قد لعبت دوراً مساعداً في بلورة النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة إذ انها تدعو إلى دور محدود أو ثانوي للدولة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فالدولة التي أرادها سميث هي دولة حارسة توضع في خدمة المجتمع، فالدولة تمنح المجتمع شكله القانوني بإمساك النظام فيه، ويبقى للمجتمع أولويته على الدولة ويخضعها لسلطانه والتعبير الاقتصادي لهذه القاعدة (دعه يعمل، دعه يمر).(52)
8. جيريمي بينثام
ولد بينثام عام 1748 وتوفي عام 1832 وهو فيلسوف ورجل قانون بريطاني أهتم بدراسة طبيعة علم العقاب وأنظمة السجون، وقام عام 1776 بنشر كتابه (شيء عن الحكومة) هاجم فيه صيغة القانون في انكلترا في ذلك العهد، وقبيل عام 1780 صاغ بينثام نظرياته حول فلسفة التشريع، وتتسم فلسفته التي يطلق عليها اسم مذهب المنفعة بتحقيق أعظم الخير لأكبر عدد من الناس، وبان العقاب انما هو عمل من أعمال الشر أو هو عمل غير مشروع في ذاته ولا يمكن تبريره إلا إذا كان ذلك العقاب يحول دون وقوع شرور أكبر، وهكذا يبدو جلياً ان بينثام تمكن في العصر الذي عاش فيه من تحديد الحاجة إلى جمع القانون الجنائي وتنسيقه وإجراء الاصلاحات عليه، وكان لهذا الفيلسوف تأثيرا كبير في جيل من الحقوقيين الذين كانوا مثله دائمي الهجوم على سوء استخدام العدالة وأساليب الالتفاف حول القوانين.(53)
9. جون ستيوارت ميل
ولد جون ستيوارت ميل عام 1808 وتوفي عام 1873 حيث ربط بين الديمقراطية والدولة المثالية، فهو في كتابه (الدولة التمثيلية) يقرر ان أفضل أنواع الدول والحكومات هي التي تكون السيادة فيها أو القوة المركزية العليا لتسيير شؤون الدولة في يد أفراد المجتمع حيث لكل مواطن الحق في المشاركة السياسية، وهو يؤكد بان النظام الديمقراطي وان كان ليس النظام المثالي إلا انه أفضل الأنظمة الموجودة وهو ينطلق من ضرورة ان يتمتع الجميع بالحرية والمساواة.(54)
أخيراً يبدو من خلال استعراض الآراء المقدمة لفكرة الديمقراطية وارتباطها بحقوق الأفراد الخوف الكبير من حكم الطغاة هذا الحكم الذي لا يظهر فقط من خلال حكم الفرد الواحد أو المجموعة الصغيرة من الأفراد بل ان هذا الشكل من أشكال الحكم يمكن ان يظهر من خلال حكم الكثرة على حساب القلة.(55)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:00 pm

المطلب الثالث- النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة
تطرقنا في المطلب السابق إلى الأصول الفكرية للحقوق والحريات الأساسية للأفراد، وقد ظهر جلياً المحاولات المستمرة لإبراز القيمة العليا للفرد باعتباره الهدف النهائي وما الدولة إلا وسيلة لتأمين حقوق الأفراد والموازنة بينها ولتحقيق المصالح المشتركة أو الصالح العام، وهذه مسألة ارتبطت في قيامها بإعلانات حقوق الإنسان والمواطن وبظهور حركة الإصلاح الديني البروتستانتي قبل ذلك وظهور الطبقة البرجوازية فهناك علاقة متبادلة بين هذه العوامل وان كانت من الصعب تحديد طبيعة هذه العلاقة فيما إذا كانت مجرد علاقة تزامن تاريخي أم انها علاقة السبب بالنتيجة،(56) وهنا من الضروري الإشارة إلى أبرز الشخصيات الفكرية التي ذكرنا والتي مثلت أفكارهم الأسس الفكرية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية قد تأثر بعضهم بالآخر فروسو يعتبر جروشيوش أستاذ علم السياسة، وليس تأثير لوك في مونتسيكو بخافٍ على أحد، بل ان لوك قد أثر في روسو كذلك إلى حدٍ كبير كما تأثر الأخير بهوبز عندما اقتبس منه فكرة العقد الاجتماعي والمجتمع المدني ولكن الفرق يبقى قائماً بين علماء الحقوق الطبيعية وفلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر إذ تحاشى علماء الحقوق الطبيعية الوصول إلى النتائج المنطقية الجريئة لأفكارهم نتيجة تمتعهم بحماية أمراء أوربا إلا ان النتيجة قد أدت إلى تبلور مفهوم يمكن ان نطلق عليه النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة.(57)
عليه سنحدد في هذا المطلب مفهوم النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة والانتقادات الموجهة إليها:
الفرع الأول- الأسس التقليدية لنظرية حقوق الأفراد العامة
إذا كانت البذور الأولى للمذهب الفردي قد ظهرت خلال العصر الوسيط من خلال طبيعة السياسة المتمثلة بانحلال السلطة المركزية فيه وإحلال الولايات محلها، والحركة الفكرية التي نشطت أثنائه عندما أورد اللاهوتيون المبادئ الطبيعية(58) إلا ان هذه الأفكار لم تتبلور بشكل كامل إلا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر على يد مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين سبق لنا ان تعرضنا لأفكارهم.
ان المذهب الفردي التقليدي، ذو أسس متعددة فقد وجد أساسه أولاً في نظرية القائلين بالقانون الطبيعي ومضمونها وجود قانون يحمل بعداً أخلاقياً كبيراً ومفاهيم منطقية وهو سابق على كل تشريع وضعي ومستقل عنه، وهذا ما يرتب التزاماً على الدولة بضرورة احترامه ثم جاءت نظرية العقد الاجتماعي التي بلغت أوجها على يد جان جاك روسو، كما قدر الاعتراف بالحقوق الفردية من خلال ضرورة ان يتم النظر إلى كل إنسان باعتباره متمتع بالكرامة الإنسانية كونه أسمى مخلوقات الله عز وجل،(59) فالشخصية الإنسانية شخصية حرة وعاقلة، ومن ثم فهي تتمتع بحقوق تستمدها من ذات القيمة الإنسانية السامية ويتعين على كل نظام حكم ان يحترم هذه الأسس من خلال التعبير عنها في قوانينه، ولعل أكثر الأفكار شيوعاً في نطاق المذهب الفردي التقليدي هما حالة الطبيعة والعقد والاجتماعي، فالحقوق الطبيعية للإنسان واحدة بالنسبة لجميع أفراد الجماعة وفي كل زمان ومكان، وهذا يعني وجود قانون نموذجي واحد يسمى القانون الطبيعي وهو شبيه بتسميتنا لحقوق الإنسان بالحقوق الطبيعية ويرتب ذلك التزاماً على الفقه بضرورة البحث عن مضامين هذا القانون واستجلاء قواعده وعلى المشرعين تسجيل هذه القواعد في قوانينهم الوضعية وحيث ان الأفراد يولدون أحراراً فان القيود الواردة على حرية كل فرد التي تستلزمها الحياة الاجتماعية من الضروري ان تكون متساوية بالنسبة للجميع، لأنها إذا لم تكن في حقيقة الأمر بهذا الشكل أي متساوية فسيختلف ما لكل فرد من حرية عما لغيره فالمساواة إذن، وان لم تكن في الواقع حقاً طبيعياً إلا انها واجبة للإبقاء على حقوق الفرد الطبيعية، إذ ان القاعدة القانونية إذا لم تقم على المساواة فقد انتقصت بشكل أو بآخر من الحقوق الطبيعية لفرد من الأفراد.(60)
فالقانون الطبيعي هو المثل الأعلى الذي يراد الوصول إليه وتحقيقه، فباسم هذا القانون يدان الواقع الموجود بهدف اقامة نظام آخر بديل له، ففي القرن الثامن عشر كان القانون الطبيعي يمثل طموحات الطبقة الثالثة (الطبقة البرجوازية) فباسمه وانطلاقاً منه أريد إدانة النظام الملكي المدعوم من الطبقة الارستقراطية، والحقيقة ان هناك محاولات قد تمت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لإحياء فكرة القانون الطبيعي نتيجة المآسي التي تركتها الحرب في نفس الشعب الألماني ففي هذا القانون يجد الأفراد مثلاً أعلى وتكمن وراءه أيضاً آمال وطموحات الطبقات الجديدة التي تسعى إلى تحقيق نظام قانوني جديد، فالإنسان حين يجد نفسه مطوقاً ومحاصراً بالأوضاع الصعبة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فانه يسعى الى تجاوز هذه الأوضاع باسم البحث عن العدالة المطلقة وقد أحسن من قال (ان تاريخ القانون الطبيعي هو قصة بحث الإنسان عن عدالة مطلقة وفشله في ذلك).(61)
كما تجد النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة أساسها في العقد الاجتماعي إذ ان الجماعة لا تقوم على إرادة منفردة لكنها تفترض توافق أكثر من إرادة فرد على تأسيس الجماعة وهذا ما تم بواسطة العقد الاجتماعي وكما كان الفرد هو السابق في وجوده للجماعة أو هو علة الجماعة أو سبب وجودها فانه يجب اخضاع الغايات والأهداف الجماعية للغايات والأهداف الفردية، ومهمة الجماعة تقتصر على ضمان غايات الأفراد وترك إرادتهم حرة في تحقيقها، ومن ثم فان حرية الأفراد هي أساس وجود الجماعة وقوانينها،(62) فالنظرية التقليدية تخلص إلى:
1. ان سيادة الدولة وسلطتها العامة تجد الأساس القانوني لها في تراضي الأفراد المكونين لها والمعبر عنها بالعقد المبرم بينهم.
2. ان الجزء الذي يحتفظ به الفرد من حريته هو حق طبيعي له وهذا يعلو على سيادة الدولة وسلطتها العامة ويقيدها فلا سلطان مطلق للدولة أو من يمثلها سواء كان ملكاً أو أميراً أو غير ذلك من المسميات إلى ان هناك حدوداً لسيادة الدولة.
وإذا كانت النظرية الفردية ذات أسس متعددة فإنها تبقى ذات وحدة حقيقية تظهر من خلال النتائج الآتية:
1. ان الدولة ليست مطلقة السلطان وهذا يرتب نتيجة مضمونها عدم إمكانية ان تفرض قواعد قانونية للتطبيق كما تريد أو دون قيود وهذا الأمر يشمل كذلك الفئات أو المسميات الأخرى كالأمة والجنس والطبقة والأسرة.
2. يجب احترام الحقوق الفردية على مستوى الأهداف والوسائل فلا يمكن تبرير الاستبداد لمجرد السعي إلى خلق أوضاع أفضل في المستقبل لحياة تسودها مبادئ الحرية فالغاية لا تبرر الوسيلة.
3. ان كل عمل يستهدف تحقيق المصلحة العامة يفترض وجود تضحيات من جانب الأفراد ولكن هذه التضحيات مقيدة بضرورة مراعاة الحقوق الفردية.(63)
4. ان دور الدولة هو دور قانوني في العلاقات الاجتماعية وأساس هذه النتيجة بنيت على بعض الملاحظات الاقتصادية بمعنى وجود انسجام طبيعي يتحقق في حالة ترك نشاط الأفراد حراً دون تدخل من الدولة التي ربما يعرقل تدخلها النشاط الاقتصادي فتحقيق الانسجام الاجتماعي سيقوم عندما تعمل بالقاعدة الاقتصادية التي تقول دعه يعمل دعه يمر.(64)
الفرع الثاني- الانتقادات الموجهة إلى النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة
يمكن إجمال أهم الانتقادات التي وجهت إلى النظرية التقليدية في حقوق الأفراد العامة بالآتي:
1. حالة العزلة لا وجود لها، ففكرة الإنسان المنعزل الذي يعيش في حالة طبيعية سابقة على دخوله لحياة الجماعة هي فكرة ميتافيزيقية أي انها فكرة تعدو الطبيعة وتتجاوز المسلمات الفعلية.
2. الإنسان كائن اجتماعي بطبعه وهو لم يعيش منعزلاً قط إذ ان طبيعته لا تمكنه من ذلك فما يمكن ان يعتد به الباحث ليس هو الفرد في حد ذاته بل الإنسان في المجتمع.
3. المساواة المطلقة بين أفراد الجماعة غير واقعية فالأفراد يختلف بعضهم عن البعض الآخر ولا تعمل المدنية على إزالة هذه الاختلافات بل تزيدها.
4. ان فكرة وجود قانون مثالي عام هي فكرة من نسج الخيال ولا وجود لها.
5. فكرة الحق الطبيعي السابق على الجماعة غير صحيحة.
6. انتفاء الالتزامات الإيجابية على عاتق الدولة إذ ان الأخيرة هي عبارة عن دولة حارسة حسب النظرية التقليدية وقيام الدولة بأي عمل إيجابي يعتبر حسب معيار هذه النظرية اخلالاً بالأساس الذي قامت عليه.
7. عدم قدرة النظرية الفردية تقييد الدولة بالقانون.
8. انهيار فكرة المجال الفردي فلم يعد هناك في تطور الفكر القانوني الحديث مجالاً معيناً يمنع ان تنظمه الدولة.

المطلب الرابع
المفهوم الماركسي لحقوق الإنسان
بدأ ماركس وانجلز تأسيس التصور المتعلق بحقوق الإنسان في أفكارهما بإدانة ما وصفاه بالنظرة البرجوازية لحقوق الإنسان واصفين إياها بالزيف والخداع وتبدأ نقطة البداية في المذهب الماركسي بقضية حقوق الإنسان من تصور للحرية مضمونه ان الإنسان عاش أسيراً للطبيعة حتى استطاع ان يفهم بعض جوانبها وأسرارها عندما تمكن من تسخيرها أو جزء منها لمصلحته غير انه سرعان ما ظهرت مشاكل على المستوى الاجتماعي نتيجة نمو الملكية الخاصة وما أفرزته من طبقات اجتماعية، عاش أفرادها أسرى لوضع اجتماعي قائم على الاستغلال، وقد اعتقد ماركس وانجلز ان هذا الاستغلال يبلغ ذروته في النظام الرأسمالي ولمعالجة هذا الوضع فان النظرة يجب ان ترتكز على أسلوب الإنتاج إذ يشكل العامل المهم والذي يحدد مجموع الحياة الاجتماعية، فالحرية ليست قيمة في حد ذاتها لكنها ترتبط بحياة الإنسان الاجتماعية وتحقيق هذه الحرية يتم من خلال إزالة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وبالشكل الذي يتيح للفرد التأثير في مجمل مظاهر الوجود الاجتماعي فالحرية تنشأ في إطار المضمون الاجتماعي والاقتصادي للتنظيم الاشتراكي ويترتب على النظرة المتقدمة ان المعنى المتقدم للحقوق طبقاً للماركسية لا يمكن ان يقوم إلا في ظل السلطة الاشتراكية.(65)
والحقيقة ان الماركسية قد أوحت الى النظام الرأسمالي بضرورة مراعاة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما تم فعلاً حتى في المجتمعات الغربية لكن في مرحلة لاحقة وبأسلوب مختلف.(66)

المبحث الثاني
حقوق الإنسان في شرعات وإعلانات الحقوق والثورات والدساتير
لم تكن الحقوق والحريات التي حصلت عليها الشعوب وليدة منحة من الملوك لكنها كانت نتيجة لانتفاضات وثورات قامت ضد الملوك أصحاب السلطان المطلق تم من خلالها تقييد هذا السلطان بصورة تدريجية وسيكون من المناسب التعرض لتطور مسعى الشعوب في المطالبة بحقوقها وحرياتها في أشهر البلدان التي شهدت تطورات بهذا الخصوص وهي إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
المطلب الأول
إنكلترا
يميل الشعب الإنكليزي إلى التطور البطيء نظراً لطبيعة المحافظة ونتيجة لذلك يلاحظ ان الوثائق الدستورية في هذا البلد انما كانت عبارة عن ترديد وإحالة من جانبها إلى الحقوق والحريات التي يتمتع بها الإنكليز سابقاً.(67)
وفي ضوء تعريف العميد هوريو لفكرة الدستور الاجتماعي المقصود به (مجموعة القواعد التي تعلن وتؤكد تأسيس الحياة الاجتماعية، وتبين أنواع الحريات العامة التي يحرص المجتمع عليها وبالتالي تحدد علاقة المواطن بالدولة، فالدستور الاجتماعي يمس حياة كل فرد ويؤثر في سعادته الشخصية ويحظى باهتمام كل فرد يعيش في المجتمع) ومسلك الشعب البريطاني يبرز اهتمامه بفكرة الدستور الاجتماعي إذ حرص هذا الشعب على تدوين الدستور الاجتماعي في وثائق تاريخية عبرت أهمها عن قدرة هذا الشعب في مراحل مختلفة من تاريخه على انتزاع حقوقه من الملوك أصحاب السلطات المطلقة حيثما سمحت الظروف بذلك، ومن أهم هذه الوثائق يمكن الإشارة إلى المواثيق الآتية:
الفرع الأول- العهد الأعظم 1215
من أقدم الوثائق التي ثبتت مجموعة من الحريات وارتبطت بالنزاع الذي نشب بين الملك جون والأشراف نتيجة قيام الملك بفرض الضرائب التعسفية وزج خصومه في السجن دون سبب مشروع مما أدى إلى ثورة الأشراف والقبض عليه حيث ألزم بتوقيع هذه الوثيقة المكتوبة وتم تجديد وتأييد العمل بما ورد فيها في الأعوام 1216، 1217، 1225، 1297 مع إدخال بعض التعديلات، وأهم نصين جاء بهما العهد الأعظم هما نص المادة (39) التي أكدت على عدم جواز القبض على شخص أو حبسه أو تجريده من حريته أو حرمانه من حماية القانون أو نفيه إلا بحكم قضائي صادر عن المحلفين طبقاً للقانون، أما نص المادة (40) فقد جاءت على لسان الملك ومضمونها (لن نرفض أو نتعصب أو نتساهل في تطبيق القانون وإيفاء العدالة).
ان قيمة هذه الوثيقة مستمدة من تسجيلها لمبدأ خضوع الملك لحكم القانون وان مقاومة استبداده لا يعتبر عملاً غير مشروع فضلاً عن ضرورة أخذ موافقة دافعي الضرائب عن أية ضريبة يراد فرضها.(68)
الفرع الثاني- عريضة الحقوق 1628
أصبح وجود ممثلين لعامة الشعب في البرلمان إلى جانب الإشراف مقرراً منذ سنة 1311 وبذلك أصبح لدى البرلمان سلاح يشهره بوجه الملك عند مساسه بحريات الشعب ألا وهو الامتناع عن الموافقة على ما يحتاج الملك إلى جبايته من الضرائب.(69)
وقد صدرت عريضة الحقوق بتاريخ 7 حزيران 1628 بعد صراع بين الملك شارل الأول (1625-1649) والبرلمان، إذ اشترط البرلمان لقاء موافقته على المال الذي طُلب من جانب شارل الأول لتمويل حربه ضد اسبانيا ان يوافق على مضمون عريضة الحقوق التي تضمنت مجموعة من الحقوق والحريات الخاصة بالمواطنين وقد قبل الملك بهذا العرض، غير ان النزاع تجدد بين الطرفين بخصوص إمكانية قيام الملك بفرض الضرائب مما أدى إلى اتهامه بجريمة خيانة حقوق الشعب وحرياته وانتهى الأمر بإلقاء القبض عليه ومحاكمته أمام البرلمان الذي قضى بإعدامه.(70)
وأهم البنود التي تضمنتها هذه الوثيقة هي:
1. عدم قيام الملك بطلب الهبات والقروض الإجبارية.
2. عدم قيامه بسجن أي شخص إلا بتهمة حقيقية محددة.
3. عدم إعلان الأحكام العرفية وقت السلم.
4. احترام الحرية الشخصية.
5. عدم فرض ضرائب جديدة إلا بموافقة البرلمان.(71)
الفرع الثالث- إعلان الحقوق أو قائمة الحقوق 1689
وثيقة إنكليزية مهمة أقرت من جانب البرلمان في شباط 1689 انتهت بها سلطة الملوك المطلقة إذ أعلن أعضاء البرلمان (من أجل اقرار وتأكيد حقوقهم وحرياتهم القديمة) بطلان سلطة الملك المزعومة في تعطيل القوانين أو عدم العمل بها أو الاستغناء عنها دون موافقة البرلمان، وإبطال العمل بالمحاكم الاستثنائية وعدم مشروعية جباية الملك للضرائب بدون موافقة البرلمان، وان من حق أفراد الشعب تقديم العرائض والتظلمات إلى الملك دون جواز تعرضهم للعقاب من أجل ذلك، وان الانتخابات البرلمانية يجب ان تكون حرة، وعدم عرقلة حرية الرأي والمناقشة وكافة الإجراءات ووجوب مراعاة العدالة وعدم الافراط في العقوبات والغرامات والرسوم التي تقتضى من الأفراد، وبهذه الوثيقة أرسيت دعائم الحرية الفردية في انكلترا(72) إذ يعتبر اعلان الحقوق في نظر الفقهاء الانكليز دستور انكلترا الحديث.
والحقيقة ان المناسبة التي دعت البرلمان إلى إصدار هذه الوثيقة كانت قد ارتبطت بدعوة الشعب الانكليزي للملك وليم أوف اورانج وزوجته ماري لتبؤ العرش بعد تنازل الملك جاك الثاني عنه حيث رأى البرلمان ان هذه مناسبة لتحديد الروابط بين الملك والشعب وتأكيد حقوق الأفراد.(73)
الفرع الرابع- قانون الحرية الشخصية أو الهابياس كوربوس (عليك ان تخطر جده)
هي الوثيقة الرابعة التي وفرت ضمانة أساسية لحماية الحرية الشخصية من تعسف السلطة إذ صدرت عام 1679 وعدلت عام 1816 وبموجبها منع اعتقال أي شخص دون مذكرة قانونية، ومن حق الموقوف طلب إعادة النظر في توقيفه كما يلتزم القضاء بالتعامل مع الموقوف بحسن نية (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) وقد اقتصر تطبيق هذا القانون عند صدوره عام 1679 على المواد الجنائية ثم امتد بعد التعديل الذي جرى عليه عام 1816 إلى المواد الأخرى أي لو كان الاعتقال لسبب آخر عدا ارتكاب جريمة.(74)
الفرع الخامس- السمات المشتركة لوثائق الحقوق الإنكليزية
1. لا تتطرق هذه الوثائق عند تثبيتها لمجموعة الحقوق التي تجيء بها لأية تبريرات فلسفية أو نظرية لكنها فقط تسجل على الملك مجموعة من التجاوزات والإساءات التي تعددها هذه الوثائق حصراً وتطلب من الملك أو السلطات الإقرار بعدم العودة إلى إتيانها لأنها لا تنسجم مع الحريات وعادات المملكة ويرضخ الملك لهذه المطالب تحت تأثير الظروف بتوقيعه للوثيقة التي تقدم إليه.
2. ان هذه الوثائق ذات صبغة إنكليزية بحته حيث لا تتوجه بخطابها إلى شعوب أخرى، وهذا ما تختلف فيه هذه الوثائق عن إعلانات الحقوق التي صدرت بعد الثورة الفرنسية في فرنسا.
3. تتجه الوثائق الإنكليزية إلى تقييد سلطات الملك دون البرلمان إذ ان الشعب الإنكليزي يعتبر ان البرلمان يمثله، ومن ثم فهو لا يفكر في اتخاذ أي تدبير يحد به من سلطاته المطلقة وهذه ميزة أساسية تميز الوثائق الدستورية الإنكليزية عن مثيلاتها في أمريكا وفرنسا، كما لا يعرف القانون العام الإنكليزي التفرقة المقررة بين القاعدة القانونية الدستورية والقاعدة القانونية العادية وما تقتضيه هذه التفرقة من علوية القاعدة الدستورية على القاعدة القانونية العادية، ولهذا السبب يقال في إنكلترا ان البرلمان يستطيع عمل كل شيء إلا تحويل الرجل إلى امرأة.
4. تعد هذه الوثائق نصوصاً تشريعية يجوز للأفراد التمسك والاحتجاج بها أمام القضاء لإلزام الإدارة بمضمونها.
5. تعد هذه الوثائق وكذلك الحال مع الوثائق الأمريكية التي تضمنت حقوق المواطنين من أكثر الوثائق المحترمة من جانب الجهات التي أصدرتها ذلك ان البرلمان مع سلطاته الواسعة لا يمس بهذه الحقوق بسبب التقاليد المعمول بها في إنكلترا أو نظام المجلسين كما ان أي حزب يمس بهذه الحريات سيجد نفسه قد خسر الانتخابات إذ ان الشعب الإنكليزي لا يقبل أي مساس بحرياته فضلاً عن أهمية وجود صحافة حرة كما يلعب القضاء الإنكليزي دوراً مهماً في المحافظة على هذه الحقوق والحريات.(75)

المطلب الثاني
الولايات المتحدة الأمريكية
تعد آراء توماس جفرسون الأساس الفكري للديمقراطية في أمريكا فالديمقراطية عند جفرسون عبارة عن وسيلة لبلوغ غاية تتمثل في حرية الإنسان، ويمكن الإشارة إلى بعض الشرعات وإعلانات الحقوق الأمريكية للتعرف على مضامينها وهي:
الفرع الأول- دستور أو شرعة فرجينيا
يكتسب هذا الدستور الصادر بتاريخ 12 حزيران 1776 أهمية خاصة في ميدان الحقوق الفردية فهو أول دستور تضمن اعلاناً معتبراً لحقوق الإنسان إذ تضمنت نصوصه تعداداً لغالبية الحقوق الفردية التي أقرت بها مدرسة الحقوق الطبيعية حيث يشير إلى (ان الأفراد بحسب الطبيعة، متساوون في الحرية والاستقلال، ولهم حقوق معينة لصيقة بهم لا يملكون عند دخولهم إلى حالة الاجتماع ان يحرموا بأية صورة من صور العقود ومن هذه الحقوق على الأخص الاستفادة من الحياة والحرية ووسائل اكتساب الملكية وكذلك تقصي السعادة والأمن والحصول عليهما) كما أشار هذا الدستور إلى ان الشعب مصدر السلطات، وعلى حرية الانتخابات، وعلى ضرورة ان تتم المحاكمة أمام قاضٍ حسن النية، وعلى حرية الصحافة، وعلى عدم جواز حرمان الفرد من حريته أو حياته إلا طبقاً للقانون وبعد محاكمة يتوافر فيها عنصر المحلفين، وعلى حرية كل فرد في التعبير عن آرائه على ان يتحمل مسؤولية إساءة هذه الحرية.
والحقيقة ان دستور فرجينيا قد عد النموذج الذي سارت عليه الدويلات الأمريكية الأخرى التي تضمنت دساتيرها نصوصاً مماثلة.(76)
الفرع الثاني- إعلان الاستقلال 1776
جاء هذا الإعلان بعد الثورة الأمريكية حيث عهد الكونغرس بوضعه إلى لجنة مكونة من خمسة أشخاص بينهم جون آدمز وبنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون الذي كان له الأثر الكبير في وضع هذا الإعلان، ومن قراءة الإعلان يلاحظ انه مليء بالأفكار المعبرة عن نظرية الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي إذ قرر المساواة والإقرار بفكرة وجود حقوق غير قابلة للتخلي عنها في الحياة والحرية فضلاً عن تثبيت الحق للمحكومين في مقاومة الطغيان.(77)
إذ ان إعلان الاستقلال قد بيّن الأسباب التي دعت الشعب الأمريكي إلى الثورة مع التصريح بحقوقه السياسية المقدسة.(78)
فقد ورد في ديباجة الإعلان (اننا نعتبر الحقائق الآتية أمراً واضحاً من تلقاء نفسه، فان الناس كافة قد خلقوا متساوين، وان الخالق قد حباهم بحقوق مؤكدة غير قابلة للتخلي عنها، ومن ضمن هذه الحقوق، الحياة والحرية وتقصي السعادة، ولضمان هذه الحقوق شيدت الحكومات التي تستمد سلطتها المشروعة من رضاء المحكومين، فإذا أصبحت حكومة ما، مهما كان الشكل الذي تتخذه، هدامة لتلك الأغراض كان من حق الشعب ان يعدلها أو يلغيها، وان يقيم محلها حكومة جديدة.(79)
الفرع الثالث- السمات المشتركة لإعلانات الحقوق الأمريكية
يمكن إجمال السمات المشتركة لإعلانات الحقوق الأمريكية ودساتير الولايات التي صدرت بعد نجاح الثورة الأمريكية بالآتي:
1. تمثل الدساتير الأمريكية الحالة الأولى التي عرف فيها التاريخ الدستوري دساتير مكتوبة ملزمة أما قبل ذلك فقد اقتصر الأمر على مجرد مجموعة قواعد عرفية أو تشريعات في مسائل معينة كانت تسمى القوانين الأساسية للمملكة.
2. قامت إعلانات الحقوق الأمريكية على أسس فلسفية وتبريرات عقائدية هي نظرية الحقوق الطبيعية للأفراد إذ رأى واضعوا تلك الإعلانات كما فعل جفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي الصادر عام 1776 ان لا تقتصر الإعلانات على مجرد تعداد للحريات الفردية بل اهتموا ببيان الأساس الفلسفي بها.
3. وجهت إعلانات الحقوق الأمريكية إلى الأمريكيين فقط حالها حال إعلانات الحقوق الإنكليزية، وهذا عكس ما ذهبت إليه إعلانات الحقوق الفرنسية بعد هذا التاريخ.
4. قيدت إعلانات الحقوق الأمريكية سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية تجاه الأفراد وهذا تقدم يسجل لصالحها في مواجهة إعلانات الحقوق الإنكليزية التي حدت من سلطات السلطة التنفيذية، وتعد الإعلانات الأمريكية المحاولة الأولى لتسجيل حقوق الأفراد في وثيقة دستورية وضمانها ضد استبداد الأغلبية البرلمانية لا ضد استبداد الملوك فقط، فهي ترفض ان الشعب هو صاحب السيادة المطلقة التي لا ضابط لها لكنها تؤكد بان الشعب رغم كونه صاحب السيادة فهو يخضع لقاعدة قانونية عليا مضمونها ضمان حقوق الإنسان.
5. اعتبرت إعلانات الحقوق الأمريكية قواعد قانونية ملزمة، ومن ثم فان لأي مواطن أمريكي الحق بالتمسك بها أمام القضاء فهي قواعد دستورية تعلو التشريعات العادية ولذا يمكن الطعن بأي قانون عادي يخالف هذه الإعلانات وما جاءت به من حقوق ثبتت بواسطتها لمصلحة الأفراد.(80)
الفرع الرابع- الدستور الاتحادي 1787
أقر الدستور الاتحادي الأمريكي عام 1787 الذي وضعه ماديسن بعد ان اجتمع ممثلوا الولايات المنفصلة عن إنجلترا في مؤتمر فيلادليفيا وأقروا بتاريخ 17 ايلول 1787 استبدال ميثاق التعاهد القديم بدستور جديد باستثناء ولاية رود آيلاند التي لم تلتحق بالاتحاد إلا في سنة 1799، ولا يحتوي هذا الدستور اعلاناً لحقوق الأفراد إلا انه احتوى بضعة نصوص تتعلق بضمانات الحرية الفردية فقد سجلت المادة الأولى في فقرتها التاسعة ضرورة الهابياس كوربوس وعدم جواز سريان القوانين على الماضي، ونص على ضرورة توزيع الأعباء الضريبية تبعاً لقدرة المكلفين، وعلى عدم جواز إنفاق المال العام في غير الأغراض المحددة طبقاً للقانون، وعلى عدم منح الألقاب.(81)
وفي 25 أيلول 1789 تبنى الكونغرس الأمريكي دفعة واحدة عشرة تعديلات أقرت وفاءً لوعد قطع لبعض الولايات القلقة على استقلالها وحريات مواطنيها وقد أصبحت هذه التعديلات نافذة في 15 كانون الأول 1791 وفقاً للمادة الخامسة من الدستور وهذه التعديلات تتعلق ثمانية منها بضمانات الحقوق الشخصية والملكية الفردية والاثنان الأخيران بحقوق الدول في أمورها الداخلية.(82)
وقد نصت هذه التعديلات على انه ليس لمجلس الشيوخ سن قوانين تفرض اتباع دين معين، أو تمنع حرية النقد حديثاً أو كتابة أو تحد من حرية الصحافة أو تمنع أفراد الشعب من التجمع بهدف التعبير عن المطالبة بحقوقهم كما حظر على مجلس الشيوخ سن قانون يمنع المواطنين من حمل السلاح أو شرائه أو بيعه، كما لا يحق لممثلي الدولة دخول أحد بيوت المواطنين دون موافقته كما لا يحق للدولة البحث عن أوراق أو ممتلكات المواطنين ولا يجوز أخذ أموال الأفراد العقارية بدون تعويض مقبول من المواطنين وفي حالة ارتكاب جريمة فالمجرم يملك الحق في المطالبة بالإسراع في محاكمته، وله الحق في ان يعرف الجرم الذي ارتكبه أو المخالفة التي قام بها، وله الحق في مقابلة الشهود الذين يودون أداء الشهادة ضده وسماع أقوالهم، كما ان له الحق في الحصول على شهود لمصلحته، وله الحق في تعيين من يدافع عنه.(83)
وفي عام 1865 وأثر حرب الانفصال تم تبني التعديل الثالث عشر الخاص بإلغاء الرق وبهذا الخصوص أكد (أليكس دوتوكفيل) في كتابه الديمقراطية في أمريكا على ان إلغاء الرق في أمريكا لم يكن لمصلحة الزنوج فقط لكنه لمصلحة البيض أنفسهم في الوقت نفسه.(84)
أما التعديل الرابع عشر الذي تبناه الكونغرس عام 1868 فقد قضى ولو من الناحية الشكلية على مشكلة السود الدستورية بان نصت هذه الإضافة أو التعديل على ان كل من ولد أو توطن في الولايات المتحدة وخضع لسلطتها هو مواطن من مواطني الولايات المتحدة كما انه مواطن للولاية التي يقيم فيها.
ومضت الإضافة في فقرتها الثانية لتقول ان أية ولاية لا تملك ان تصدر أو تطبق أي تشريع من شانه ان يحد من المزايا أو الخصائص التي يتمتع بها المواطنون فلا يحق لأية ولاية ان تجرد شخص من حياته أو حريته أو حقه في الملكية دون مراعاة الضمانات الشرعية الكافية وبذلك توافرت الحماية الدستورية لحقوق المواطن المدنية ضد حكومة الولاية التي ينتمي إليها الشخص بعد ان كانت هذه الحماية قاصرة طبقاً للبنود العشرة الأولى من الدستور على حكومة الاتحاد، فالإضافة الرابعة عشر اهتمت بتقرير حريات السود وتقرير حقهم في المساواة التامة أيضاً.(85)

أما التعديل الخامس عشر فقد صدر عام 1870 وأقر مبدأ المساواة في الانتخابات بين البيض والملونين والتعديل التاسع عشر الصادر عام 1920 الذي منح الإناث حق الانتخاب على قدم المساواة مع الذكور.(86)

المطلب الثالث
فرنسا
تعد التجربة الفرنسية في مجالات إعلان الحقوق من أكثر التجارب ثراءً إذ ان مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور في فترة تاريخية ارتبطت في ظهورها على المستوى العالمي بالثورة الفرنسية إذ يعد إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر بتاريخ 26 آب 1789 الإعلان الأكثر شهرة لأنه أحرز قيمة عالمية كما ان أغلب دساتير دول العالم تتضمن قائمة في الحقوق الفردية التي صيغت بعبارات يبدو تأثرها بنصوص إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789.(87)
عليه يمكن الإشارة إلى بعض المراحل المهمة في التجربة الفرنسية المرتبطة بحقوق الإنسان وهي كالآتي:
الفرع الأول- إعلان حقوق الإنسان والمواطن (26 آب 1789)
هو الإعلان الأول لحقوق الإنسان والمواطن الذي صدر بعد الثورة الفرنسية الكبرى، والذي تصدر دستور 3 أيلول 1791.(88)
وقد جاءت عبارة حقوق الإنسان في عنوان الإعلان الفرنسي أو في مقدمته التي نصت على ان (تجاهل أو نسيان أو احتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات…).

كما جاءت عبارة حقوق الإنسان في هذا الإعلان في بعض مواده فالمادة الثانية التي نصت على ان (غاية كل اجتماع سياسي هي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية والتي لا يأتي عليها التقادم).
يتضمن هذا الإعلان مقدمة وسبع عشرة مادة والأسس التي تقوم عليها نصوصه تتلخص بالنقاط الآتية:
1. لكل إنسان حقوق طبيعية مقدسة خالدة غير قابلة للتغيير بسبب تبدل الزمان كما لا يمكن التخلص منها وهي الحياة والحرية والمساواة.
2. هدف المجتمع السياسي يتمثل في الحفاظ على حقوق الإنسان إذ ان الإنسان هو الغاية.
3. لا توجد حدود تقيد من حرية الإنسان إلا الحدود الناجمة عن ممارسة الغير لحقوقه الطبيعية.
4. القانون لا يمكن ان يؤثر في حريات الأفراد فهو لا يستطيع ان يضع حاجزاً إلا إزاء الأعمال المضرة بالمجتمع وعند الضرورة.
ضمن هذا الإعلان مجموعة من الحقوق، فقد أعلنت المادة الأولى إقرار المساواة المدنية بين المواطنين إذ نصت على ان (الناس يولدون ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق)، وهنا يؤكد العلامة إيسمن Esmein على ان المساواة المدنية تتضمن افتراض التساوي بين الأفراد في أهلية اكتساب الحقوق المحمية قانوناً فهي لا تعني المساواة في الثروة لكنها تعني حماية الجميع حماية متساوية بالنسبة لما يتمتعون به من حقوق أي ان المساواة المدنية تضمن حماية ما يتمتع به الأفراد من مزايا أو حقوق بنفس الطريقة وبنفس القوة، وهذه المساواة المدنية لا تتحقق إلا بالاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقدمها الدولة.
والحقيقة ان وثيقة حقوق الإنسان الصادرة في السنة الثالثة للثورة قد تضمنت الإشارة إلى حق المساواة، وكذلك فعلت الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1793.(89)
ويترتب على المساواة المدنية النتائج الآتية:
1. مساواة جميع المواطنين أمام القانون، بمعنى ان المشرع يسن قوانينه دون تمييز بين شخص وآخر أو طبقة وأخرى.
2. المساواة أما المؤسسات العامة أي ان على مؤسسات الدولة عند قيامها بأداء واجباتها ألا تميز بين الأفراد من حيث الخدمات التي تقدمها أو المقابل لها، كما ان المساواة أمام المؤسسات العامة للدولة تؤدي إلى تحريم إقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين.(90)
أما المادة الثانية فقد بينت ان هناك حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها وهي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الطغيان، كما ان مبدأ السيادة يقوم بشكل أساسي على الأمة وأشارت المادة الثالثة إلى ان مبدأ مساواة الإنسان هو الأساس الوحيد الذي تقوم عليه هذه الحقوق.(91)
أما المادة الرابعة فقد عرفت الحرية باعتبارها (الحق في عمل كل ما من شانه ألا يضر بحقوق الغير، ومباشرة الحقوق الطبيعية لكل فرد ليس لها من حدود إلا تلك التي تكفل تمتع أفراد الجماعة الآخرين بنفس هذه الحقوق ويجب ان لا تقرر حدود الحقوق الطبيعية إلا بواسطة القانون).
والحقيقة انه بدون الحرية السياسية تصبح الحريات الأخرى مجرد منحة تستطيع السلطة أو من يمثلها استردادها بأي وقت، ولهذا فقد عبر مونتسكيو عن هذه المسألة خير تعبير عندما قرر ان أنظمة الحكم الديمقراطية هي مصدر ضمانات الحريات جميعاً، كما ان الحرية السياسية لا يمكن ان تتحقق بصورة فعلية إلا في ظل توافر الحريات الأخرى، فالانتخاب يقتضي قيام صحافة حرة والاعتراف بحرية الاجتماع.(92)
وهذا كلام يجعل من الصعب قبول ما عبر عنه نابليون حين قرر ان (الديمقراطية عندنا تتوج في شخص رئيس الدولة الذي اختارته الأمة).(93)
فضلاً عما تقدم فقد أشار الإعلان إلى حريات أخرى بينتها المواد السابعة والثامنة والتاسعة حيث لا يمكن اتهام أي إنسان أو توقيفه واعتقاله إلا في الحالات المحددة طبقاً للقانون، كما لا يمكن معاقبة أي إنسان إلا طبقاً للقانون وان المتهم برئ حتى تثبت إدانته، كما تمنع المادة العاشرة إزعاج أي إنسان بسبب آرائه الدينية، ونصت المادة الحادية عشرة على ان حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من الحريات الأساسية، ومن ثم فان لكل مواطن الحق في التعبير والكتابة والنشر بحرية تامة بشرط عدم التجاوز على حريات الآخرين وفقاً للقانون والحقيقة ان السبب الذي جعل واضعوا الإعلان الفرنسي يركزون على حرية التعبير ويفردون لها مادة خاصة يعود إلى وضع الكنيسة المهيمن التي لم تكن تسمح بمثل هذا الحق فضلاً عن تسلط الإقطاع.
أما المواد الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة فقد أكدت على تأمين الحماية الضرورية لحقوق الإنسان، فضلاً عن الضرائب والنفقات العامة ومحاسبة الموظفين عن أعمال إدارتهم المتعلقة بشؤون الأفراد، بينما تكلمت المادة السادسة عشرة عن مبدأ الفصل بين السلطات باعتباره المعيار الحقيقي للنظام السياسي.
أما المادة السابعة عشرة فقد تحدثت عن الملكية عندما نصت على (لما كانت الملكية حقاً مصوناً ومقدساً فلا يمكن لأحد ان يحرم منها إلا حينما تقتضي الضرورة العامة الثابتة قانوناً هذا الأمر بصورة واضحة وشرط ان يمنح له تعويض عادل ومسبق).(94)
الفرع الثاني- حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في الدساتير الفرنسية
عرفت فرنسا منذ عام 1789 حتى عام 1875 ثلاثة عشر دستوراً مكتوباً ولا يكاد يخلو دستور فرنسي ابتداء من الدستور الأول الذي صدر بعد الثورة الكبرى وصولاً لدستور ديغول النافذ لعام 1958 من تسطير مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية، ومن أبرز هذه الدساتير التي يمكن الإشارة إليها:
1. دستور 3 أيلول 1791
هو أول دستور صدر بعد الثورة الفرنسية الكبرى ونص على ان السيادة للأمة وهذه الأخيرة تتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن شخصية الأفراد المشرفين على شؤونها إلا ان الاقتراع لم يكن عاماً وشاملاً ومباشراً، أي ان الأفراد لم يكونوا يتمتعون بحق شخصي بممارسة الانتخاب، لان السيادة هي في الأمة وليس بكل فرد، وقد نص هذا الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات بالشكل المعمول به في الدستور الأمريكي.(95)
ان واضعي دستور 1791 لم يبدلوا شيئاً في اعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 عندما جاء دستور 1791 لكنهم وضعوه كما هو في رأس هذا الدستور، وبهذا الشكل فقد جسد دستور 1791 اعلان الحقوق الصادر عام 1789 بصيغة دستورية ملزمة بعد ان أثار الإعلان مسألة القيمة القانونية الحقيقية لنصوصه، ونص الدستور المذكور على جملة من المبادئ الأساسية فالسيادة تعود للأمة كما ذكرنا (المادة الثالثة) وذكر هذا الدستور مبدأ الفصل بين السلطات في المادة السادسة عشرة، وقد بقي هذا الدستور نافذاً حتى تم التصويت على دستور 24 حزيران 1793.
2. دستور 24 حزيران 1793
أعلن عن حقوق الإنسان في مقدمة هذا الدستور الذي تألف من (35) مادة إذ تميز باتجاهه الاجتماعي فاعترف بحق العمل والحق في المساعدات الاجتماعية وبحق التعليم لجميع المواطنين، كما تبنى هذا الدستور فكرة الاقتراع العام دون ان تطبق بعد صدوره وثبت الحق في مقاومة الطغيان إذا ما قامت حكومة بانتهاك حقوق الشعب وادخل اسلوب الاستفتاء الشعبي في العملية التشريعية.
فهذا الدستور وصف بان جانباً مهماً منه قد استمد من أفكار روسو وقد وافق الشعب على هذا الدستور بعد ان عرض عليه غير انه لم يقترن بالتنفيذ نظراً لتمرد المدن الكبرى وخطر الغزو الخارجي مما دفع الساسة (المؤتمر) إلى اتخاذ القرار في العاشر من تشرين الأول 1793 بإرجاء تطبيقه وتشكيل حكومة ثورية اشتق من هذه الحكومة لجنة عرفت باسم لجنة السلامة العامة التي خضعت لسيطرة روبسبير وعرف هذا العهد بعهد الرعب إذ بقيت الحكومة الثورية في السلطة حتى السادس والعشرين من تشرين الأول 1795،(96) حيث صدر بعد دستور 1793 دستور 22 آب 1795 ثم دستور 13 كانون الأول 1799 الذي عكس طموح نابليون بونابرت وتميز بدكتاتورية السلطة التنفيذية التي جسدها الجنرال الشاب مع الاحتفاظ ببعض مظاهر الديمقراطية ثم دستور 4 حزيران 1814 الملكي الذي رفض الملك فيه مبدأ السيادة الوطنية وأصر على اعتبار نفسه مصدر السلطة لكنه مع ذلك أقر بالحريات العامة التي حصل عليها الشعب الفرنسي واعترفت بها الدساتير الفرنسية التي صدرت بعد الثورة الفرنسية الكبرى كحرية الصحافة، والحرية الشخصية، والحرية الدينية، والمساواة أمام القانون ثم جاء بعد هذا الدستور الملكي دستور ملكي آخر هو دستور 1830 وبموجبه عرفت فرنسا لأول مرة النظام البرلماني بصيغة معينة.(97)
3. دستور 4 تشرين الثاني 1848
تم سن هذا الدستور بعد ثورة 1848 البرجوازية التي قادت إليها مسألة التمسك بالأرستقراطية الانتخابية وتم القضاء مرة أخرى على النظام الملكي وما رافقه من ممارسات صنفت بأنها مضادة للديمقراطية ولحقوق الإنسان وحرياته.
يبدأ هذا الدستور بإعلان لحقوق الإنسان عبرت عنه مقدمته المؤلفة من ثماني مواد فضلاً عن فصله الثاني الذي يبدأ بالمادة الثانية وينتهي بالمادة السابعة عشرة.(98)
وبموجب هذا الدستور فقد تم ترسيخ مبادئ إعلان عام 1789 ومعالجة جوانب جديدة واستقر حق الاقتراع العام وخفض سن الانتخاب إلى 21 سنة وسن الترشيح إلى 25 سنة، كما بررت فكرة الجمهورية بالتقدم والعدالة الاجتماعية وثّبت مشرع دستور 1848 الحقوق التقليدية ووضحها وهي الحرية والأمن وأشار إلى إلغاء الرق في فرنسا، وبموجب المادة العاشرة أشير إلى مبدأ المساواة ونص الدستور على حق التعليم مع إشراف الدولة على المؤسسات التعليمية وأشير إلى حق التجمع فضلاً عن إلغاء عقوبة الإعدام عن الجرائم السياسية، كما أشار الدستور إلى ضرورة ان تقوم الحكومة بتقديم العون والمساعدة للمواطنين المحتاجين وللعاجزين عن العمل.(99)
4. دستور 27 تشرين الأول 1946
بعد ان أُلغي دستور 1875 في 10 تموز 1940 تم انتخاب جمعية تأسيسية عام 1945 كلفت بمهمة وضع دستور جديد لفرنسا حيث برز مشروع دستور نيسان 1946 الذي وافقت عليه الجمعية التأسيسية في العام نفسه وعرض على الشعب في 5 أيار 1946 إلا انه رفض وصادف انتقادات شديدة وبشكل خاص فيما يتعلق بحرية التعليم التي لم يتم الاعتراف بها في نصوص هذا الدستور بصورة صريحة فضلا عن المواد التي تناولت حق الملكية فإذا كانت الغالبية الطاغية من صغار الملاك لم يكن يعنيهم قيام الدولة بتأميم الصناعات والملكيات الكبيرة، إلا انهم لم يقبلوا ان يقال قانوناً ان المشرّع هو الذي يعطيهم الحق في الملكية أي ان حقهم في الملكية يستمد وجوده من المشرّع الذي يستطيع ان يجردهم منها في أي وقت وكان من الأسباب المهمة للرفض ان جزءاً مهماً من الناخبين الفرنسيين كان يطالب بالمزيد من الحريات والحقوق.(100)
والحقيقة ان مشروع دستور 19 نيسان المرفوض من قبل الشعب الفرنسي قد تضمن مقدمة أو ديباجة ثم إعلان للحقوق بدأ بفصل أول تحدث عن الحريات تلاه فصل ثان تحدث عن الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي وقام بتنظيم الحقوق والحريات في هذا المشروع على أساسيين الأول ضرورة تأكيد احترام الشعب الفرنسي وإيمانه بالمبادئ الحرة نظراً لما لاقاه الإنسان من عبودية وتسلط ثم الاعتداد بالتطورات التي أصابت مفاصل الحياة من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية وضرورة إيجاد نوع من التوافق بينها وبين المبادئ التقليدية التي قامت عليها نظرية حقوق الإنسان وحرياته العامة أي إيجاد صيغة توافق بين المبادئ الفردية الحرة والمبادئ الاشتراكية.(101)
أما بخصوص دستور 27 تشرين الأول 1946 الذي وافق عليه الشعب الفرنسي والموضوع بعد رفض مشروع دستور 19 نيسان المشار إليه انفاً فقد قامت الجمعية التأسيسية التي انتخبت بتاريخ 2 حزيران 1946 بمعالجة مشروع دستور 19 نيسان لكي تكفل له موافقة الشعب حيث لم تكن هناك تعديلات أساسية تغير من جوهر المشروع السابق فالمبدأ العام هو محاولة إيجاد صيغة توافقية بين الماركسية والأفكار التي يقوم عليها المذهب الحر.
والحقيقة ان الصراع قد احتدم بين الآيديولوجيتين عندما قامت الجمعية التأسيسية بمراجعة إعلان الحقوق ولتفادي الخلاف فقد تم العدول عن إيراد إعلان مفصل للحقوق في الدستور المراد إعداده مع القبول بإيراد القواعد الأساسية التي تضمنها الإعلان في مقدمة الدستور حيث بدأت المقدمة بالتأكيد على ان (يعلن الشعب الفرنسي من جديد ان لكل إنسان بلا تمييز بسبب الأصل أو الدين أو العقيدة حقوقاً مقدسة لا يمكن ان يجرد منها، ويؤكد رسمياً حقوق وحريات الإنسان والمواطن المقررة بإعلان الحقوق الصادر عام 1789 والمبادئ الأساسية المعترف بها في قوانين الجمهورية).

ثم تضيف المقدمة النص الآتي (وفضلاً عن ذلك يعلن-كضرورة خاصة لعصرنا-المبادئ الأساسية والاقتصادية والاجتماعية التالية:
1. يضمن القانون للمرأة حقوقاً مساوية للرجل في كافة الميادين.
2. كل فرد يضطهد في سبيل حريته له حق الالتجاء إلى أراضي الجمهورية.
3. عل كل فرد واجب العمل وله حق الحصول على العمل ولا يظلم فرد في عمله أو مهنته بسبب اصله أو آرائه أو معتقداته.
4. من حق كل فرد ان يدافع عن حقوقه ومصالحه بواسطة النقابة التي يختار الانضمام إليها.
5. حق الاعتصام تنظمه قوانين خاصة.
6. كل خدمة وكل مشروع تتسم ممارسته بطابع أهلي أو ينطوي على احتكار يجب ان تؤول ملكيته إلى الجماعة.
7. تكفل الأمة للأفراد وللعائلات الأسباب الضرورية لتقدمهم وتضمن للجميع ولاسيما للأمهات وللعمال المسنين حماية الصحة والضمان المادي والراحة والإجازة، وكل إنسان يجد نفسه عاجزاً عن العمل بسبب سنه أو عدم قدرته البدنية أو العقلية أو لسوء حالته الصحية له حق الحصول على المقومات الضرورية لمعيشته، وتضمن الأمة للصغير والكبير فرصاً متكافئة للتعليم والتثقيف والتدريب وتأخذ الدولة على عاتقها تنظيم التعليم ومجانيته في كافة مراحله.)(102)
القيمة القانونية لإعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789 ومقدمة دستور 1946 الفرنسي
أثير البحث أولاً في فرنسا حول القيمة القانونية التي تملكها إعلانات الحقوق ومنها إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789، ثم أثير الجدل بعد ذلك حول القيمة القانونية لديباجة أو مقدمة دستور 1946 الفرنسي التي تضمنت مجموعة من الحقوق والحريات العامة.
فبخصوص إعلان الحقوق الصادر عام 1789 رأى إيسمان عدم امكانية اعتبار نصوصه ذات طابع قانوني وضعي، ومن ثم فهي غير واجبة النفاذ إذ انها مجرد إعلان عن مبادئ لكنها تفتقر للصفة القانونية الملزمة.

فهذه المقدمة أو الديباجة هي عبارة عن إعلان وهي لا تعدو ان تكون قواعد فلسفية أو برامج لا شان للقانون بتنظيمها ولو أراد المشروع ان يسبغ عليها الصفة القانونية لنظمها في صلب الدستور خاصة إذا أراد ان يراعي الناحية الشكلية وليحسم أي خلاف قد يثار في المستقبل بهذا الشأن عن طريق نصوص وعناوين واضحة ومحددة لا ان يوردها في المقدمة إذ ان العبارات المنمقة والرنانة قد تثير مسامع الإنسان البسيط لا رجل القانون الذي عليه ان يستعمل منهجيته في التفريق بين ما هو ملزم وما هو اختياري غير ملزم وهذا الأمر ينطبق على إعلانات الحقوق وكذلك فهي ذات طبيعة فلسفية مثالية غير ملزمة وهذا في أقل تقدير بالنسبة للمدرسة الشكلية التي يمثلها (كاري دي مالبيرغ وإيسمان).
أما المدرسة الموضوعية التي مثلها (العميد ليون دوجي وموريس هوريو) فهما يذهبان إلى عكس ما ذهبت إليه المدرسة الشكلية(103) إذ يؤكد العميد دوجي على ان إعلان الحقوق أسمى مرتبة وأكثر قوة من النصوص الدستورية ذاتها، ولهذا فان الحقوق والحريات العامة التي لم ينص عليها دستور 1875 الفرنسي تعتبر أعلى شاناً من ذلك الدستور نفسه بل هي قيد على الجمعية التأسيسية التي وضعته.(104)
أما مقدمة دستور 1946 الفرنسي فهو لم ينص على الحقوق والحريات العامة في نصوصه لكنه أعلن عنها في ديباجة بعكس مشروع الدستور الذي رفضه الشعب الفرنسي في العام ذاته (مشروع دستور نيسان 1946) والحقيقة ان الفقهاء مختلفون حول القيمة القانونية لهذه الديباجة أو المقدمة رغم كونها جزء مرتبط بالدستور سواء عند وضعها من جهة واحدة أو عند الاستفتاء عليها من قبل الشعب حيث تم الاستفتاء عليها مع الدستور ولم تفصل عنه، وهي بذلك ليست وثيقة منفصلة كما كان عليه حال إعلان 1789.(105)
ويرى أحد الأساتذة الفرنسيين (رينيه) انه يجب التمييز بخصوص القيمة القانونية لديباجة دستور 1946 بين ثلاث حالات هي:
1. بعض نصوص الديباجة لا تتضمن أية مادة قانونية إذ انها لا تتضمن أمر أو نهي أو أي التزام حقيقي لكنها عبارة عن تأكيد لبعض الأفكار السياسية ومثالها العبارة التي وردت في الديباجة والتي تسجل ان الجمهورية الفرنسية تراعي قواعد القانون الدولي العام والعبارة التي تقدم تعريفاً للاتحاد الفرنسي.
2. توجد عبارات كحالة النص على الحق في العمل وضمان النماء الفردي والعائلي أي تلك الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي فهي تتضمن أكثر من وعد من جانب الدولة مضمونه قيامها بإصدار التشريعات الضرورية اللازمة بتحقيق مضامين هذه الحقوق إذا سمحت الظروف بذلك، (فلا يتأتى للفرد التمسك بها قبل الدولة أمام القضاء إلا إذا سمحت الظروف بذلك).
3. هناك فئة ثالثة من العبارات التي وردت في المقدمة تتمتع بالصفة القانونية، إذ انها تتضمن النص بصفة عمومية على الحريات السابق إعلانها في عام 1789 ويمكن ان يضاف إليها الحريات الجديدة وبعض الحقوق الأخرى التي وردت في دستور 1946 كالحق النقابي والحرية النقابية ومجانية التعليم والمساواة بين الرج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:03 pm


الفصل الرابع
أشكال وصور حقوق الإنسان والترابط بينها
توجد قائمة طويلة من الحقوق والحريات الأساسية التي تضمنتها الإعلانات والدساتير والتشريعات العادية الصادرة في دول العالم المتعددة، فهناك أولاً الحريات والمراد بها حقوق الإنسان التقليدية التي تمتنع فيها الدول عن التعرض للأفراد طالما هي تمثل مراكز قانونية يمارس الأفراد من خلالها خصائصهم الذاتية بقصد إشباع حاجاتهم الخاصة وقد عبرت عن هذه الحريات بصورة أساسية قائمة حقوق الإنسان والمواطن في الدساتير وإعلانات الحقوق التي بدأت بالظهور منذ أواخر القرن الثامن عشر، وهناك من جهة أخرى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية حيث لا تقف الدولة في مواجهة هذه الحقوق موقفاً سلبياً من الأفراد كما هو حالها في الحريات، لكنها ملزمة باتخاذ مواقف ايجابية تتمثل بتقديم الخدمات المختلفة في مرافق الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وهذه مجموعة من الحقوق بدأت تحتل مكاناً بارزاً في قائمة حقوق الإنسان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى نظراً لتطور فكرة الحرية من كونها مجرد فكرة تستهدف تحطيم العوائق إلى فكرة تعمل على تنمية الكرامة الإنسانية وهذا كله نتيجة للترابط الذي ظهر بين فكرة الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية.(1)
ومع تطور الحياة ونمو المجتمع أضيفت حريات وحقوق أخرى للإنسان لم تكن إعلانات الحقوق والدساتير الأولى قد تضمنتها، ومن هنا فإنه سيصبح من الضروري التعرض لتفاصيل الحقوق والحريات المعروفة في بعض الدساتير ومنها الدساتير العراقية مع تحديد مضمونها أو معناها، فضلاً عن التطرق لتفاصيل هذه الحقوق والحريات في المعاهدات الدولية، أي على مستوى القانون الدولي لحقوق الإنسان في المبحثين الآتيين:
المبحث الأول- تصنيف الحقوق والحريات ودور الدولة في تحقيقها.
المبحث الثاني- صور الحقوق والحريات.

المبحث الأول
تصنيف الحقوق والحريات ودور الدولة في تحقيقها
ان وضع تصنيف للحقوق والحريات أمر لم يكن محل اتفاق في النظرة إلى هذا الموضوع بين القانونيين كما ان دور الدولة قد شهد تطوراً في هذا المجال.
وعموما تتضمن تسمية الحقوق والحريات امتيازات الافراد في مواجهة السلطة العامة من ناحية ، وعموميتها وتمتع جميع الافراد بها بصفة عامة وبدون تفرقة او تمييز بين المواطنين والاجانب من ناحية اخرى . (2)
والحقوق الحريات العامة عموما هي مراكز قانونية للافراد تمكنهم من مطالبة السلطة بالامتناع عن القيام بعمل مافي بعض المجالات ، او هو التزام السلطة بغل يدها عن التعرض للنشاط الفردي في بعض نواحيه المادية .(3)
وفكرة الحقوق والحريات العامة فكرة نسبية يختلف مضمونها بأختلاف الزمن وتبعا لطبيعة النظام السياسي القائم .
ففي ظل المذهب الفردي كانت الحقوق والحريات هي الحقوق والحريات الطبيعية التي يكتسبها الفرد بولادته وهي لصيقة به ولاتنفصل عنه . ووظيفة الدولة في هذا النظام تقتصر على حماية هذة الحقوق والحريات وضمان عدم المساس بها تماشيا مع وظيفتها الوحيدة في حراسة الامن الداخلي والخارجي .
اما في ظل المذهب الاشتراكي فقد تطورت فكرة الحقوق والحريات بحكم تطور وظيفة الدولة التدخلية فصار على الدولة ان تتدخل لتوفير اغلب تلك الحقوق كحق الافراد بالضمان الصحي والاجتماعي وتوفير العمل والتي عرفت فيما بعد بالحقوق الاجتماعية .
ولم تعد تقتصر وظيفتها على توفير الحقوق والحريات الفردية والتي تلقى على الدولة واجبا سلبيا بالامتناع عن التدخل فيها , الا ان هذا التدخل كان في كثرة من الاحيان على حساب الحقوق السياسية وحق الملكية .
ازاء ذلك اخذت الكثير من الدول موقفا وسطا بين النظم الفردية والاشتراكية وعالجت مساوئ المذهب الفردي من خلال توسيع مجالات تدخل الدولة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي دون ان يصل هذا التدخل الى حد الغاء الملكية الفردية الخاصة . (4)
وخلصت النظم الاقتصادية الى اقرار تدخل الدولة ايجابيا لتوفير الحقوق الاجتماعية للافراد بالاضافة الى دورها السلبي في الامتناع عن المساس بالحقوق والحريات التقليدية .
المطلب الأول
تصنيف الحقوق والحريات
اختلف الفقه في الاساس الذي يتم فيه تصنيف الحقوق والحريات العامة وسلكو في ذلك
مذاهب شتى ومن ابرز هذة التقسيمات:
اولاً:- تقسيم ايسمان
ذهب ايسمان الى ان حقوق الافراد وحرياتهم تتضمن فرعين رئييسين هما :
الفرع الاول :الحريات ذات المضمون المادي : وهي تلك التي تتعلق بمصالح الافراد المادية ومنها حرية الامن ،والتنقل ، والملكية ، والمسكن ، والتجارة ، والصناعة .
الفرع الثاني :الحريات ذات المضمون المعنوي : وهي تلك الحريات التي تتضمن حرية العقيدة ، والعبادة ، وحرية الصحافة ، وحرية الاجتماع ، وحرية التعليم ، وحرية تكوين الجمعيات.
ولم يسلم هذا التقسيم من النقد من حيث انه لا يرتب اية نتائج قانونية او مزايا عمليه من جهة ولانه غير منطقي من جهة اخرى فهو يضع الحريات الفردية داخل اطار الحريات المادية لاسيما الحق في الامن .(5)
كما ان هذا التقسيم قد تجاهل الحقوق الاجتماعية كحق العمل والضمان الاجتماعي والصحي . (6)
ثانياً :-تقسيم دوجي :
يميز دوجي بين نوعين من الحريات ايضاً هما :
النوع الاول: يشمل الحريات السلبية وهي التي تظهر في صورة قيود على سلطة الدولة .
النوع الثاني :فيتضمن خدمات ايجابية تقدمها الدولة للافراد . (7)
ثالثاً:- تقسيم هوريو :
يقسم هوريو الحقوق والحريات الى ثلاثة اقسام يطلق على القسم الاول الحريات الشخصية ، وتشمل الحريات الفردية والحرية العائلية وحرية التعاقد وحرية العمل .
اما القسم الثاني ويسمى الحريات الروحية او المعنوية ويتضمن حرية العقيدة والتدين وحرية التعليم وحرية الصحافة وحرية الاجتماع في حين يحتوي القسم الثالث على الحريات المنشأه للمؤسسات الاجتماعية وهي الحريات الاجتماعية والاقتصادية والنقابية وحرية تكوين الجمعيات . (Cool
رابعاً :- تقسيم بيردو :
قسم الاستاذ بيردوا الحريات الى اربعة مجموعات رئيسية هي :ـ
1- الحريات الشخصية البدنية وتتضمن حرية الذهاب والاياب وحق الامن وحرية الحياة الخاصة .
2- الحريات الجماعية وتشمل حق الاشتراك في الجمعيات وحرية الاجتماع وحرية التظاهر .
3-الحريات الفكرية وتشمل على حرية الرأي وحرية الصحافة وحرية التعليم والحرية الدينية .
4- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية : وتحتوي على الحق في العمل والملكية وحرية التجارة والصناعية.(9)
وعلى أي حال فأنه على الرغم من اختلاف الفقهاء في تقسيم الحقوق و الحريات فأنهم يشملون كافة الحقوق والحريات في ضمن تقسيماتهم تلك. وعموما يمكن تقسيم الحقوق والحريات من خلال تتبع المراحل التاريخية التي مرت بها طبقا للتفصيل الاتي:
الفرع الأول- التصنيف التقليدي للحقوق والحريات (الجيل الأول)
استند التصنيف التقليدي للحقوق والحريات إلى نظريتا القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي اللتان أكدتا على الطابع الفردي للحقوق والحريات في مواجهة الدولة، فالحرية الفردية هي الأصل وهذا ما يؤكد عليه (لوك) الذي يعرفها (بالحق المطلق في تقرير الفرد لمصيره وشؤونه)، فالفكر الغربي في عصر التنور (القرن الثامن عشر) الذي أكد فلاسفته على أهمية احترام الفرد باعتباره فرداً أو أنسانا، ومع انهم سلموا بضرورة وجود الدولة لكن على أساس احترامها للحقوق والحريات الفردية، وهذا ما يتحقق إذا لم تتدخل الدولة في تنظيم أمور المجتمع إلا في نطاق الحد الأدنى وعلى هذا الأساس يفهم تعريف (جون ستيوارت مل) للحرية إذ يذكر انها (الحد من سلطة الحاكم).
وبالاستناد لمل تقدم كرس إعلان حقوق الإنسان المواطن الصادر عام 1789 هذه الأفكار في معالجة الحقوق والحريات حيث أقرت المادة الثانية منه صراحة ان هدف كل تشكيل سياسي هو الحفاظ على الحقوق الطبيعية للإنسان التي لا يمكن إلغائها وقد أكدت الكتابات القانونية اللاحقة الفكرة المتقدمة التي مضمونها ان الحقوق والحريات الطبيعية هي لصيقة بالفرد عندما لا يكون هناك مجال لتدخل الدولة في شؤونه أي عندما لا تكون الدولة طرفاً فيها وقد ذهبت التقسيمات التقليدية المستمدة من المفاهيم المتقدمة إلى بيان الحريات ذات الطابع المادي والحريات ذات الطابع الروحي، وهناك تقسيمات أخرى سلمت بوجود حريات أساسية وحريات ثانوية أو غير أساسية.(10)
عليه فان الجيل الأول من الحقوق والحريات يراد بها مجموعة الحقوق السياسية والمدنية التي هي حقوق في مجموعها تتحقق بمجرد الامتناع عن الاعتداء عليها سواء من جانب السلطة العليا أو من أية جهة أخرى، ومثالها الحق في الحياة وحرية الرأي والتعبير.(11)
الفرع الثاني- التصنيف الحديث للحقوق والحريات (الجيل الثاني)
ظهر هذا المفهوم في بيئة مختلفة عن بيئة الجيل الأول من الحقوق والحريات التي طالب بها الإنسان فبعد ان تحولت المجتمعات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى مجتمعات صناعية وما رافق ذلك من خلق تجمعات سكانية مكتظة والمطالبة بظروف معيشة أفضل، وهو ما أدى إلى ظهور مضامين جديدة للحقوق والحريات ارتبطت بالمساواة السياسية فطالب المواطنون بالعدالة الاجتماعية من خلال توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الاجتماعية، فالمطالبات المقدمة ارتبطت بالمجموع ولم تعد تؤكد على الفرد، وهذا يعني ان المضمون الحديث قد تحول إلى المطالبة بالحصول على عطاء، أو امتياز من الدولة ليشمل المجتمع بالرعاية والاهتمام وليس الفرد بهذا الوصف.(12)
إذن الجيل الثاني من الحقوق والحريات يراد بها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في العمل، والحق في المسكن والملبس، والحق في الغذاء، والرعاية الصحية، والتعليم ودور الدولة هو دور ايجابي فهي مطالبة بتحقيق هذه الحقوق وليس دوراً سلبياً كما هو الحال في حقوق وحريات الجيل الأول التي تكون الدولة مطالبة فقط بعدم الاعتداء عليها.(13)
الفرع الثالث- حقوق وحريات الجيل الثالث
اقترنت حقوق وحريات الجيل الأول بالفرد، بينما اهتمت حقوق وحريات الجيل الثاني بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما حقوق وحريات الجيل الثالث فقد اقترنت بالدور الذي تلعبه الأمم المتحدة طبقاً لميثاقها وهذه الحقوق يرتبط بعضها بالفرد بينما يرتبط البعض الآخر بالجماعة، لكن ليس ضمن مفهوم الدولة القومية وإنما ينصرف الاهتمام بها إلى سائر البشر متخطياً الدولة القومية ليشمل الإنسانية كلها، وهي حقوق وليدة التطور القانوني على المستوى الدولي، والمثال على هذه الحقوق الحق في السلام، والحق في بيئة نظيفة، والحق في التنمية، وهذه الحقوق تفرض دوراً ايجابياً على كل الأطراف المعنية وهي الشعوب، والحكومات، والمجتمع الدولي.(14)
المطلب الثاني
دور الدول في مجال الحقوق والحريات

كثيراً ما تورد الدساتير الحديثة مجموعة من الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن ذكرها للحريات الفردية التقليدية، فنجد مقدمة الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 ودستور فرنسا النافذ لعام 1958 قد أكدا على "حريات الإنسان والمواطن المقررة في إعلان 1789" واعترافا بالمبادئ الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للعيش في الجماعة الحديثة، وفي حقيقة الأمر فان الحريات الفردية ليست في الواقع إلا حريات اجتماعية لأنها لا تمارس إلا في نطاق الجماعة، وهذا المعنى قد بدأ ظاهراً في المادة الرابعة من إعلان الحقوق الصادر عام 1789، إذ نصت على ان (الحرية تتضمن فعل كل ما ليس من شأنه الإضرار بالغير)، ثم أضافت ان (ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان ليس لها من حدود إلا ما يضمن لغيره من أعضاء الجماعة ممارسة هذه الحقوق ذاتها). (15)
ومع ذلك فإن الحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي قد تم الاهتمام بمضمونها من الناحية القانونية والعملية في وقت متأخر عن الاهتمام والاحترام للحقوق الفردية ويمكن إجمال خصائص كل من هاتين المجموعتين من الحقوق وبالشكل الذي سيوضح القيمة الفعلية لكل منها.
1. الالتزامات الإيجابية والالتزامات السلبية
لا تفرض الحريات الفردية على عاتق الدولة إلا التزاماً سلبياً مؤداه الامتناع عن القيام بعمل في مجالات النشاط الفردي، فدور الدولة يقتصر (في العلاقة مع هذا النوع من الحريات) على توليها مرافق الأمن والقضاء والجيش، إذ انها دولة حارسة أما الحقوق الاجتماعية فهي على العكس من ذلك تتطلب من الدولة ان تتيح لكل مواطن عملاً لائقاً وأجراً معقولاً وان توفر للأم والطفل والشيخ والمريض العناية المطلوبة، فهذه الحقوق تفرض التزامات إيجابية على الدولة منها ان تتدخل في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد.
فالأحكام الخاصة بالحريات الفردية من الضروري ان تصاغ بهدف توفير حماية كافية للمواطنين من احتمال تعسف السلطة التنفيذية أو الحكومة، إذ يقيم المشرع حولها سداً منيعاً لحمايتها، أما الأحكام الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فتصاغ بطريقة تحقق حماية الحكومة للمواطنين وبهدف تقديم العون لهم في حياتهم، فإذا نص الدستور في باب الحريات على ان للمنازل حرمة، فهذا يرتب التزاماً سلبياً على عاتق الحكومة يفيد أنه ليس للحكام شأن بما يجري في المنازل، وهم لا يستطيعون اقتحام المنازل إلا طبقا للقانون وبأمر القضاء.
أما نص الدستور في باب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية على ان الدولة تكفل للمواطن المسكن والغذاء والكساء والعلاج والتعليم، فهذا يفيد ان للمواطن أن يطالب السلطات بان تقدم له العون في حياته الخاصة لترى في أي مستوى يعيش بهدف تقديم ما يحتاج له فهذا التزام إيجابي يقع على عاتق الدولة.
2. إن الحريات التقليدية في حقيقتها إنما هي تعبير عن واقع حاصل ولا يبقى بخصوصها إلا النصوص المنظمة لها والمرتبة للأوضاع التي تمارس بناءً عليها.
أما فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية فالأمر يختلف، طالما ان النصوص الدستورية التي تسجلها لا تتضمن تقريراً لحالة واقعية بقدر ما تتضمن رسما لبرنامج يهتدى به مستقبلاً، وعلى ذلك فإذا ارتبطت الحريات الفردية بما هو كائن، ترتبط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بما يجب ان يكون.
عليه فالحرية بالنسبة للديمقراطية السياسية حرية طبيعية يكفي لحمايتها قيام الدولة بعمل سلبي يتمثل برفع يدها عن التدخل فيها.
أما بالنسبة للديمقراطية الاجتماعية فالحرية حالة مستقبلية لا يتوصل إلى تحقيقها إلا بإخضاع النشاط الاجتماعي لنفوذ الحكومة.
هذا وان القيمة الفعلية للحقوق ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي أمر يتوقف على جهود المشرع العادي والإدارة في كل دولة لمناقشة الخطوات التي تقود لتحقيق الوجود المادي لهذه الحقوق وصياغتها في تشريعات قابلة للتنفيذ.
3. الأعباء
إذا كانت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ترتب التزامات إيجابية فهذا يعني زيادة في أعباء الدولة، فضلاً عن تحمل الأفراد لواجبات لم تكن معروفة من قبل في ظل إعلانات الحقوق ذات الطابع الفردي الخالص ويتضح ذلك فيما يلي:

أ- بالنسبة لالتزامات الدولة
إن الاتجاه نحو إقرار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية يؤثر تأثيراً بعيداً في سياسة الحكم بأسرها، والدستور الذي يرتب على الدولة ان تقوم بأداء خدمات اجتماعية عامة يوجب عليها كذلك توفير الوسائل الاقتصادية لزيادة الثروة القومية لكي لا تصبح الضرائب باهظة فتعوق التقدم الاقتصادي والاجتماعي معاً، هذا ويتطلب التوسع في الخدمات الاجتماعية من جانب آخر وضع مالية الدولة على أسس جديدة بحيث توجه نفقات الدولة توجيهاً مثالياً باتجاه تحقيق فعلي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ب- بالنسبة لالتزامات الأفراد
إن تدخل الدولة لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتطلب فرض التزامات ازاء الأفراد لكي يتحقق الهدف المنشود من وراء إقرار هذه الفئة من الحقوق، فعندما تلتزم الدولة قبل أفرادها بأداء الخدمات فهي تقدر مبلغ العبء الملقى على عاتقها، فتفرض واجبات معينة على الأفراد منها ضرورة الالتزام بعمل ما، وهكذا يتحول العمل من مجرد حرية إلى فرض إجباري على المواطنين.
ومن النصوص الدستورية التي يمكن الإشارة إليها بهذا الخصوص ما جاءت به المادة (53) من الدستور الإيطالي التي جاءت بالنص الآتي (على كل شخص ان يسهم في المصروفات العامة وفقاً لقدرته على الإسهام).
والحقيقة فإن كثيراً مما اشتملت عليه الدساتير الحديثة من التزامات لازالت مجرد التزامات اخلاقية أكثر منها التزامات قانونية، ومع هذا تبقى فائدتها السياسية قائمة باعتبارها عاملاً من عوامل الإرشاد وتوجيه الشعوب.
4.التزامات الدولة بالتنفيذ
تتباين الحريات الفردية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في فعاليتها أمام القضاء، إذ تقوم المحاكم بحماية الحريات الفردية فيستطيع الفرد رفع أمره إليها مبيناً أن حرية من حرياته قد لحقها اعتداء ما، لإيقاف هذا الاعتداء وطلب التعويض عن الأضرار التي لحقته من جرائه.
أما الحقوق الاجتماعية والاقتصادية فإن التخلف عن أدائها لا يصلح على وجه العموم أن يكون موضوعاً لدعوى أمام القضاء، على ان تحقيق مضمون هذه الحقوق يتطلب ان تكون الدولة قادرة مادياً على أدائها، ثم انها ستبقى في مرحلة الإعلان النظري ولا تبلغ الكمال في تطبيقها إلا تدريجياً حتى يتيسر لميزانية الدولة ان تمكن الحكومة من ان تقيم المجتمع الأمثل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:05 pm


المبحث الثاني
صور الحقوق والحريات
توجد عدة تصانيف للحقوق والحريات كل منها يحمل اسماً مختلفا عن الآخر إلا انها تتداخل في حقيقة الأمر، فهناك حقوق الإنسان الفردية وحقوق الإنسان الجماعية، وحقوق الإنسان المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق التي تمثل الجيل الثالث، وسنتعرض لجانب من هذه الحقوق.

المطلب الأول
حقوق الإنسان المدنية والسياسية( الجيل الاول)

تعرف الحرية بانها تأكيد كيان الفرد تجاه سلطة الجماعة وهو ما يعني، الاعتراف للفرد بالإرادة الذاتية، مما يعني الاتجاه إلى تدعيم هذه الإرادة وتقويمها بما يحقق للإنسان سيطرته على مصيره، وقد فهمت الحرية انطلاقاً من المعنى المتقدم خلال القرن التاسع عشر باعتبارها وسيلة لمقاومة الدولة وتقييد سلطاتها لصالح الأفراد فهي ضمانة لاستقلال الفرد وتحقيق ذاته وحفظ كرامته الإنسانية وعلى هذا الأساس سارت الحريات الفردية في اتجاهين:
الاتجاه الأول يتمثل في تحديد مجال خاص للنشاط الفردي حيث يعتبر هذا المجال منطقة مغلقة في مواجهة الحكومة، ومن ثم فان المجموعة الأولى من الحريات الفردية سيقصد بها الحريات المتعلقة بالنشاط الفردي التي لا تستطيع الدولة ان تباشر أي نشاط فيها.
الاتجاه الثاني تمثل بالاعتراف بمجال محدد للنشاط الحكومي، مع الاعتراف للأفراد بحقيقة أساسية هي انهم يملكون وسائل متعددة لمنع الدولة من ان تبسط نفوذها وسيطرتها، وبالشكل الذي يمنع تهديدها للنشاط الفردي وهذه تمثل المجموعة الثانية من الحريات الفردية، وهي الحريات المقررة للأفراد باعتبارها وسائل لمعارضة الدولة داخل الحيز المسموح لها بالتدخل فيه، ومن ثم فان هناك مجموعة من الحريات الفردية حيث تشتمل المجموعة الأولى المشار إليها آنفاً باعتبارها تمثل الحريات أو الحقوق المدنية(16) وسنتعرض لبعض منها وهي:
الفرع الأول- الحقوق المدنية (الفردية)
أولاً: الحق في الحياة والحرية وفي أمان الفرد على نفسه
يعد الحق في الحياة أحد الحقوق الطبيعية التي يجب ان تضمن لكل إنسان، وحماية هذا الحق لا يقتصر على عدم المساس به من قبل الدولة وسلطاتها العامة، بل هو حق يتطلب ضمانهُ التزام الدولة بمنع حدوث الاعتداء عليه من جانب الأفراد، والهيئات، والجماعات، ووضع القوانين التي تحقق هذه الحماية بصورة فعلية، وتوقع الجزاء على من يعتدي على هذا الحق بأي شكل من الأشكال.(17)
ونصت أكثر من اتفاقية دولية على هذا الحق بشكل صريح، أما دساتير الدول العربية فلا يوجد دستور عربي واحد يضمن الحق في الحياة بأي شكل كان،(18) فيما عدا قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (م12)، فقد نصت المادة السادسة من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية على تفاصيل تتضمن مجموعة من الضمانات لهذا الحق إذ تشير هذه المادة إلى ((1- لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي)
أما الفقرات الأخرى من المادة ذاتها فقد جاءت بتنظيم قانوني لمسالة عقوبة الإعدام باعتبارها من أكثر المسائل التي يمكن ان تتعرض للحق في الحياة إذ تنص على: (2- يجوز ايقاع حكم الموت، في الأقطار التي لم تلغَ فيها عقوبة الإعدام بالنسبة لأكثر الجرائم خطورة فقط طبقاً للقانون المعمول به في وقت ارتكاب الجريمة وليس خلافاً لنصوص العهد الحالي والاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها، ولا يجوز تنفيذ هذه العقوبة إلا بعد صدور حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة. 3- ليس في هذه المادة، إذا كان حرمان الحياة يشكل جريمة إبادة جنس ما يخول أية دولة طرف في العهد الحالي التحلل بأي حال من أي التزام تفرضه نصوص الاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها. 4- لكل محكوم عليه بالموت الحق في طلب العفو أو تخفيض الحكم ويجوز منح العفو أو تخفيض حكم الموت في كافة الأحوال. 5- لا يجوز فرض حكم الموت بالنسبة للجرائم التي يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً كما لا يجوز تنفيذه بامرأة حامل. 6- ليس في هذه المادة ما يمكن لأية دولة من الدول الأطراف في العهد الحالي الاستناد إليه من اجل تأجيل إلغاء عقوبة الإعدام أو الحيلولة دون ذلك الإلغاء).
وفي 15 كانون الأول 1989 أعلن البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف إلغاء عقوبة الإعدام وفيه تم التأكيد على ان إلغاء هذه العقوبة يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان وان التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تمثل تقدماً في المتمتع بالحق في الحياة، وهذا البروتوكول يضع التزاماً على الدول الأطراف في مادته 1 / 2 بوجوب إلغاء الدولة لعقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.(19)
ان خلاصة موقف القانون الدولي يتجه إلى إلغاء هذه العقوبة باعتبارها تتنافى مع الحق في الحياة، إلا ان هذا الاتجاه يبقى غير معبر عن السياسات العقابية في بلدان العالم المختلفة والتي تنسجم على وجه العموم مع المجتمعات الوطنية لكل دولة، فضلا عن ان العديد من البلدان التي تعتمد هذه العقوبة توجد فيها ضمانات متعددة، فإيقاع الإعدام لا يتم بإجراءات سهلة ومن هذه الضمانات انه لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا على أكثر الجرائم خطورة، وهي تثبت الحق في الاستفادة من العقوبات الأخف في ظل ظروف معينة، والحق الإلزامي بالاستئناف مع إتاحة الوقت الكافي لإعداد الدفاع والتماس العفو، ووضعت استثناءات من عقوبة الإعدام بالنسبة للأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة والحوامل، والأمهات الحديثات الإنجاب، والأشخاص المخبولين أو الذين أصبحوا كذلك أو المتخلفون عقلياً، ونص على مقتضيات خاصة بالإثبات فيما يتعلق بالكشف عن الجرائم وأهلية المحاكم بغية ضمان محاكمة عادلة وعدم ترك أي مجال لتأويل الحقائق على غير ما هي عليه، ويحق للمتهمين الحصول على مساعدة قانونية خاصة تفوق ما يقدم في حالات الجرائم التي لا يعاقب عليها بالإعدام كما يحق للمتهمين الإطلاع على كامل التهم الموجهة إليهم والأدلة المستخدمة ضدهم وهناك التزام إنساني بأن يضمن عند تنفيذ هذه العقوبة ان تكون معاناة السجناء عند الحد الأدنى.(20)
من جانب آخر يشار إلى ان لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قراراً في 3 نيسان 1997 طالب جميع الدول التي لم تُلغِ بعد عقوبة الإعدام بأن تدرس وقف تنفيذ الإعدام بغية إلغاء هذه العقوبة إلغاءً كاملاً وطالب القرار دول العالم بالانضمام إلى البروتوكول الاختياري الثاني الملحق باتفاقية الحقوق المدنية والسياسية كما ان نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمده مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين في تموز 1998 لا ينص على فرض عقوبة الإعدام على أي من الجرائم الخطيرة الواردة في النظام الأساسي.(21)
موقف الدساتير العربية من عقوبة الإعدام
تخلو الدساتير العربية من أية تدابير تقيد من عقوبة الإعدام، كحظر إعدام من يقل سنه عن 18 عاماً أو حظر إعدام النساء الحوامل، وهذا ما قد يوحي بأن واضعي هذه الدساتير قد اختاروا ان يتجنبوه تماماً في دساتيرهم على اعتبار ان من حق الدولة استخدام هذه العقوبة وهذا أمر مسلم به طبقاً لهذا الاتجاه الدستوري ومع ذلك فهناك بعض الدساتير تتضمن إشارة إلى هذا الموضوع بطريقتين: الأولى تتعلق بتحديد حق طلب العفو من عقوبة الإعدام أو إبدالها وهذا أمر تتركه الدساتير لرئيس الدولة، بينما تنفرد الوثيقة الخضراء الليبية في منح المحكوم عليه الحق بطلب التخفيف أو الفدية (مCool ولا يتحدث أي دستور عربي آخر عن مفهوم الفدية في هذا المجال.
أما الطريقة الثانية فهي تتمثل في منع بعض الدساتير الوسائل غير المشروعة للعقوبات كالدستور اليمني (م33) ولا يبدو واضحاً إذا ما كان ذلك يشمل عقوبة الإعدام، وتمنع الوثيقة الخضراء الإعدام بوسائل تعتبرها بشعة كالكرسي الكهربائي والغازات السامة وهذه أساليب متبعة في الولايات المتحدة الأمريكية.(22)
أخيراً من الضروري التذكير بان الشريعة الإسلامية تأخذ بعقوبة الإعدام لبعض الجرائم وهي توفر مجموعة من الضمانات الكافية في إطار فلسفة التشريع والعقاب في هذه الشريعة، قال تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
أما الحق في الحرية وأمان الفرد على نفسه فهذه حقوق تتضمن مجموعة كبيرة من الحريات والحقوق التي تنضوي تحتها فلا يجوز استرقاق إنسان لأي سبب كان، وهذا أمر نصت عليه الكثير من الاتفاقيات الدولية وتنصاع له القوانين الوطنية، فضلاً عن تحريم السخرة ويعد العمل من أعمال السخرة أو مفروضاً في مفهوم حقوق الإنسان، كل عمل يفرض على الإنسان، دون ان تكون لإرادته دخل في قبوله، ولا يهم بعد ذلك ان يكون المرء الذي يقوم بهذا العمل يؤديه نظير أجر أو بدون مقابل.
وهناك حق لكل فرد في الحرية والسلامة الشخصية، ومن ثم لا يجوز القبض عليه أو إيقافه بصورة تعسفية دون اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة بهذا الخصوص كما لا يجوز ان يحرم أحد من حريته ومن الضروري ان يتم إبلاغ كل من يقبض عليه بأسباب ذلك عند حدوثه، فضلاً عن إبلاغه فوراً بأية تهمة توجه إليه ويجب ان يقدم الشخص المقبوض عليه أو الموقوف بتهمة جزائية فوراً أمام القاضي أو أي موظف آخر مخول قانوناً بممارسة صلاحيات قضائية ويكون من حق المقبوض عليه أو الموقوف ان يقدم إلى المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة أو يفرج عنه ومن حق كل إنسان يحرم من حريته بسبب إلقاء القبض عليه أو توقيفه أن يلجأ إلى الإجراءات القانونية المتاحة أمام المحاكم المختصة لكي تقرر مدى شرعية الإجراءات القانونية التي اتخذت بحقه وتم إيقافه استناداً إليها كما ان له الحق في طلب التعويض عن الأضرار التي أصابته في حالة كون إجراءات إيقافه غير قانونية.

وتحتوي الدساتير العربية فيما عدا دستور دولة قطر على تدابير تتعلق باعتقال الأشخاص واحتجازهم لكن عدداً محدوداً من هذه الدساتير تتوافق نصوصها مع المعايير التي تتطلبها الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، فهناك عدد من الدساتير العربية تتحدث عن الحرية الشخصية بشكل عام على أنها مضمونة، بينما تشير دساتير أخرى إليها باهتمام أكبر فهي (حق طبيعي وهي مصونة لا تمس)، كما جاء في المادة (41) من الدستور المصري أو هي (حق مقدس) في الدستور السوري ( م25/1) ولا تسمح دساتير الدول العربية بحرمان أحد من الحق في الحرية والأمان الشخصي إلا وفقاً للقانون، وهذا نص يقترب إلى حدٍ ما من الصياغات الدولية لهذا الحق حيث (لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً) (م 9/1) من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية)، وهنا يلاحظ غياب مفهوم التعسف في الدساتير العربية، وهو مفهوم كان القصد من وراء استخدامه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حماية الأفراد من الأفعال غير المشروعة وغير العادلة بشكل متساوٍ فلو اقتصر الأمر على مجرد حماية الإنسان من الأفعال غير المشروعة فقط لما أمكن الطعن في كل أعمال الظلم التي تقوم بها الإدارة الحكومية طالما كانت تلك الأعمال متفقة مع القوانين الوطنية الموضوعة.(23)
كذلك يلاحظ ان معالجة الدساتير العربية للحقوق الأساسية المتعلقة بكيفية الاعتقال والاحتجاز تعكس وجود اختلافات عديدة تفرض متابعة ودراسة القوانين المطبقة في كل بلد للتأكد مما إذا كانت هذه الحماية للحق في الأمان الشخصي حماية فعلية أم لا، ويمكن القول ان دساتير الدول العربية توفر نوعاً من الحماية النسبية لهذا الحق إلا ان ما يؤخذ على هذه الدساتير ان نصوصها عامة، فدساتير الجزائر والبحرين ومصر واليمن مع المادة 9/3 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية 1966 هي التي يمكن ان تنجح في توفير شيء من الحماية المفصلة والضمانات الموسعة لهذا الحق وبشكل خاص عندما تكون السلطة القضائية هي المرجع في هذا الأمر، فالدستور المصري يشترط وجود أمر اعتقال تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع يكون صادراً عن القاضي المختص أو النيابة العامة طبقاً للقانون (م 41) وتتطابق معها المادة (32/5) من الدستور اليمني مدعومة بالفقرة السابقة التي تضع شرطاً مضمونه عدم جواز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة، كما توفر مجموعة أخرى من الدساتير دوراً أخر للقضاء بحظر تمديد الاحتجاز إلا بأمر قضائي كالمادة (45) من دستور الجزائر والمادة (42/ج)من دستور اليمن.(24)

ثانيا: تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية
ويرتبط بالحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية والحقيقة أن تحريم هذه الممارسات قد جاء مباشرة بعد النص على الحق في الحياة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان مما يعكس أهمية النص على تحريم التعذيب وضروب المعاملة القاسية وغير الإنسانية، وتعرضت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان إلى هذا الموضوع في الطعن الفردي الذي قدمه مواطن نمساوي حكم عليه بالسجن في بلده وكان يتعرض للنوم على أشياء صلبة مرة واحدة كل ثلاثة أشهر كعقوبة تكميلية حكمت بها المحكمة النمساوية وعلى الرغم من ان الطاعن لم يُشِرْ إلى هذه المسألة باعتبارها معاملة غير إنسانية فقد تعرضت الجنة لها تلقائياً وذكرت في قرارها الصادر عام 1959 (انها لاحظت جسامة العقوبة التي وقعت على الطاعن بمقتضى نظام النوم على أشياء صلبة، ولكن مع ذلك، فان هذه العقوبة التكميلية لا يتعرض لها الطاعن إلا مرة كل ثلاثة شهور، ولا تعد نظراً لذلك عقوبة غير إنسانية بالمعنى الوارد في الاتفاقية).(25)
وربما كانت اللجنة ستعد مثل هذه العقوبة غير إنسانية أو استثنائية لو كان الطاعن يتعرض لها يومياً أو خلال مدة طويلة من فترة السجن المحكوم بها عليه، ويؤيد هذا الفهم ان اللجنة لاحظت من تلقاء نفسها جسامة هذه العقوبة.(26)
ان النصوص الدستورية التي تؤكد على تحريم التعذيب والمعاملة غير الإنسانية أو القاسية أو الاستثنائية، توفر بشكل خاص منهجاً لحماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية ولا توجد في عدد من دساتير الدول العربية أية إشارة إلى التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة، فالدساتير العربية التي ترحم التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة لا تتجاوز نصف الدساتير العربية وعلى درجات متفاوتة من التحديد والوضوح حيث تستخدم مصطلحات مثل (الإيذاء والإساءة أو المعاملة بشكل يوصف بالتعذيب بدنياً أو جسمانياً أو معنوياً أو نفسياً أو استخدام مصطلح المعاملة الحاطة بالكرامة أو المهينة أو وضع عقوبات جزائية ضد من يرتكب التعذيب أو ينتهك الحظر المفروض عليه (م28/3 من الدستور السوري)، فضلاً عن اعتبار ما انتزع بسبب التعذيب لاغياً وباطلاً (م 19 و 42 من الدستور المصري)، أما المادة (45) من الدستور الجزائري فهي توفر ضمانة جيدة بهذا الخصوص إذ تنص على (لدى انتهاء مدة التوقيف للنظر، يجب ان يجرى فحص طبي على الموقوف ان طلب ذلك، على ان يعلم بهذه الإمكانية)، ومع ان الفحص الطبي من الوسائل الرادعة أو العملية لمنع اللجوء إلى التعذيب إلا ان ما يلاحظ عليه أنه يُلقي بعبء المطالبة بالفحص الطبي على عاتق الموقوف وعند انتهاء مدة التوقيف فقط وليس قبل ذلك ويقع الالتزام على الدولة بإعلامه ان له الحق في ذلك في نهاية المدة المذكورة.(27)
وتوجد نصوص دستورية أخرى في دول العالم تنص على تحريم التعذيب والمعاملات القاسية أو غير الإنسانية كالمادة (38) من دستور اليابان لعام 1967 التي نصت على (لا يجوز إكراه أحد على الإدلاء بأقوال تسيء إلى مصالحه، والاعتراف الذي يتم نتيجة للإكراه أو التعذيب أو التهديد أو القبض أو الحبس لفترة تتجاوز ما يقتضي به القانون لا يجوز ان ينهض دليلاً في الإثبات، كما لا يجوز إدانة أحد أو توقيع عقوبة جنائية عليه إذا كان اعترافه هو الدليل الوحيد القائم ضده).(28)
اما الدستور العراقي لعام 2005 فقد نص على تحريم جميع انواع التعذيب والمعاملة غير الانسانية فجاء في المادة (37) (( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية ولا عبرة باي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب ، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي او المعنوي الذي اصابه وفقاً للقانون)).
ثالثاً: الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية
هو أيضاً من الحقوق المدنية حيث لا يجوز التدخل بصورة تعسفية أو بشكل غير قانوني بخصوصيات أحد أو بعائلته أو بيته أو مراسلاته كما أنه لا يجوز التدخل بشكل غير قانوني بشرفه وسمعته ويثبت لكل شخص الحق في الحماية القانونية ضد مثل هذا التدخل أو التعرض، ونصت على هذا الحق جميع الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان كاتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي أكدت مضموناً آخر يتعلق بهذا الحق عندما أشارت إلى عدم جواز ان تتدخل السلطات العامة في مباشرة هذا الحق، إلا إذا كان هذا التدخل ينص عليه القانون، ويعد اجراءاً ضرورياً، في مجتمع ديمقراطي للأمن الوطني أو الأمن العام، أو الرفاهية الاقتصادية للدولة، أو لحماية النظام أو لمنع الجرائم، أو لحماية الصحة والآداب، أو لحماية حقوق وحريات الغير، وهذا يعني ان حماية الحياة الخاصة والعائلية والمحافظة على حرمة المسكن وسرية المراسلات ليست مطلقة إذا ما توافرت الشروط المذكورة آنفاً أي إذا كان تدخل المشرع ضرورياً لمباشرة الحقوق المذكورة في مجتمع ديمقراطي وتوافر أسباب ضرورية تبرر التدخل، وعلى هذا الأساس فان الطعن الذي قدم إلى اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان من جانب بعض الأشخاص الذين أرادوا اعتبار مباشرة بعض العلاقات غير المقبولة من الناحية الاخلاقية معترفاً بها أو مقبولة بالاستناد إلى الحق في حماية الحياة الخاصة لكن اللجنة أكدت أن هذا الحق يجوز تقييده بما يفرضه المشرع من حماية للآداب والأخلاق العامة.(29)
والحقيقة ان اللجنة قد أكدت في قرار آخر ان عبارة الصحة والآداب المنصوص عليها في المادة 8/2 لا تشمل الحماية العامة لصحة أو آداب المجتمع بل يراد بها كذلك حماية صحة وآداب أفراد المجتمع ويقصد بها الرفاهية النفسية والمادية للفرد وحماية توازنه النفسي من كل خطر قد يهدده.(30)
وتعتبر عملية مراقبة مراسلات المسجونين من الاستثناءات الجائزة في نطاق النظام الاقليمي الأوربي لحقوق الإنسان بالاستناد إلى المادة 8/2 وينطبق المعنى ذاته على جواز الاحتفاظ بملفات تضم وثائق خاصة بالمسجونين وصوراً لهم وبصمات أصابعهم التي تتعلق بقضايا جنائية سابقة بهدف حماية المجتمعات الديمقراطية من الجريمة واستتباب الأمن العام.(31)
ومن الدساتير التي نصت على هذا الحق ما جاء في المادة 52 من دستور يوغسلافيا السابق الذي حدد شروط انتهاك حرمة المسكن وحرمة السر حيث نص على (للمساكن حرمة، ولا يجوز انتهاك حرمة المساكن وما في حكمها أو تفتيشها على الرغم من ارادة اصحابها إلا بموجب أمر بذلك وفقاً للقانون، ولاصحاب المساكن والمحال التي يجري تفتيشها ولأفراد أسرهم ووكلائهم حق حضور التفتيش ولا يجوز إجراء التفتيش إلا في حضور أثنين من الشهود).
أما الدستور المصري لعام 1971 فقد نصت المادة 44 منه على ان (للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقاً لأحكام القانون).
ونصت المادة 45 من الدستور ذاته على ان (لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التلفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو مراقبتها إلا بأمر قضائي ولمدة محددة وفقاً لأحكام القانون)، ونصت المادة 57 على ان (كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية والمدنية عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء).(32)
في حين اوردت المادة (17) من الدستور العراقي لعام 2005 ( اولاً : لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين او الاداب العامة . ثانياً : حرمة المساكن مصونة ، ولا يجوز دخولها او تفتيشها او التعرض لها إلا بقرار قضائي ، وفقاً للقانون).
ان الحق في الحياة الخاصة قد يتعارض مع حقوق وحريات أخرى منها مثلاً التنازع الذي يحدث بين الحق في حماية حرمة الحياة الخاصة وضرورة العيش بسلام وأمان مع الحق في التعبير والتجمع، ومن ثم فانه يجب ممارسة هذين الحقين بطريقة معتدلة ومنصفة لكي لا يطغى احدهما على الآخر.(33)
رابعاً: حرية التنقل (الغدو والرواح)
بموجب هذا الحق يصبح لكل انسان مقيم بصفة قانونية داخل اقليم دولة معينة الحق في حرية الانتقال من مكان إلى آخر، وفي اختيار مكان اقامته ضمن ذلك الاقليم وله الحرية في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، ولا يجوز حرمان أحد من حق الدخول إلى بلاده، ويذكر هنا ان الحقوق المشار إليها أعلاه يمكن ان تخضع لقيود ينص عليها القانون إذا كانت هذه القيود القانونية ضرورية لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق وحريات الآخرين، فعلى سبيل المثال منع قانون الاقامة العراقي الملغى لسنة 1961 الأجانب من الاقامة والمرور والتجول في بعض المناطق فمنع الاقامة في محافظات الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك عدا حدود بلدية مركز المحافظة وأخضع سفر الأجانب من العاصمة إلى المناطق المحرمة المذكورة آنفاً على استحصال موافقة وزارة الداخلية ومديرية الأمن العامة ومنع الأجانب من الاقامة في المؤسسات النفطية باستثناء العاملين فيها،( 34) اما اليوم فقد حرص الدستور العراقي لعام 2005 على ان يؤكد حرية المواطن العراقي في التنقل والسفر فنص في المادة (44) منه (اولاً : للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه . ثانياً : لا يجوز نفي العراقي ، او ابعاده او حرمانه من العودة الى الوطن ) .
كذالك فعل الدستور الاردني النافذ في الماده (9) منه ( 1- لايجوز ابعاد اردني عن ديار المملكه .
2- لايجوز ان يحظر على اردني الاقامه في جهه ما ولا ان يلزم بالاقامه في مكان معين الا في الاحوال المبينه في القانون).
ومن الجدير بالذكر انه يمكن ابعاد الأجنبي المقيم بصورة قانونية من اقليم الدولة إذا كان ذلك الأمر بالإبعاد صادراً طبقاً للقانون، ويستطيع ان يعترض على هذا القرار إلا إذا كانت هناك أسباب اضطرارية تتعلق بالأمن الوطني تتطلب غير ذلك، وهذا ما نصت عليه المادة 13 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية.

خامساً: الحقوق الأسرية
تعد العائلة الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية لكل مجتمع وبهذه الصفة يقع على كاهل الدولة والمجتمع حمايتها، وإذا كانت النصوص القانونية تقر بهذه الحقيقة فقد تم الاعتراف كذلك للرجال والنساء الذين هم في سن الزواج بتكوين الأسرة باعتبارها الخلية الاجتماعية الأساسية في جميع المجتمعات البشرية وهي تتشكل نتيجة الرضا الكامل لأطراف العلاقة ويقع على كاهل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأمين المساواة في كافة الحقوق والمسؤوليات في المراحل المختلفة للزواج كما يجب حماية الأطفال باعتبارهم قاصرين ويقع الالتزام الأخير على الأسرة والدولة والمجتمع ويجب تسجيل كل طفل فور ولادته ويكون له اسم.
وترتبط بحقوق الأسرة حقوق وواجبات الأبوة وقد لاحظ المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1955 تبني بعض الأنظمة القانونية لمبدأ يحصر السلطة الأبوية أو هي تجعل هذه السلطة في المرتبة الأولى من حق الزوج ولا يوجد أي حق للزوجة في مباشرتها وان حضانة الأطفال في حالة انتهاء الزواج تكون للزوج بصرف النظر عن ظروف القضية، ورأى المجلس ان هذا الوضع لا يتفق مع مبدأ المساواة بين الزوجين وأوصى الدول الأعضاء باتخاذ تدابير تضمن تحقيق المساواة بين الأب والأم في مباشرة الحقوق والالتزامات تجاه الأفراد وهذه تشمل المساواة في مسائل حضانة الأطفال القصر وتعليمهم ورعايتهم وإدارة أموالهم سواء عند الزواج أو أثنائه أو بعد الانفصال.(35)
والحقيقة ان الحق في تكوين الأسرة أي حق الفرد في ان يتزوج ويؤسس عائلة دون تدخل الدولة وله بالنتيجة ان يربي أطفاله ويعلمهم بالشكل الذي يريده، كل هذه تعد من الحريات المانعة التي يراد بها تلك الحريات التي يكون مضمونها أو ميدانها خاصاً بالأفراد ومحفوظاً لهم بحيث يحرم على الحكام التدخل فيه.

سادساً: مبدأ المساواة المدنية
يطغى على نظريات الحريات مبدأ أساسي في كل ما تقرره من حقوق وحريات لمصلحة الأفراد وهو مبدأ المساواة ويعني ان جميع الأفراد متساوين في التمتع بالحريات الفردية دون أي تفرقة أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين، ولذلك فان الديمقراطيات التقليدية ترى في اقرار هذا المبدأ ضمانة أساسية من ضمانات الحريات الفردية وهو يتضمن:
أ- المساواة أمام القانون.
ب- المساواة أمام القضاء.
ج- المساواة أمام الوظائف العامة.
د. المساواة أمام التكاليف العامة، كأداء الضرائب أو أداء الخدمة العسكرية.(36)
ومبدأ المساواة يعد واحداً من خصائص الديمقراطية الغربية ويراد به تحديداً المساواة أمام القانون وتسمى كذلك بالمساواة المدنية لكنها ليست مساواة فعلية أي مساواة من الناحية المادية والاقتصادية، والمقصود بمبدأ المساواة أمام القانون ان يكون القانون واحداً بالنسبة للجميع ودون تمييز بين طبقة وأخرى، ولا بين الأفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة وليس المقصود بهذه المساواة المساواة الفعلية التي نادت بها المذاهب الاشتراكية لكن المقصود بالمساواة أمام القانون ان تلك الميزات الاجتماعية التي يحظى بها المواطنون يجب ان يحميها القانون دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى، وقد تقرر هذا المبدأ على الصعيد الرسمي لأول مرة في الديمقراطيات الغربية الحديثة في وثيقة إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789، حيث أشار الإعلان إلى ان الحقوق الفردية أو الحقوق الطبيعية للإنسان هي الحرية، المساواة، الملكية، حق الأمن، حق مقاومة الظلم.(37)
ولكن ما هو أساس المساواة المدنية بين الأفراد؟
يذهب أنصار نظرية العقد الاجتماعي إلى ان هذا العقد هو مصدر المساواة المدنية وهم يبرهنون على ذلك بان شروط العقد كانت واحدة بالنسبة لجميع المشتركين فيه، وهذا يعني انه أبرم بين أطراف متساوين وان الدولة التي تكونت نتيجة لإبرام هذا العقد يقع عليها التزام بمعاملة أطرافه معاملة متساوية باعتبارهم متساوون.
وقد استنتج بعض فقهاء القرن الثامن عشر ان المساواة المدنية بين الأفراد مصدرها أحكام القانون الطبيعي وهم يقولون ان الناس حين كانوا يعيشون في الحالة الطبيعية الأولى كانوا متساوين لا يفرق بينهم فارق ولا يميز بينهم مميز، وقد أكدوا هذا المساواة على الرغم من اعترافهم بان الافراد غير متساوين من حيث كفاءتهم الجسمية والمعنوية، وأنصار مدرسة القانون الطبيعي يؤيدون فكرة المساواة بين الأفراد على اعتبار انها تقوم على أساسين: الأول ان كل فرد يشترك مع غيره من الأفراد في الطبيعة الانسانية، والثاني ان كل فرد يجب ان يحترم احكام القانون الطبيعي إذا أراد ان يحترم غيره من الأفراد أحكام هذا القانون في علاقتهم مع هذا الشخص، وهذا الالتزام المتبادل بين الأفراد سيقود إلى تحقيق المساواة بينهم(38)

ويترتب على المفهوم المتقدم ان المساواة بين الأفراد تكون حقيقية كما هي واقعة فعلية من غير الممكن انكارها، وهذا لا يعني تحقيق المساواة المادية أو المساواة في الثروة تلك المساواة التي تنادي بها الماركسية التي تستهدف ضمان ان يكون للأفراد قدراً متساوياً من الثروة، والدراسة التاريخية للوقائع تظهر ان الديمقراطية التقليدية لم تكن تستهدف تحقيق المساواة المادية بين الأفراد فالنضال في عهد الثورة الفرنسية كان يستهدف الوصول الى الحرية السياسية لإشراك الشعب في إدارة شؤون البلاد وبشكل متساوي بين الأفراد ولم تخطر فكرة المساواة المادية ببال منظري تلك الفترة، والحقيقة المهمة ان المساواة المدنية لا تتحقق إلا إذا تم الاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقوم الدولة بتقديمها.
يتضمن مبدأ المساواة المدنية كما أشرنا آنفاً مساواة الأفراد أمام القانون وهو يتطلب من الشارع ان يسن تشريعاته دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى ففي مجال القانون الجنائي ان ينص على توقيع العقوبة ذاتها بالنسبة لنفس الجريمة على الجميع ولا يعد وجود حدٍ أدنى وحدٍ أعلى للعقوبة على ذات الجريمة وبالشكل الذي يقود إلى تطبيق أو فرض الحد الأدنى على حالة والحد الأعلى على حالة أخرى، إخلالاً بمبدأ المساواة أمام القانون أو المساواة في العقاب.(39)
المبدأ الثاني الذي تشتمل عليه المساواة المدنية هو مبدأ المساواة أمام القضاء بمختلف جهاته ودرجاته، والمقصود به: ألا يكون هناك تمييز لأشخاص على غيرهم من حيث القضاة أو المحاكم التي تفصل في جريمة ولا من حيث العقوبات القانونية التي تقرر على مرتكبيها وعلى أساس هذا المبدأ (المساواة أمام القضاء) قضت الثورة الفرنسية على المحاكم الخاصة بالنبلاء وعلى المحاكم الخاصة الأخرى أو الاستثنائية التي تحاكم مرتكبي بعض الجرائم الخاصة، كما قضت على التفريق في العقوبة الذي كانت هذه المحاكم تتبعه، وفي طرق تنفيذ العقوبة حيث كان الأشراف يعدمون بضرب العنق (المقصلة) في حين كان يتم اعدام غير النبلاء شنقاً.(40)
أما المساواة أمام الوظائف العامة فهي تلزم مؤسسات الدولة بعدم التمييز بين المواطنين عند تقديمها للخدمات أو عند استيفائها للمقابل عنها ويدخل ضمن هذا الأمر عدم جواز اقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين ولا يجوز اقامة أي تمييز فيما بين المواطنين بخصوص قبولهم في الوظائف والأعمال العامة طالما كانوا متساوين في الشروط التي يتطلبها القانون، ومع ذلك يمكن قبول استثناءات محدودة جداً وهذه الاستثناءات التي ترد على المبدأ المذكور محددة للغاية، ففي فرنسا مثلاً قرر قانون صدر عام 1886 منع أبناء العائلات التي سبق لها تولي عرش فرنسا من تقلد الوظائف العامة أو النيابية.(41)

أما المساواة في التكاليف فهي تشكل جانباً من المساواة أمام المصالح والمؤسسات العامة حيث لا يجوز ان تفرض الضرائب مثلاً على فئة اجتماعية دون أخرى بمعنى ان الضرائب يجب ان لا تثقل كاهل طبقة من الأفراد أكثر من طبقة أخرى(42) فمن التجاوزات غير المشروعة على هذا المبدأ الاعفاء الكلي من الضرائب قبل ثورة 1789 الفرنسية بالنسبة للأشراف ورجال الدين(43) وكذلك الحال فيما يتعلق بأداء الخدمة العسكرية إلا انه يلاحظ ان من المقبول فرض بعض الشروط للانتفاع ببعض المؤسسات العامة ذلك ان من المصالح العمومية ما لا يمكن للأفراد ان يطالبوا بخدماتها إلا إذا توافرت فيها شروط معينة أو قاموا بإجراءات خاصة تحددها القوانين والتعليمات وعلى ذلك لا يمكن لجميع المواطنين دخول الجامعة إلا إذا كانوا حاصلين على شهادة الدراسة الإعدادية ولا يمكن لجميع الأفراد ان ينتفعوا بمياه الشرب أو الكهرباء إلا إذا دفعوا مقابل هذه الخدمات.(44)
ولا خلاف في الوقت الراهن على ان المساواة أمام مؤسسات الدولة أو المساواة المدنية عموماً أصبحت واجبة الاحترام ولذا فان كل قانون يخرج على مقتضياتها سيكون مخالفاً للدستور وإذا خالفت دائرة من دوائر الدولة مبدأ المساواة فمن حق الفرد الذي أصابه الضرر ان يرفع دعوى أمام القضاء طالباً التعويض من الدائرة المخالفة، فإذا امتنعت مؤسسات الاتصالات عن ايصال خدمة الهاتف إلى أحد المواطنين فانه يجوز له ان يرفع أمره إلى القضاء للحكم له بالتعويض المناسب إلا انه لن يكون هناك مجال للتعويض إذا كان الرفض مبنياً على خطأ طالب الاشتراك نفسه أو كان مبنياً على مسوغ شرعي كعدم توفر الخطوط الكافية مثلاً،(45) وقد لا تمتنع المؤسسة الحكومية عن اداء الخدمة وإنما تميز فقط في المعاملة بين اشخاص كانت تجب المساواة فيما بينهم فان من حق المتضرر المطالبة بالتعويض أو الغاء الأمر الذي بني على تميز في المعاملة.(46)
وتتضمن الدساتير العربية جميعها مبدأ المساواة أمام القانون الذي يقضي بان كل المواطنين سواسية أمام القانون فقد ورد في المادة 40 من الدستور المصري ان (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة).
كما نص الدستور العراقي في المادة (14) منه : ( العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي).
وفي الاتجاه ذاته جاء الدستور الاردني في الماده (6) منه لينص :
( 1- الاردنيون امام القانون سواء لاتمييز بينهم في الحقوق والواجبات وان اختلفوا في العرق او اللغه او الدين .
2- تكفل الدوله العمل والتعليم ضمن حدود امكانياتها وتكفل الطمأنينه وتكافؤ الفرص لجميع الاردنيين ) .

والحقيقة ان معظم الدساتير العربية اتفقت في نصوصها التي أوردتها بهذا الشأن مع اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية مع فروقات بسيطة في التعابير المستخدمة ويستثنى من ذلك ما تذكره هذه الاتفاقية من منع التميز على أساس الرأي السياسي وغير السياسي وأحوال الملكية والميلاد وغيرها وتستبدل هذه في بعض الدساتير العربية بالكلام عن حظر التمييز على أساس الحالة الاجتماعية أو محل الاقامة أو المهنة بينما يورد الدستور اللبناني نصاًَ مبسطاً إذ يذكر فيه (كل اللبنانيين سواء لدى القانون ... دونما فرق بينهم)(47)
ولا يشكل النص في دساتير العالم على المساواة وعدم التمييز مجرد مبدأ توجيهي أو مجرد توصية، لكنه نص أساسي ودقيق ومهم للغاية وهو يفرض على الأجهزة القضائية واجب اكتشاف ان السلطات التشريعية والإدارية قد أخذت بنظر الاعتبار هذا المبدأ في تعاملها مع المواطنين وعند انتهاك هذا المبدأ فانه يجب على القضاء ان يأمر هذه الجهات بعدم تطبيق القوانين والقرارات والتعليمات الأخرى غير المنسجمة مع هذا القانون.(48)
الفرع الثاني- الحقوق السياسية
يقع تحت هذا العنوان مجموعة من الحقوق والحريات التي توصف بانها ذات مضمون سياسي بشكل أو بآخر، منها حق المواطنة (الجنسية) وحق المشاركة في الشؤون العامة وحق الاجتماع وتشكيل الجمعيات والعضوية فيها والحق في حرية الرأي والعقيدة والدين وسنتعرض لهذه الحقوق بالشكل الآتي:
أولاً: حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات
يتكون هذا الحق من قدرة الفرد للاجتماع بغيره بهدف عرض آرائه، ويذهب أحد الكتاب إلى عدم جواز الخلط بين حق الاجتماع وحق تشكيل الجمعيات، فالأول هو اجتماع مجموعة من الأشخاص بشكل مؤقت وفي مكان معين بهدف عرض بعض الأفكار ومناقشتها، أما الحق الثاني فهو يتكون من اتفاق مجموعة أشخاص على تكريس نشاطهم بهدف الوصول إلى تحقيق غرض معين، والاجتماع في هذه الحالة له صفة الدوام ولا يستطيع المشرع المساس بهذا الحق أو جوهره إلا انه يستطيع ان يتخذ الاجراءات التي تضمن عدم مساس هذه الاجتماعات أو التجمعات بحرية الآخرين أو الأمن العام، ومن ثم فان من الممكن تنظيم الحق في الاجتماع وذلك باخطار الإدارة قبل انعقاد الاجتماع أو التجمع وقد ضمنت الدساتير هذا الحق إذ نصت المادة (11) من الإعلان حقوق الإنسان الفرنسي والصادر سنة 1789 ضمناً على احترام حق الأفراد في الاجتماع وكذلك الحال في دستور 1791 ودستور 1848 الفرنسيين.(49)
أما الحق في تشكيل الجمعيات فلا نجد إشارة له في إعلانات الحقوق وكذلك الحال مع الدساتير التي صدرت في فترة الثورة الفرنسية حتى ان واضعي إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 كانوا يرون ان الحق في الاشتراك في تكوين الجمعيات يتضمن اعتداء على الحرية الفردية لذلك فقد أصدروا قانوناً سنة 1791 يقضي بمنع الجمعيات المهنية إلا ان الوضع لم يستمر على هذا النحو فهناك أول إشارة للحق في تكوين الجمعيات وردت في المادة (Cool من دستور 1848.(50)
ان اهمية الحق في تكوين الجمعيات تبرز من خلال الإقرار بوجود وسيلة واحدة للحرية تتمثل بحرية تكوين الجمعيات، فالفرد يكون حراً مادام قوياً وهو كذلك بالقدر الذي لا يكون فيه منفرداً.
في انكلترا يعد النظر إلى حرية الاجتماع طبقاً للقانون الانكليزي مثالاً للصورة التي تنظر فيها العقلية الانكليزية إلى حرية الفرد، فالفقيه الانكليزي دايسي يقول ان القانون الانكليزي، على العكس من القانون الفرنسي والبلجيكي لا يعرف حقاً متميزاً قائماً بذاته يرعى حق الاجتماع لكن هذا الحق عبارة عن امتداد للحرية الشخصية ولحرية التعبير حيث يستطيع مجموعة من الأِشخاص التجمع للتعبير عن آرائهم ولكن هذا الحق في الاجتماع للتعبير عن الرأي لا يمكن ان يمارس بطريقة مخالفة للقانون، إذ ان عقد الاجتماع بطريقة تنطوي على جريمة أو تعكير للأمن بشكل أو بآخر ففي هذه الحالة سيكون الاجتماع غير مشروع وهنا يجوز للسلطات العامة فض الاجتماع وتحميل المجتمعين المسؤولية عنه، إلا انه يلاحظ ان القضاء الانكليزي ومنذ سنة 1882 حكم بعدم جواز ان يتحول اجتماع مشروع إلى اجتماع غير مشروع لمجرد أثارته لمعارضة عنيفة ومخالفة للقانون وإفضائه بذلك عن طريق غير مباشر إلى اضطراب الأمن.(51)
أما القيود التي يوردها القانون الانكليزي على حرية الاجتماع فهي:
1- إذا قام في سلوك القائمين بالاجتماع ما يجعله غير مشروع وأثار هذا السلوك غير المشروع مناوئي الاجتماع مما أدى إلى التصادم والاشتباك فانه يجوز اعتبار المشتركين في الاجتماع مسؤولين عن نتائج الاصطدام، فمثلاً إذا عقد أحد دعاة البروتستانتية اجتماعاً في مكان عام يكثر فيه الكاثوليك واستعمل في خطبه ألفاظاً نابية وسباً للكاثوليك مما دفع بعضاً منهم إلى الاعتداء بالقوة على المجتمعين فان هذا الاجتماع يعد غير مشروع.
2- إذا كان هناك اجتماع مشروع من حيث الهدف وسلوك المشتركين فيه إلا انه أثار اضطرابات من غير الممكن إعادة النظام والأمن إلى المجتمع دون فض هذا الاجتماع فان الإدارة يجوز ان تأمر المجتمعين بالتفرق أما إذا استمر الاجتماع رغم ذلك فسيعد اجتماعاً غير مشروع.
3- هناك قوانين عديدة تنظم عقد الاجتماعات في انكلترا منها قانون الطريق العام الذي يعاقب على عقد الاجتماع في الطريق العام دون الحصول على اذن من الإدارة، فادعاء المجتمعين بحقهم في الاجتماع بأي عدد ولأي مدة يريدون الاجتماع فيها على الطريق العام فيه إضرار بحقوق الآخرين، ولا يمكن ان ينسجم مع حق المرور إذا ترك الأمر على اطلاقه دون تنظيم.(52)
أما الاجتماعات المتحركة (المظاهرات) فالقضاء الإنكليزي يقدر الظروف والملابسات التي تحيط بكل اجتماع وفي عام 1936 صدر قانون المحافظة على النظام العام الذي خول سلطة محددة للإدارة على المواكب التي يخشى من تأثيرها السلبي على النظام والأمن العام، كما يعاقب القانون الإنكليزي على جريمة التجمهر (Riot) والمقصود به اجتماع ثلاثة أشخاص أو أكثر في طريق أو مكان عام بهدف تحقيق غرض مشترك بالقوة ويتسم سلوكهم بالعنف، ففي حالة كون هدف المتجمهر ارتكاب جناية أعتبر التجمهر جناية،(53) أما حول تكوين الجمعيات فالقانون الإنكليزي كقاعدة عامة يعطي حرية كاملة في تكوين الجمعيات طالما كان الهدف الذي تسعى إليه أو محلها مشروعاً، والحقيقة ان الجماعات المهنية كانت غير مشروعة إلى منتصف القرن التاسع عشر ثم صدر تشريع عام 1871 اعترف بشرعية تلك الجماعات.(54)
المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى حرية الاجتماع باعتباره شكلاً من أشكال حرية الرأي والتعبير عنه، وقد حكمت عام 1939 بعدم جواز اخضاع أي اجتماع في النية عقده ويكون عاماً لشرط الحصول على أذن سابق من إحدى الجهات الإدارية باعتبار ان حرية الاجتماع هي واحدة من الخصائص والميزات التي يحظى بها المواطن في أمريكا وهي مظهر مهم من مظاهر الحرية التي لا يمكن التعرض لها إلا بالطرق القانونية اللائقة، وبخصوص تسيير المواكب في الطرقات قضت المحكمة العليا عام 1941 بضرورة الحصول على إجازة مسبقة، والحقيقة ان منح هذه الإجازة كان هو الأصل وهي لا تمنح إلا إذا كانت هناك مجموعة من الاعتبارات المتعلقة بحسن سير المرور أو تفادي الاصطدام بين المظاهرات المتعارضة، فضلاً عن التقليل من أخطار الاضطرابات.(55)
وتضمن جميع دساتير الدول العربية حرية تكوين الجمعيات عدا دستور قطر والقانون الأساسي السعودي إذ لا توجد أية إشارة لهذا الحق ويختلف تعريف تكوين الجمعيات أو مفهومه من دولة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال يلاحظ في بعض هذه الدساتير إشارة عامة إلى حق تشكيل الجمعيات بينما تشير دساتير أخرى فضلاً عما تقدم وبإشارة خاصة إلى حق تكوين الأحزاب السياسية أو الجمعيات ذات الطابع السياسي كجزء من ضمان حرية تكوين الجمعيات وهناك أحد عشر دستوراً عربياً تضمن الحق في تكوين الجمعيات أو النقابات المهنية أو العمالية.
وعند استعراض الدساتير العربية يلاحظ ميلها إلى التقييد من هذا الحق، فيلاحظ مثلاً ان المادة 16 من الدستور الأردني تنص على (للاردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية على ان تكون غايتها مشروعة ووسائلها سليمة وذات نظم لا تخالف أحكام دستورها)، أما المادة 26 من دستور البحرين فقد ضمنت حرية تكوين الجمعيات بشرط ان تكون قائمة على أسس وطنية ولأهداف مشروعة، ويلاحظ كذلك عدم إجازة أي قانون أو دستور إقامة تجمعات تقود إلى تهديد سلامة وأمن البلد والحقيقة ان استخدام عبارات مثل (أهداف شرعية) أو (أسس وطنية) هي عبارات تميل وتفسر غالباً لمصلحة السلطة ضد حقوق وحريات الأفراد.
وقد اكد الدستور العراقي لعام 2005 على حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية فقد تضمنت المادة (39) : ( اولاً :- حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية ، او الانضمام اليها مكفولة و ينظم ذلك بقانون.
ثانياً :- لا يجوز اجبار احد على الانضمام الى أي حزب او جمعية او جهة سياسية او اجارة على الاستمرار في العضوية فيها ).
كما اورد الدستور الاردني في الماده (16) منه :
( 1- للاردنيين حق الاجتماع ضمن حدود القانون .
2 - للاردنيين الحق في تاليف الجمعيات والاحزاب السياسيه غلى ان تكون غاياتها مشروعه
ووسائلها سلميه وذات نظم لاتخالف القانون .
3 -ينظم القانون طريقة تاليف الجمعيلت والاحزاب السياسيه ومراقبة مواردها ).

واذا كان هذا الدستور وكثير من الدساتير العربية الاخرى تكفل حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب ، فان القوانين التي تنظم هذه الحرية تحضر على الافراد عموماً تكوين هذه الجمعيات ما لم تستحصل على اجازة او اذن مسبق من السلطة التنفيذية ، ولا يتم الحصول على هذا الاذن مالم يتم التأكد من ولاء اعضاء هذه الجمعية للنظام السياسي القائم .
لذلك فان اعمال هذه الحرية يتطلب العدول عن موضوع الاجازة او الاذن الى الاخبار او الاشعار ومقتضاه ان يعمل اعضاء الجمعية على اخبار السلطة التنفيذية بتأسيس جمعيتهم دون ان يتوقف تأسيس الجمعية على اذن هذه السلطة .
والخلاصة ان دساتير الدول العربية تضمن هذا الحق المتمثل بتكوين الجمعيات أو الروابط الأخرى بمفهومها الاجتماعي أو المهني إلا انه يلاحظ زيادة القيود التي تفرض على تشكيل الجمعيات أو الروابط كلما اقتربت هذه التشكيلات من العمل السياسي، فضلاً عن استخدام صياغات وعبارات عامة يسهل تفسيرها لصالح السلطة.(56)

ثانيا: حرية الرأي والتعبير
هي واحدة من الحقوق المعنوية ذات الطابع السياسي ولقد أكدت الدساتير جميعها تقريباً على تمتع الأفراد بها، فنجد المادة العاشرة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة 1789 تنص على عدم جواز ان يضايق شخص بسبب آرائه، وقد قامت الجمعية الوطنية الفرنسية بتكريس هذا الحق في المادة 7 من دستور 1793 بالنص على (لا يجوز منع الأفراد من اظهار آرائهم ومعتقداتهم)، كما ينص دستور السنة الثالثة على عدم جواز منع أي شخص من الكلام أو الكتابة أو طبع أو نشر آرائه كما لا يجوز اخضاع المحررات قبل نشرها لأية رقابة ولا يمكن مسائلة أي شخص عما عبر عنه كتابة وقام بنشره إلا في الأحوال التي يحددها القانون.(57)
والحقيقة ان حرية الرأي تشمل مجموعة من الحقوق كحرية الاعتقاد بدين معين وحرية الاجتماع وحرية التعليم والصحافة، وسنتعرض لهذه الحقوق بعد ان تعرضنا سابقاً للحق في حرية الاجتماع.
فالحق في حرية الرأي يراد به (ان كل انسان يستطيع التعبير عن آرائه وأفكاره للناس سواء كان بشخصه أو برسالة أو بوسائل النشر المختلفة أو عن طريق الروايات أو الأفلام وغيرها من وسائل الن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:07 pm


المطلب الأول
حقوق الإنسان المدنية والسياسية( الجيل الاول)

تعرف الحرية بانها تأكيد كيان الفرد تجاه سلطة الجماعة وهو ما يعني، الاعتراف للفرد بالإرادة الذاتية، مما يعني الاتجاه إلى تدعيم هذه الإرادة وتقويمها بما يحقق للإنسان سيطرته على مصيره، وقد فهمت الحرية انطلاقاً من المعنى المتقدم خلال القرن التاسع عشر باعتبارها وسيلة لمقاومة الدولة وتقييد سلطاتها لصالح الأفراد فهي ضمانة لاستقلال الفرد وتحقيق ذاته وحفظ كرامته الإنسانية وعلى هذا الأساس سارت الحريات الفردية في اتجاهين:
الاتجاه الأول يتمثل في تحديد مجال خاص للنشاط الفردي حيث يعتبر هذا المجال منطقة مغلقة في مواجهة الحكومة، ومن ثم فان المجموعة الأولى من الحريات الفردية سيقصد بها الحريات المتعلقة بالنشاط الفردي التي لا تستطيع الدولة ان تباشر أي نشاط فيها.
الاتجاه الثاني تمثل بالاعتراف بمجال محدد للنشاط الحكومي، مع الاعتراف للأفراد بحقيقة أساسية هي انهم يملكون وسائل متعددة لمنع الدولة من ان تبسط نفوذها وسيطرتها، وبالشكل الذي يمنع تهديدها للنشاط الفردي وهذه تمثل المجموعة الثانية من الحريات الفردية، وهي الحريات المقررة للأفراد باعتبارها وسائل لمعارضة الدولة داخل الحيز المسموح لها بالتدخل فيه، ومن ثم فان هناك مجموعة من الحريات الفردية حيث تشتمل المجموعة الأولى المشار إليها آنفاً باعتبارها تمثل الحريات أو الحقوق المدنية(16) وسنتعرض لبعض منها وهي:
الفرع الأول- الحقوق المدنية (الفردية)
أولاً: الحق في الحياة والحرية وفي أمان الفرد على نفسه
يعد الحق في الحياة أحد الحقوق الطبيعية التي يجب ان تضمن لكل إنسان، وحماية هذا الحق لا يقتصر على عدم المساس به من قبل الدولة وسلطاتها العامة، بل هو حق يتطلب ضمانهُ التزام الدولة بمنع حدوث الاعتداء عليه من جانب الأفراد، والهيئات، والجماعات، ووضع القوانين التي تحقق هذه الحماية بصورة فعلية، وتوقع الجزاء على من يعتدي على هذا الحق بأي شكل من الأشكال.(17)
ونصت أكثر من اتفاقية دولية على هذا الحق بشكل صريح، أما دساتير الدول العربية فلا يوجد دستور عربي واحد يضمن الحق في الحياة بأي شكل كان،(18) فيما عدا قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (م12)، فقد نصت المادة السادسة من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية على تفاصيل تتضمن مجموعة من الضمانات لهذا الحق إذ تشير هذه المادة إلى ((1- لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي)
أما الفقرات الأخرى من المادة ذاتها فقد جاءت بتنظيم قانوني لمسالة عقوبة الإعدام باعتبارها من أكثر المسائل التي يمكن ان تتعرض للحق في الحياة إذ تنص على: (2- يجوز ايقاع حكم الموت، في الأقطار التي لم تلغَ فيها عقوبة الإعدام بالنسبة لأكثر الجرائم خطورة فقط طبقاً للقانون المعمول به في وقت ارتكاب الجريمة وليس خلافاً لنصوص العهد الحالي والاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها، ولا يجوز تنفيذ هذه العقوبة إلا بعد صدور حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة. 3- ليس في هذه المادة، إذا كان حرمان الحياة يشكل جريمة إبادة جنس ما يخول أية دولة طرف في العهد الحالي التحلل بأي حال من أي التزام تفرضه نصوص الاتفاق الخاص بالوقاية من جريمة إبادة الجنس والعقاب عليها. 4- لكل محكوم عليه بالموت الحق في طلب العفو أو تخفيض الحكم ويجوز منح العفو أو تخفيض حكم الموت في كافة الأحوال. 5- لا يجوز فرض حكم الموت بالنسبة للجرائم التي يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً كما لا يجوز تنفيذه بامرأة حامل. 6- ليس في هذه المادة ما يمكن لأية دولة من الدول الأطراف في العهد الحالي الاستناد إليه من اجل تأجيل إلغاء عقوبة الإعدام أو الحيلولة دون ذلك الإلغاء).
وفي 15 كانون الأول 1989 أعلن البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بهدف إلغاء عقوبة الإعدام وفيه تم التأكيد على ان إلغاء هذه العقوبة يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان وان التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تمثل تقدماً في المتمتع بالحق في الحياة، وهذا البروتوكول يضع التزاماً على الدول الأطراف في مادته 1 / 2 بوجوب إلغاء الدولة لعقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.(19)
ان خلاصة موقف القانون الدولي يتجه إلى إلغاء هذه العقوبة باعتبارها تتنافى مع الحق في الحياة، إلا ان هذا الاتجاه يبقى غير معبر عن السياسات العقابية في بلدان العالم المختلفة والتي تنسجم على وجه العموم مع المجتمعات الوطنية لكل دولة، فضلا عن ان العديد من البلدان التي تعتمد هذه العقوبة توجد فيها ضمانات متعددة، فإيقاع الإعدام لا يتم بإجراءات سهلة ومن هذه الضمانات انه لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا على أكثر الجرائم خطورة، وهي تثبت الحق في الاستفادة من العقوبات الأخف في ظل ظروف معينة، والحق الإلزامي بالاستئناف مع إتاحة الوقت الكافي لإعداد الدفاع والتماس العفو، ووضعت استثناءات من عقوبة الإعدام بالنسبة للأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة والحوامل، والأمهات الحديثات الإنجاب، والأشخاص المخبولين أو الذين أصبحوا كذلك أو المتخلفون عقلياً، ونص على مقتضيات خاصة بالإثبات فيما يتعلق بالكشف عن الجرائم وأهلية المحاكم بغية ضمان محاكمة عادلة وعدم ترك أي مجال لتأويل الحقائق على غير ما هي عليه، ويحق للمتهمين الحصول على مساعدة قانونية خاصة تفوق ما يقدم في حالات الجرائم التي لا يعاقب عليها بالإعدام كما يحق للمتهمين الإطلاع على كامل التهم الموجهة إليهم والأدلة المستخدمة ضدهم وهناك التزام إنساني بأن يضمن عند تنفيذ هذه العقوبة ان تكون معاناة السجناء عند الحد الأدنى.(20)
من جانب آخر يشار إلى ان لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قراراً في 3 نيسان 1997 طالب جميع الدول التي لم تُلغِ بعد عقوبة الإعدام بأن تدرس وقف تنفيذ الإعدام بغية إلغاء هذه العقوبة إلغاءً كاملاً وطالب القرار دول العالم بالانضمام إلى البروتوكول الاختياري الثاني الملحق باتفاقية الحقوق المدنية والسياسية كما ان نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمده مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين في تموز 1998 لا ينص على فرض عقوبة الإعدام على أي من الجرائم الخطيرة الواردة في النظام الأساسي.(21)
موقف الدساتير العربية من عقوبة الإعدام
تخلو الدساتير العربية من أية تدابير تقيد من عقوبة الإعدام، كحظر إعدام من يقل سنه عن 18 عاماً أو حظر إعدام النساء الحوامل، وهذا ما قد يوحي بأن واضعي هذه الدساتير قد اختاروا ان يتجنبوه تماماً في دساتيرهم على اعتبار ان من حق الدولة استخدام هذه العقوبة وهذا أمر مسلم به طبقاً لهذا الاتجاه الدستوري ومع ذلك فهناك بعض الدساتير تتضمن إشارة إلى هذا الموضوع بطريقتين: الأولى تتعلق بتحديد حق طلب العفو من عقوبة الإعدام أو إبدالها وهذا أمر تتركه الدساتير لرئيس الدولة، بينما تنفرد الوثيقة الخضراء الليبية في منح المحكوم عليه الحق بطلب التخفيف أو الفدية (مCool ولا يتحدث أي دستور عربي آخر عن مفهوم الفدية في هذا المجال.
أما الطريقة الثانية فهي تتمثل في منع بعض الدساتير الوسائل غير المشروعة للعقوبات كالدستور اليمني (م33) ولا يبدو واضحاً إذا ما كان ذلك يشمل عقوبة الإعدام، وتمنع الوثيقة الخضراء الإعدام بوسائل تعتبرها بشعة كالكرسي الكهربائي والغازات السامة وهذه أساليب متبعة في الولايات المتحدة الأمريكية.(22)
أخيراً من الضروري التذكير بان الشريعة الإسلامية تأخذ بعقوبة الإعدام لبعض الجرائم وهي توفر مجموعة من الضمانات الكافية في إطار فلسفة التشريع والعقاب في هذه الشريعة، قال تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
أما الحق في الحرية وأمان الفرد على نفسه فهذه حقوق تتضمن مجموعة كبيرة من الحريات والحقوق التي تنضوي تحتها فلا يجوز استرقاق إنسان لأي سبب كان، وهذا أمر نصت عليه الكثير من الاتفاقيات الدولية وتنصاع له القوانين الوطنية، فضلاً عن تحريم السخرة ويعد العمل من أعمال السخرة أو مفروضاً في مفهوم حقوق الإنسان، كل عمل يفرض على الإنسان، دون ان تكون لإرادته دخل في قبوله، ولا يهم بعد ذلك ان يكون المرء الذي يقوم بهذا العمل يؤديه نظير أجر أو بدون مقابل.
وهناك حق لكل فرد في الحرية والسلامة الشخصية، ومن ثم لا يجوز القبض عليه أو إيقافه بصورة تعسفية دون اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة بهذا الخصوص كما لا يجوز ان يحرم أحد من حريته ومن الضروري ان يتم إبلاغ كل من يقبض عليه بأسباب ذلك عند حدوثه، فضلاً عن إبلاغه فوراً بأية تهمة توجه إليه ويجب ان يقدم الشخص المقبوض عليه أو الموقوف بتهمة جزائية فوراً أمام القاضي أو أي موظف آخر مخول قانوناً بممارسة صلاحيات قضائية ويكون من حق المقبوض عليه أو الموقوف ان يقدم إلى المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة أو يفرج عنه ومن حق كل إنسان يحرم من حريته بسبب إلقاء القبض عليه أو توقيفه أن يلجأ إلى الإجراءات القانونية المتاحة أمام المحاكم المختصة لكي تقرر مدى شرعية الإجراءات القانونية التي اتخذت بحقه وتم إيقافه استناداً إليها كما ان له الحق في طلب التعويض عن الأضرار التي أصابته في حالة كون إجراءات إيقافه غير قانونية.

وتحتوي الدساتير العربية فيما عدا دستور دولة قطر على تدابير تتعلق باعتقال الأشخاص واحتجازهم لكن عدداً محدوداً من هذه الدساتير تتوافق نصوصها مع المعايير التي تتطلبها الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، فهناك عدد من الدساتير العربية تتحدث عن الحرية الشخصية بشكل عام على أنها مضمونة، بينما تشير دساتير أخرى إليها باهتمام أكبر فهي (حق طبيعي وهي مصونة لا تمس)، كما جاء في المادة (41) من الدستور المصري أو هي (حق مقدس) في الدستور السوري ( م25/1) ولا تسمح دساتير الدول العربية بحرمان أحد من الحق في الحرية والأمان الشخصي إلا وفقاً للقانون، وهذا نص يقترب إلى حدٍ ما من الصياغات الدولية لهذا الحق حيث (لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً) (م 9/1) من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية)، وهنا يلاحظ غياب مفهوم التعسف في الدساتير العربية، وهو مفهوم كان القصد من وراء استخدامه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حماية الأفراد من الأفعال غير المشروعة وغير العادلة بشكل متساوٍ فلو اقتصر الأمر على مجرد حماية الإنسان من الأفعال غير المشروعة فقط لما أمكن الطعن في كل أعمال الظلم التي تقوم بها الإدارة الحكومية طالما كانت تلك الأعمال متفقة مع القوانين الوطنية الموضوعة.(23)
كذلك يلاحظ ان معالجة الدساتير العربية للحقوق الأساسية المتعلقة بكيفية الاعتقال والاحتجاز تعكس وجود اختلافات عديدة تفرض متابعة ودراسة القوانين المطبقة في كل بلد للتأكد مما إذا كانت هذه الحماية للحق في الأمان الشخصي حماية فعلية أم لا، ويمكن القول ان دساتير الدول العربية توفر نوعاً من الحماية النسبية لهذا الحق إلا ان ما يؤخذ على هذه الدساتير ان نصوصها عامة، فدساتير الجزائر والبحرين ومصر واليمن مع المادة 9/3 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية 1966 هي التي يمكن ان تنجح في توفير شيء من الحماية المفصلة والضمانات الموسعة لهذا الحق وبشكل خاص عندما تكون السلطة القضائية هي المرجع في هذا الأمر، فالدستور المصري يشترط وجود أمر اعتقال تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع يكون صادراً عن القاضي المختص أو النيابة العامة طبقاً للقانون (م 41) وتتطابق معها المادة (32/5) من الدستور اليمني مدعومة بالفقرة السابقة التي تضع شرطاً مضمونه عدم جواز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة، كما توفر مجموعة أخرى من الدساتير دوراً أخر للقضاء بحظر تمديد الاحتجاز إلا بأمر قضائي كالمادة (45) من دستور الجزائر والمادة (42/ج)من دستور اليمن.(24)

ثانيا: تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية
ويرتبط بالحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملة غير الإنسانية والحقيقة أن تحريم هذه الممارسات قد جاء مباشرة بعد النص على الحق في الحياة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان مما يعكس أهمية النص على تحريم التعذيب وضروب المعاملة القاسية وغير الإنسانية، وتعرضت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان إلى هذا الموضوع في الطعن الفردي الذي قدمه مواطن نمساوي حكم عليه بالسجن في بلده وكان يتعرض للنوم على أشياء صلبة مرة واحدة كل ثلاثة أشهر كعقوبة تكميلية حكمت بها المحكمة النمساوية وعلى الرغم من ان الطاعن لم يُشِرْ إلى هذه المسألة باعتبارها معاملة غير إنسانية فقد تعرضت الجنة لها تلقائياً وذكرت في قرارها الصادر عام 1959 (انها لاحظت جسامة العقوبة التي وقعت على الطاعن بمقتضى نظام النوم على أشياء صلبة، ولكن مع ذلك، فان هذه العقوبة التكميلية لا يتعرض لها الطاعن إلا مرة كل ثلاثة شهور، ولا تعد نظراً لذلك عقوبة غير إنسانية بالمعنى الوارد في الاتفاقية).(25)
وربما كانت اللجنة ستعد مثل هذه العقوبة غير إنسانية أو استثنائية لو كان الطاعن يتعرض لها يومياً أو خلال مدة طويلة من فترة السجن المحكوم بها عليه، ويؤيد هذا الفهم ان اللجنة لاحظت من تلقاء نفسها جسامة هذه العقوبة.(26)
ان النصوص الدستورية التي تؤكد على تحريم التعذيب والمعاملة غير الإنسانية أو القاسية أو الاستثنائية، توفر بشكل خاص منهجاً لحماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية ولا توجد في عدد من دساتير الدول العربية أية إشارة إلى التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة، فالدساتير العربية التي ترحم التعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة لا تتجاوز نصف الدساتير العربية وعلى درجات متفاوتة من التحديد والوضوح حيث تستخدم مصطلحات مثل (الإيذاء والإساءة أو المعاملة بشكل يوصف بالتعذيب بدنياً أو جسمانياً أو معنوياً أو نفسياً أو استخدام مصطلح المعاملة الحاطة بالكرامة أو المهينة أو وضع عقوبات جزائية ضد من يرتكب التعذيب أو ينتهك الحظر المفروض عليه (م28/3 من الدستور السوري)، فضلاً عن اعتبار ما انتزع بسبب التعذيب لاغياً وباطلاً (م 19 و 42 من الدستور المصري)، أما المادة (45) من الدستور الجزائري فهي توفر ضمانة جيدة بهذا الخصوص إذ تنص على (لدى انتهاء مدة التوقيف للنظر، يجب ان يجرى فحص طبي على الموقوف ان طلب ذلك، على ان يعلم بهذه الإمكانية)، ومع ان الفحص الطبي من الوسائل الرادعة أو العملية لمنع اللجوء إلى التعذيب إلا ان ما يلاحظ عليه أنه يُلقي بعبء المطالبة بالفحص الطبي على عاتق الموقوف وعند انتهاء مدة التوقيف فقط وليس قبل ذلك ويقع الالتزام على الدولة بإعلامه ان له الحق في ذلك في نهاية المدة المذكورة.(27)
وتوجد نصوص دستورية أخرى في دول العالم تنص على تحريم التعذيب والمعاملات القاسية أو غير الإنسانية كالمادة (38) من دستور اليابان لعام 1967 التي نصت على (لا يجوز إكراه أحد على الإدلاء بأقوال تسيء إلى مصالحه، والاعتراف الذي يتم نتيجة للإكراه أو التعذيب أو التهديد أو القبض أو الحبس لفترة تتجاوز ما يقتضي به القانون لا يجوز ان ينهض دليلاً في الإثبات، كما لا يجوز إدانة أحد أو توقيع عقوبة جنائية عليه إذا كان اعترافه هو الدليل الوحيد القائم ضده).(28)
اما الدستور العراقي لعام 2005 فقد نص على تحريم جميع انواع التعذيب والمعاملة غير الانسانية فجاء في المادة (37) (( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية ولا عبرة باي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب ، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي او المعنوي الذي اصابه وفقاً للقانون)).
ثالثاً: الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية
هو أيضاً من الحقوق المدنية حيث لا يجوز التدخل بصورة تعسفية أو بشكل غير قانوني بخصوصيات أحد أو بعائلته أو بيته أو مراسلاته كما أنه لا يجوز التدخل بشكل غير قانوني بشرفه وسمعته ويثبت لكل شخص الحق في الحماية القانونية ضد مثل هذا التدخل أو التعرض، ونصت على هذا الحق جميع الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان كاتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي أكدت مضموناً آخر يتعلق بهذا الحق عندما أشارت إلى عدم جواز ان تتدخل السلطات العامة في مباشرة هذا الحق، إلا إذا كان هذا التدخل ينص عليه القانون، ويعد اجراءاً ضرورياً، في مجتمع ديمقراطي للأمن الوطني أو الأمن العام، أو الرفاهية الاقتصادية للدولة، أو لحماية النظام أو لمنع الجرائم، أو لحماية الصحة والآداب، أو لحماية حقوق وحريات الغير، وهذا يعني ان حماية الحياة الخاصة والعائلية والمحافظة على حرمة المسكن وسرية المراسلات ليست مطلقة إذا ما توافرت الشروط المذكورة آنفاً أي إذا كان تدخل المشرع ضرورياً لمباشرة الحقوق المذكورة في مجتمع ديمقراطي وتوافر أسباب ضرورية تبرر التدخل، وعلى هذا الأساس فان الطعن الذي قدم إلى اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان من جانب بعض الأشخاص الذين أرادوا اعتبار مباشرة بعض العلاقات غير المقبولة من الناحية الاخلاقية معترفاً بها أو مقبولة بالاستناد إلى الحق في حماية الحياة الخاصة لكن اللجنة أكدت أن هذا الحق يجوز تقييده بما يفرضه المشرع من حماية للآداب والأخلاق العامة.(29)
والحقيقة ان اللجنة قد أكدت في قرار آخر ان عبارة الصحة والآداب المنصوص عليها في المادة 8/2 لا تشمل الحماية العامة لصحة أو آداب المجتمع بل يراد بها كذلك حماية صحة وآداب أفراد المجتمع ويقصد بها الرفاهية النفسية والمادية للفرد وحماية توازنه النفسي من كل خطر قد يهدده.(30)
وتعتبر عملية مراقبة مراسلات المسجونين من الاستثناءات الجائزة في نطاق النظام الاقليمي الأوربي لحقوق الإنسان بالاستناد إلى المادة 8/2 وينطبق المعنى ذاته على جواز الاحتفاظ بملفات تضم وثائق خاصة بالمسجونين وصوراً لهم وبصمات أصابعهم التي تتعلق بقضايا جنائية سابقة بهدف حماية المجتمعات الديمقراطية من الجريمة واستتباب الأمن العام.(31)
ومن الدساتير التي نصت على هذا الحق ما جاء في المادة 52 من دستور يوغسلافيا السابق الذي حدد شروط انتهاك حرمة المسكن وحرمة السر حيث نص على (للمساكن حرمة، ولا يجوز انتهاك حرمة المساكن وما في حكمها أو تفتيشها على الرغم من ارادة اصحابها إلا بموجب أمر بذلك وفقاً للقانون، ولاصحاب المساكن والمحال التي يجري تفتيشها ولأفراد أسرهم ووكلائهم حق حضور التفتيش ولا يجوز إجراء التفتيش إلا في حضور أثنين من الشهود).
أما الدستور المصري لعام 1971 فقد نصت المادة 44 منه على ان (للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقاً لأحكام القانون).
ونصت المادة 45 من الدستور ذاته على ان (لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التلفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو مراقبتها إلا بأمر قضائي ولمدة محددة وفقاً لأحكام القانون)، ونصت المادة 57 على ان (كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية والمدنية عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء).(32)
في حين اوردت المادة (17) من الدستور العراقي لعام 2005 ( اولاً : لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين او الاداب العامة . ثانياً : حرمة المساكن مصونة ، ولا يجوز دخولها او تفتيشها او التعرض لها إلا بقرار قضائي ، وفقاً للقانون).
ان الحق في الحياة الخاصة قد يتعارض مع حقوق وحريات أخرى منها مثلاً التنازع الذي يحدث بين الحق في حماية حرمة الحياة الخاصة وضرورة العيش بسلام وأمان مع الحق في التعبير والتجمع، ومن ثم فانه يجب ممارسة هذين الحقين بطريقة معتدلة ومنصفة لكي لا يطغى احدهما على الآخر.(33)
رابعاً: حرية التنقل (الغدو والرواح)
بموجب هذا الحق يصبح لكل انسان مقيم بصفة قانونية داخل اقليم دولة معينة الحق في حرية الانتقال من مكان إلى آخر، وفي اختيار مكان اقامته ضمن ذلك الاقليم وله الحرية في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، ولا يجوز حرمان أحد من حق الدخول إلى بلاده، ويذكر هنا ان الحقوق المشار إليها أعلاه يمكن ان تخضع لقيود ينص عليها القانون إذا كانت هذه القيود القانونية ضرورية لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق وحريات الآخرين، فعلى سبيل المثال منع قانون الاقامة العراقي الملغى لسنة 1961 الأجانب من الاقامة والمرور والتجول في بعض المناطق فمنع الاقامة في محافظات الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك عدا حدود بلدية مركز المحافظة وأخضع سفر الأجانب من العاصمة إلى المناطق المحرمة المذكورة آنفاً على استحصال موافقة وزارة الداخلية ومديرية الأمن العامة ومنع الأجانب من الاقامة في المؤسسات النفطية باستثناء العاملين فيها،( 34) اما اليوم فقد حرص الدستور العراقي لعام 2005 على ان يؤكد حرية المواطن العراقي في التنقل والسفر فنص في المادة (44) منه (اولاً : للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه . ثانياً : لا يجوز نفي العراقي ، او ابعاده او حرمانه من العودة الى الوطن ) .
كذالك فعل الدستور الاردني النافذ في الماده (9) منه ( 1- لايجوز ابعاد اردني عن ديار المملكه .
2- لايجوز ان يحظر على اردني الاقامه في جهه ما ولا ان يلزم بالاقامه في مكان معين الا في الاحوال المبينه في القانون).
ومن الجدير بالذكر انه يمكن ابعاد الأجنبي المقيم بصورة قانونية من اقليم الدولة إذا كان ذلك الأمر بالإبعاد صادراً طبقاً للقانون، ويستطيع ان يعترض على هذا القرار إلا إذا كانت هناك أسباب اضطرارية تتعلق بالأمن الوطني تتطلب غير ذلك، وهذا ما نصت عليه المادة 13 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية.

خامساً: الحقوق الأسرية
تعد العائلة الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية لكل مجتمع وبهذه الصفة يقع على كاهل الدولة والمجتمع حمايتها، وإذا كانت النصوص القانونية تقر بهذه الحقيقة فقد تم الاعتراف كذلك للرجال والنساء الذين هم في سن الزواج بتكوين الأسرة باعتبارها الخلية الاجتماعية الأساسية في جميع المجتمعات البشرية وهي تتشكل نتيجة الرضا الكامل لأطراف العلاقة ويقع على كاهل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأمين المساواة في كافة الحقوق والمسؤوليات في المراحل المختلفة للزواج كما يجب حماية الأطفال باعتبارهم قاصرين ويقع الالتزام الأخير على الأسرة والدولة والمجتمع ويجب تسجيل كل طفل فور ولادته ويكون له اسم.
وترتبط بحقوق الأسرة حقوق وواجبات الأبوة وقد لاحظ المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1955 تبني بعض الأنظمة القانونية لمبدأ يحصر السلطة الأبوية أو هي تجعل هذه السلطة في المرتبة الأولى من حق الزوج ولا يوجد أي حق للزوجة في مباشرتها وان حضانة الأطفال في حالة انتهاء الزواج تكون للزوج بصرف النظر عن ظروف القضية، ورأى المجلس ان هذا الوضع لا يتفق مع مبدأ المساواة بين الزوجين وأوصى الدول الأعضاء باتخاذ تدابير تضمن تحقيق المساواة بين الأب والأم في مباشرة الحقوق والالتزامات تجاه الأفراد وهذه تشمل المساواة في مسائل حضانة الأطفال القصر وتعليمهم ورعايتهم وإدارة أموالهم سواء عند الزواج أو أثنائه أو بعد الانفصال.(35)
والحقيقة ان الحق في تكوين الأسرة أي حق الفرد في ان يتزوج ويؤسس عائلة دون تدخل الدولة وله بالنتيجة ان يربي أطفاله ويعلمهم بالشكل الذي يريده، كل هذه تعد من الحريات المانعة التي يراد بها تلك الحريات التي يكون مضمونها أو ميدانها خاصاً بالأفراد ومحفوظاً لهم بحيث يحرم على الحكام التدخل فيه.

سادساً: مبدأ المساواة المدنية
يطغى على نظريات الحريات مبدأ أساسي في كل ما تقرره من حقوق وحريات لمصلحة الأفراد وهو مبدأ المساواة ويعني ان جميع الأفراد متساوين في التمتع بالحريات الفردية دون أي تفرقة أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين، ولذلك فان الديمقراطيات التقليدية ترى في اقرار هذا المبدأ ضمانة أساسية من ضمانات الحريات الفردية وهو يتضمن:
أ- المساواة أمام القانون.
ب- المساواة أمام القضاء.
ج- المساواة أمام الوظائف العامة.
د. المساواة أمام التكاليف العامة، كأداء الضرائب أو أداء الخدمة العسكرية.(36)
ومبدأ المساواة يعد واحداً من خصائص الديمقراطية الغربية ويراد به تحديداً المساواة أمام القانون وتسمى كذلك بالمساواة المدنية لكنها ليست مساواة فعلية أي مساواة من الناحية المادية والاقتصادية، والمقصود بمبدأ المساواة أمام القانون ان يكون القانون واحداً بالنسبة للجميع ودون تمييز بين طبقة وأخرى، ولا بين الأفراد بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو اللغة وليس المقصود بهذه المساواة المساواة الفعلية التي نادت بها المذاهب الاشتراكية لكن المقصود بالمساواة أمام القانون ان تلك الميزات الاجتماعية التي يحظى بها المواطنون يجب ان يحميها القانون دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى، وقد تقرر هذا المبدأ على الصعيد الرسمي لأول مرة في الديمقراطيات الغربية الحديثة في وثيقة إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789، حيث أشار الإعلان إلى ان الحقوق الفردية أو الحقوق الطبيعية للإنسان هي الحرية، المساواة، الملكية، حق الأمن، حق مقاومة الظلم.(37)
ولكن ما هو أساس المساواة المدنية بين الأفراد؟
يذهب أنصار نظرية العقد الاجتماعي إلى ان هذا العقد هو مصدر المساواة المدنية وهم يبرهنون على ذلك بان شروط العقد كانت واحدة بالنسبة لجميع المشتركين فيه، وهذا يعني انه أبرم بين أطراف متساوين وان الدولة التي تكونت نتيجة لإبرام هذا العقد يقع عليها التزام بمعاملة أطرافه معاملة متساوية باعتبارهم متساوون.
وقد استنتج بعض فقهاء القرن الثامن عشر ان المساواة المدنية بين الأفراد مصدرها أحكام القانون الطبيعي وهم يقولون ان الناس حين كانوا يعيشون في الحالة الطبيعية الأولى كانوا متساوين لا يفرق بينهم فارق ولا يميز بينهم مميز، وقد أكدوا هذا المساواة على الرغم من اعترافهم بان الافراد غير متساوين من حيث كفاءتهم الجسمية والمعنوية، وأنصار مدرسة القانون الطبيعي يؤيدون فكرة المساواة بين الأفراد على اعتبار انها تقوم على أساسين: الأول ان كل فرد يشترك مع غيره من الأفراد في الطبيعة الانسانية، والثاني ان كل فرد يجب ان يحترم احكام القانون الطبيعي إذا أراد ان يحترم غيره من الأفراد أحكام هذا القانون في علاقتهم مع هذا الشخص، وهذا الالتزام المتبادل بين الأفراد سيقود إلى تحقيق المساواة بينهم(38)

ويترتب على المفهوم المتقدم ان المساواة بين الأفراد تكون حقيقية كما هي واقعة فعلية من غير الممكن انكارها، وهذا لا يعني تحقيق المساواة المادية أو المساواة في الثروة تلك المساواة التي تنادي بها الماركسية التي تستهدف ضمان ان يكون للأفراد قدراً متساوياً من الثروة، والدراسة التاريخية للوقائع تظهر ان الديمقراطية التقليدية لم تكن تستهدف تحقيق المساواة المادية بين الأفراد فالنضال في عهد الثورة الفرنسية كان يستهدف الوصول الى الحرية السياسية لإشراك الشعب في إدارة شؤون البلاد وبشكل متساوي بين الأفراد ولم تخطر فكرة المساواة المادية ببال منظري تلك الفترة، والحقيقة المهمة ان المساواة المدنية لا تتحقق إلا إذا تم الاعتراف بتكافؤ الفرص بالنسبة للمزايا الاجتماعية التي تقوم الدولة بتقديمها.
يتضمن مبدأ المساواة المدنية كما أشرنا آنفاً مساواة الأفراد أمام القانون وهو يتطلب من الشارع ان يسن تشريعاته دون تمييز بين فرد وآخر أو بين طبقة وأخرى ففي مجال القانون الجنائي ان ينص على توقيع العقوبة ذاتها بالنسبة لنفس الجريمة على الجميع ولا يعد وجود حدٍ أدنى وحدٍ أعلى للعقوبة على ذات الجريمة وبالشكل الذي يقود إلى تطبيق أو فرض الحد الأدنى على حالة والحد الأعلى على حالة أخرى، إخلالاً بمبدأ المساواة أمام القانون أو المساواة في العقاب.(39)
المبدأ الثاني الذي تشتمل عليه المساواة المدنية هو مبدأ المساواة أمام القضاء بمختلف جهاته ودرجاته، والمقصود به: ألا يكون هناك تمييز لأشخاص على غيرهم من حيث القضاة أو المحاكم التي تفصل في جريمة ولا من حيث العقوبات القانونية التي تقرر على مرتكبيها وعلى أساس هذا المبدأ (المساواة أمام القضاء) قضت الثورة الفرنسية على المحاكم الخاصة بالنبلاء وعلى المحاكم الخاصة الأخرى أو الاستثنائية التي تحاكم مرتكبي بعض الجرائم الخاصة، كما قضت على التفريق في العقوبة الذي كانت هذه المحاكم تتبعه، وفي طرق تنفيذ العقوبة حيث كان الأشراف يعدمون بضرب العنق (المقصلة) في حين كان يتم اعدام غير النبلاء شنقاً.(40)
أما المساواة أمام الوظائف العامة فهي تلزم مؤسسات الدولة بعدم التمييز بين المواطنين عند تقديمها للخدمات أو عند استيفائها للمقابل عنها ويدخل ضمن هذا الأمر عدم جواز اقامة قضاء خاص لبعض الأفراد تمييزاً لهم عن الآخرين ولا يجوز اقامة أي تمييز فيما بين المواطنين بخصوص قبولهم في الوظائف والأعمال العامة طالما كانوا متساوين في الشروط التي يتطلبها القانون، ومع ذلك يمكن قبول استثناءات محدودة جداً وهذه الاستثناءات التي ترد على المبدأ المذكور محددة للغاية، ففي فرنسا مثلاً قرر قانون صدر عام 1886 منع أبناء العائلات التي سبق لها تولي عرش فرنسا من تقلد الوظائف العامة أو النيابية.(41)

أما المساواة في التكاليف فهي تشكل جانباً من المساواة أمام المصالح والمؤسسات العامة حيث لا يجوز ان تفرض الضرائب مثلاً على فئة اجتماعية دون أخرى بمعنى ان الضرائب يجب ان لا تثقل كاهل طبقة من الأفراد أكثر من طبقة أخرى(42) فمن التجاوزات غير المشروعة على هذا المبدأ الاعفاء الكلي من الضرائب قبل ثورة 1789 الفرنسية بالنسبة للأشراف ورجال الدين(43) وكذلك الحال فيما يتعلق بأداء الخدمة العسكرية إلا انه يلاحظ ان من المقبول فرض بعض الشروط للانتفاع ببعض المؤسسات العامة ذلك ان من المصالح العمومية ما لا يمكن للأفراد ان يطالبوا بخدماتها إلا إذا توافرت فيها شروط معينة أو قاموا بإجراءات خاصة تحددها القوانين والتعليمات وعلى ذلك لا يمكن لجميع المواطنين دخول الجامعة إلا إذا كانوا حاصلين على شهادة الدراسة الإعدادية ولا يمكن لجميع الأفراد ان ينتفعوا بمياه الشرب أو الكهرباء إلا إذا دفعوا مقابل هذه الخدمات.(44)
ولا خلاف في الوقت الراهن على ان المساواة أمام مؤسسات الدولة أو المساواة المدنية عموماً أصبحت واجبة الاحترام ولذا فان كل قانون يخرج على مقتضياتها سيكون مخالفاً للدستور وإذا خالفت دائرة من دوائر الدولة مبدأ المساواة فمن حق الفرد الذي أصابه الضرر ان يرفع دعوى أمام القضاء طالباً التعويض من الدائرة المخالفة، فإذا امتنعت مؤسسات الاتصالات عن ايصال خدمة الهاتف إلى أحد المواطنين فانه يجوز له ان يرفع أمره إلى القضاء للحكم له بالتعويض المناسب إلا انه لن يكون هناك مجال للتعويض إذا كان الرفض مبنياً على خطأ طالب الاشتراك نفسه أو كان مبنياً على مسوغ شرعي كعدم توفر الخطوط الكافية مثلاً،(45) وقد لا تمتنع المؤسسة الحكومية عن اداء الخدمة وإنما تميز فقط في المعاملة بين اشخاص كانت تجب المساواة فيما بينهم فان من حق المتضرر المطالبة بالتعويض أو الغاء الأمر الذي بني على تميز في المعاملة.(46)
وتتضمن الدساتير العربية جميعها مبدأ المساواة أمام القانون الذي يقضي بان كل المواطنين سواسية أمام القانون فقد ورد في المادة 40 من الدستور المصري ان (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة).
كما نص الدستور العراقي في المادة (14) منه : ( العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي).
وفي الاتجاه ذاته جاء الدستور الاردني في الماده (6) منه لينص :
( 1- الاردنيون امام القانون سواء لاتمييز بينهم في الحقوق والواجبات وان اختلفوا في العرق او اللغه او الدين .
2- تكفل الدوله العمل والتعليم ضمن حدود امكانياتها وتكفل الطمأنينه وتكافؤ الفرص لجميع الاردنيين ) .

والحقيقة ان معظم الدساتير العربية اتفقت في نصوصها التي أوردتها بهذا الشأن مع اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية مع فروقات بسيطة في التعابير المستخدمة ويستثنى من ذلك ما تذكره هذه الاتفاقية من منع التميز على أساس الرأي السياسي وغير السياسي وأحوال الملكية والميلاد وغيرها وتستبدل هذه في بعض الدساتير العربية بالكلام عن حظر التمييز على أساس الحالة الاجتماعية أو محل الاقامة أو المهنة بينما يورد الدستور اللبناني نصاًَ مبسطاً إذ يذكر فيه (كل اللبنانيين سواء لدى القانون ... دونما فرق بينهم)(47)
ولا يشكل النص في دساتير العالم على المساواة وعدم التمييز مجرد مبدأ توجيهي أو مجرد توصية، لكنه نص أساسي ودقيق ومهم للغاية وهو يفرض على الأجهزة القضائية واجب اكتشاف ان السلطات التشريعية والإدارية قد أخذت بنظر الاعتبار هذا المبدأ في تعاملها مع المواطنين وعند انتهاك هذا المبدأ فانه يجب على القضاء ان يأمر هذه الجهات بعدم تطبيق القوانين والقرارات والتعليمات الأخرى غير المنسجمة مع هذا القانون.(48)
الفرع الثاني- الحقوق السياسية
يقع تحت هذا العنوان مجموعة من الحقوق والحريات التي توصف بانها ذات مضمون سياسي بشكل أو بآخر، منها حق المواطنة (الجنسية) وحق المشاركة في الشؤون العامة وحق الاجتماع وتشكيل الجمعيات والعضوية فيها والحق في حرية الرأي والعقيدة والدين وسنتعرض لهذه الحقوق بالشكل الآتي:
أولاً: حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات
يتكون هذا الحق من قدرة الفرد للاجتماع بغيره بهدف عرض آرائه، ويذهب أحد الكتاب إلى عدم جواز الخلط بين حق الاجتماع وحق تشكيل الجمعيات، فالأول هو اجتماع مجموعة من الأشخاص بشكل مؤقت وفي مكان معين بهدف عرض بعض الأفكار ومناقشتها، أما الحق الثاني فهو يتكون من اتفاق مجموعة أشخاص على تكريس نشاطهم بهدف الوصول إلى تحقيق غرض معين، والاجتماع في هذه الحالة له صفة الدوام ولا يستطيع المشرع المساس بهذا الحق أو جوهره إلا انه يستطيع ان يتخذ الاجراءات التي تضمن عدم مساس هذه الاجتماعات أو التجمعات بحرية الآخرين أو الأمن العام، ومن ثم فان من الممكن تنظيم الحق في الاجتماع وذلك باخطار الإدارة قبل انعقاد الاجتماع أو التجمع وقد ضمنت الدساتير هذا الحق إذ نصت المادة (11) من الإعلان حقوق الإنسان الفرنسي والصادر سنة 1789 ضمناً على احترام حق الأفراد في الاجتماع وكذلك الحال في دستور 1791 ودستور 1848 الفرنسيين.(49)
أما الحق في تشكيل الجمعيات فلا نجد إشارة له في إعلانات الحقوق وكذلك الحال مع الدساتير التي صدرت في فترة الثورة الفرنسية حتى ان واضعي إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 كانوا يرون ان الحق في الاشتراك في تكوين الجمعيات يتضمن اعتداء على الحرية الفردية لذلك فقد أصدروا قانوناً سنة 1791 يقضي بمنع الجمعيات المهنية إلا ان الوضع لم يستمر على هذا النحو فهناك أول إشارة للحق في تكوين الجمعيات وردت في المادة (Cool من دستور 1848.(50)
ان اهمية الحق في تكوين الجمعيات تبرز من خلال الإقرار بوجود وسيلة واحدة للحرية تتمثل بحرية تكوين الجمعيات، فالفرد يكون حراً مادام قوياً وهو كذلك بالقدر الذي لا يكون فيه منفرداً.
في انكلترا يعد النظر إلى حرية الاجتماع طبقاً للقانون الانكليزي مثالاً للصورة التي تنظر فيها العقلية الانكليزية إلى حرية الفرد، فالفقيه الانكليزي دايسي يقول ان القانون الانكليزي، على العكس من القانون الفرنسي والبلجيكي لا يعرف حقاً متميزاً قائماً بذاته يرعى حق الاجتماع لكن هذا الحق عبارة عن امتداد للحرية الشخصية ولحرية التعبير حيث يستطيع مجموعة من الأِشخاص التجمع للتعبير عن آرائهم ولكن هذا الحق في الاجتماع للتعبير عن الرأي لا يمكن ان يمارس بطريقة مخالفة للقانون، إذ ان عقد الاجتماع بطريقة تنطوي على جريمة أو تعكير للأمن بشكل أو بآخر ففي هذه الحالة سيكون الاجتماع غير مشروع وهنا يجوز للسلطات العامة فض الاجتماع وتحميل المجتمعين المسؤولية عنه، إلا انه يلاحظ ان القضاء الانكليزي ومنذ سنة 1882 حكم بعدم جواز ان يتحول اجتماع مشروع إلى اجتماع غير مشروع لمجرد أثارته لمعارضة عنيفة ومخالفة للقانون وإفضائه بذلك عن طريق غير مباشر إلى اضطراب الأمن.(51)
أما القيود التي يوردها القانون الانكليزي على حرية الاجتماع فهي:
1- إذا قام في سلوك القائمين بالاجتماع ما يجعله غير مشروع وأثار هذا السلوك غير المشروع مناوئي الاجتماع مما أدى إلى التصادم والاشتباك فانه يجوز اعتبار المشتركين في الاجتماع مسؤولين عن نتائج الاصطدام، فمثلاً إذا عقد أحد دعاة البروتستانتية اجتماعاً في مكان عام يكثر فيه الكاثوليك واستعمل في خطبه ألفاظاً نابية وسباً للكاثوليك مما دفع بعضاً منهم إلى الاعتداء بالقوة على المجتمعين فان هذا الاجتماع يعد غير مشروع.
2- إذا كان هناك اجتماع مشروع من حيث الهدف وسلوك المشتركين فيه إلا انه أثار اضطرابات من غير الممكن إعادة النظام والأمن إلى المجتمع دون فض هذا الاجتماع فان الإدارة يجوز ان تأمر المجتمعين بالتفرق أما إذا استمر الاجتماع رغم ذلك فسيعد اجتماعاً غير مشروع.
3- هناك قوانين عديدة تنظم عقد الاجتماعات في انكلترا منها قانون الطريق العام الذي يعاقب على عقد الاجتماع في الطريق العام دون الحصول على اذن من الإدارة، فادعاء المجتمعين بحقهم في الاجتماع بأي عدد ولأي مدة يريدون الاجتماع فيها على الطريق العام فيه إضرار بحقوق الآخرين، ولا يمكن ان ينسجم مع حق المرور إذا ترك الأمر على اطلاقه دون تنظيم.(52)
أما الاجتماعات المتحركة (المظاهرات) فالقضاء الإنكليزي يقدر الظروف والملابسات التي تحيط بكل اجتماع وفي عام 1936 صدر قانون المحافظة على النظام العام الذي خول سلطة محددة للإدارة على المواكب التي يخشى من تأثيرها السلبي على النظام والأمن العام، كما يعاقب القانون الإنكليزي على جريمة التجمهر (Riot) والمقصود به اجتماع ثلاثة أشخاص أو أكثر في طريق أو مكان عام بهدف تحقيق غرض مشترك بالقوة ويتسم سلوكهم بالعنف، ففي حالة كون هدف المتجمهر ارتكاب جناية أعتبر التجمهر جناية،(53) أما حول تكوين الجمعيات فالقانون الإنكليزي كقاعدة عامة يعطي حرية كاملة في تكوين الجمعيات طالما كان الهدف الذي تسعى إليه أو محلها مشروعاً، والحقيقة ان الجماعات المهنية كانت غير مشروعة إلى منتصف القرن التاسع عشر ثم صدر تشريع عام 1871 اعترف بشرعية تلك الجماعات.(54)
المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى حرية الاجتماع باعتباره شكلاً من أشكال حرية الرأي والتعبير عنه، وقد حكمت عام 1939 بعدم جواز اخضاع أي اجتماع في النية عقده ويكون عاماً لشرط الحصول على أذن سابق من إحدى الجهات الإدارية باعتبار ان حرية الاجتماع هي واحدة من الخصائص والميزات التي يحظى بها المواطن في أمريكا وهي مظهر مهم من مظاهر الحرية التي لا يمكن التعرض لها إلا بالطرق القانونية اللائقة، وبخصوص تسيير المواكب في الطرقات قضت المحكمة العليا عام 1941 بضرورة الحصول على إجازة مسبقة، والحقيقة ان منح هذه الإجازة كان هو الأصل وهي لا تمنح إلا إذا كانت هناك مجموعة من الاعتبارات المتعلقة بحسن سير المرور أو تفادي الاصطدام بين المظاهرات المتعارضة، فضلاً عن التقليل من أخطار الاضطرابات.(55)
وتضمن جميع دساتير الدول العربية حرية تكوين الجمعيات عدا دستور قطر والقانون الأساسي السعودي إذ لا توجد أية إشارة لهذا الحق ويختلف تعريف تكوين الجمعيات أو مفهومه من دولة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال يلاحظ في بعض هذه الدساتير إشارة عامة إلى حق تشكيل الجمعيات بينما تشير دساتير أخرى فضلاً عما تقدم وبإشارة خاصة إلى حق تكوين الأحزاب السياسية أو الجمعيات ذات الطابع السياسي كجزء من ضمان حرية تكوين الجمعيات وهناك أحد عشر دستوراً عربياً تضمن الحق في تكوين الجمعيات أو النقابات المهنية أو العمالية.
وعند استعراض الدساتير العربية يلاحظ ميلها إلى التقييد من هذا الحق، فيلاحظ مثلاً ان المادة 16 من الدستور الأردني تنص على (للاردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية على ان تكون غايتها مشروعة ووسائلها سليمة وذات نظم لا تخالف أحكام دستورها)، أما المادة 26 من دستور البحرين فقد ضمنت حرية تكوين الجمعيات بشرط ان تكون قائمة على أسس وطنية ولأهداف مشروعة، ويلاحظ كذلك عدم إجازة أي قانون أو دستور إقامة تجمعات تقود إلى تهديد سلامة وأمن البلد والحقيقة ان استخدام عبارات مثل (أهداف شرعية) أو (أسس وطنية) هي عبارات تميل وتفسر غالباً لمصلحة السلطة ضد حقوق وحريات الأفراد.
وقد اكد الدستور العراقي لعام 2005 على حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية فقد تضمنت المادة (39) : ( اولاً :- حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية ، او الانضمام اليها مكفولة و ينظم ذلك بقانون.
ثانياً :- لا يجوز اجبار احد على الانضمام الى أي حزب او جمعية او جهة سياسية او اجارة على الاستمرار في العضوية فيها ).
كما اورد الدستور الاردني في الماده (16) منه :
( 1- للاردنيين حق الاجتماع ضمن حدود القانون .
2 - للاردنيين الحق في تاليف الجمعيات والاحزاب السياسيه غلى ان تكون غاياتها مشروعه
ووسائلها سلميه وذات نظم لاتخالف القانون .
3 -ينظم القانون طريقة تاليف الجمعيلت والاحزاب السياسيه ومراقبة مواردها ).

واذا كان هذا الدستور وكثير من الدساتير العربية الاخرى تكفل حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب ، فان القوانين التي تنظم هذه الحرية تحضر على الافراد عموماً تكوين هذه الجمعيات ما لم تستحصل على اجازة او اذن مسبق من السلطة التنفيذية ، ولا يتم الحصول على هذا الاذن مالم يتم التأكد من ولاء اعضاء هذه الجمعية للنظام السياسي القائم .
لذلك فان اعمال هذه الحرية يتطلب العدول عن موضوع الاجازة او الاذن الى الاخبار او الاشعار ومقتضاه ان يعمل اعضاء الجمعية على اخبار السلطة التنفيذية بتأسيس جمعيتهم دون ان يتوقف تأسيس الجمعية على اذن هذه السلطة .
والخلاصة ان دساتير الدول العربية تضمن هذا الحق المتمثل بتكوين الجمعيات أو الروابط الأخرى بمفهومها الاجتماعي أو المهني إلا انه يلاحظ زيادة القيود التي تفرض على تشكيل الجمعيات أو الروابط كلما اقتربت هذه التشكيلات من العمل السياسي، فضلاً عن استخدام صياغات وعبارات عامة يسهل تفسيرها لصالح السلطة.(56)

ثانيا: حرية الرأي والتعبير
هي واحدة من الحقوق المعنوية ذات الطابع السياسي ولقد أكدت الدساتير جميعها تقريباً على تمتع الأفراد بها، فنجد المادة العاشرة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة 1789 تنص على عدم جواز ان يضايق شخص بسبب آرائه، وقد قامت الجمعية الوطنية الفرنسية بتكريس هذا الحق في المادة 7 من دستور 1793 بالنص على (لا يجوز منع الأفراد من اظهار آرائهم ومعتقداتهم)، كما ينص دستور السنة الثالثة على عدم جواز منع أي شخص من الكلام أو الكتابة أو طبع أو نشر آرائه كما لا يجوز اخضاع المحررات قبل نشرها لأية رقابة ولا يمكن مسائلة أي شخص عما عبر عنه كتابة وقام بنشره إلا في الأحوال التي يحددها القانون.(57)
والحقيقة ان حرية الرأي تشمل مجموعة من الحقوق كحرية الاعتقاد بدين معين وحرية الاجتماع وحرية التعليم والصحافة، وسنتعرض لهذه الحقوق بعد ان تعرضنا سابقاً للحق في حرية الاجتماع.
فالحق في حرية الرأي يراد به (ان كل انسان يستطيع التعبير عن آرائه وأفكاره للناس سواء كان بشخصه أو برسالة أو بوسائل النشر المختلفة أو عن طريق الروايات أو الأفلام وغيرها من وسائل النشر أو الاتصال).(58)
ويبرز جيفرسون أهمية حرية الرأي والتعبير حيث كتب عام 1789 يقول (هناك حقوق من العبث التخلي عنها إلى الحكومة وان كانت الحكومات قد استباحت لنفسها الجور عليها على الدوام، هذه الحقوق هي الحق في حرية الفكر، وحرية القول والكتابة، والحق في تجارة حرة، والحق في الحرية الشخصية)، فالدولة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:08 pm

المطلب الثاني- الحقوق والحريات ذات المضمون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي (الجيل الثاني)

تتضمن الحقوق والحريات ذات المضمون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قائمة من المضامين التي تعد الجيل الثاني من الحقوق والحريات، فمع مطلع القرن العشرين اهتزت أركان المذهب الفردي نتيجة للتأثير المتزايد الناتج عن توسع دور الطبقة العاملة على المستوى السياسي، فضلاً عن انتشار المذاهب الاشتراكية التي نادت بالعدالة الاجتماعية مما قاد إلى اعتناق فكرة التدخل من جانب الدول على درجات مختلفة ترتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في كل دولة، وسنتعرض في هذا المطلب للحقوق التي تحقق أهداف المذاهب التي أكدت عليها أو طرحتها في مواجهة المذهب الفردي، ومن أهم هذه الحقوق يمكن الإشارة إلى المجموعة الآتية:

الفرع الأول- الحق في العمل والضمان الاجتماعي

تعد فكرة العمل في الفكر الغربي من المضامين الجديدة التي جاءت بها البروتستانتية، فالعمل كما نادت بذلك الكنيسة في العصور الوسطى ليس فضيلة ولكنه عقاب بينما نظرت البروتستانتية إلى العمل نظرة مقدسة وأعلت من شأنه وكان لهذه النظرة دور في التقدم الرأسمالي، فالبروتستانتية أكدت على ان الله يحب العاملين من البشر الذين يعبدونه ولا يحب الكسالى كما نادى بذلك كالفن، ويلاحظ كثرة الأعياد الدينية لدى الكاثوليك وقلتها لدى البروتستانت(76).

وقد أغفلت الدساتير المكتوبة الأولى إلى حدٍ ما الإشارة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصورة مباشرة إلا ان هذا الإغفال لم يقدر له ان يستمر وبشكل خاص في الدساتير التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى سواء تلك التي ظهرت في أوربا الشرقية أو أوربا الغربية أو بقية أصقاع العالم، ومثال ذلك الدستور الألماني الصادر سنة 1919 والدستور الاسباني الصادر سنة 1931 والدستور الإيطالي لعام 1947(77)، إذ سعت النصوص الدستورية التي تناولت موضوع العمل والضمان الاجتماعي إلى تحقيق فكرة الأمن الاقتصادي للمواطن التي قادت بدورها إلى الاعتراف بحق العامل في عمل نافع وملائم يحفظ له كرامته ويتناسب مع احتياجاته الإنسانية التي تتمثل في حياة لائقة فعمل الإنسان وجهده لا يمكن ان ينظر اليهما باعتبارهما مجرد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب، لكن الأجر الذي يدفع يجب ان يؤمن للعامل متطلبات حياة إنسانية كريمة له ولأسرته في حدود ما تسمح به ظروف المجتمع وهذا ما يتطلب بدوره ترتيب نظام للتأمين ضد العجز والشيخوخة وحوادث العمل، وبالاستناد للأفكار المتقدمة نصت المادة 118 من الدستور السوفيتي الصادر عام 1936 على حق مواطني الاتحاد السوفيتي في العمل من زاوية تأمينه لكل مواطن مع ما يقابله من أجر يتناسب مع كميته ونوعيته وكذلك الحال مع الدستور البولندي الصادر عام 1952 حيث كفل الحق في العمل لكل مواطن وهذا الحق المضمون دستورياً (تؤمنه الملكية الاجتماعية للوسائل الأساسية للانتاج، وتنمية نظام اجتماعي تعاوني خال من كل استغلال في الريف، وكذلك الزيادة المخططة للقوى الانتاجية، والقضاء على اسباب الأزمات الاقتصادية وتصفية البطالة)، كما أشار هذا الدستور في المادة 60 منه إلى الحق في توفير الحماية الصحية من المرض والمساعدة في حالات العجز عن العمل عن طريق تنمية التأمينات الاجتماعية للطبقة العاملة وتحسين المستوى الصحي في الأرياف والمدن وخلق ظروف آمنة للوقاية والصحة أثناء العمل والتوسع في تقديم الخدمات الطبية المجانية(78).

وهناك نصوص حملت المضمون ذاته وبصياغات قاطعة في دستور الصين الصادر عام 1954، وأمنت هذه النصوص الدستورية المُنَظِمَةْ لحق العمل والضمان جانباً مهماً من اهتمامات الإنسان وحاجياته في العمل والتأمين الصحي بما ينطوي عليه من علاج مجاني وتلقي العامل لأجره كاملاً أو الجزء الأكبر منه طوال المدة التي يتغيب فيها عن العمل نتيجة المرض، فضلا عن التأمين ضد العجز عن العمل نتيجة الاصابة أو الشيخوخة وتأمين الأمومة بمنح الأمهات الحوامل العناية الطبية والاجازات المناسبة للوضع وإنشاء دور الحضانة والمراكز الطبية، وتكررت هذه الإشارات في دستور الصين الصادر عام 1978(79).

ان ضمان حق العمل لا يقتصر على توفير أو ضمان تحقيق أجر عادل للعمال في ظل ظروف عمل ملائمة فقط إذ ان هناك حقوق أخرى مكملة، كالحق في تكوين النقابات، والحق في الاضراب، والحق في المشاركة بإدارة المشاريع التي يعمل فيها العامل، والحق في الضمان الاجتماعي ضد المرض والعجز والشيخوخة واصابات العمل، والحق في الراحة والتمتع بأوقات الفراغ ولم تكن هذه التطورات قد تمت بخطوة واحدة لكنها كانت نتيجة لتغيرات عديدة تناولت مفاهيم مختلفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فمفهوم الحرية لحقه تغيير جوهري بعد الحرب العالمية الأولى إذ حل الأجر محل الملكية نتيجة نشوء الصناعات الكبيرة في أوربا فأكثر المواطنين من العمال ويكفي ان يغلق أحد المصانع أبوابه ليجد العامل نفسه في مواجهة البطالة وقادت هذه النتيجة إلى ان أصبحت فكرة الأمن المادي هي شاغل الغالبية من الناس حتى لو كان ذلك على حساب الحرية التقليدية فأصبح الفرد مستعداً للتخلي عن جزء من حريته للوصول إلى تحقيق أمنه الاقتصادي وبهذا الشكل عدت الحرية الأداة التي تمكن الفرد من الوصول إلى الرفاهية من خلال تحقيق الأمن المادي(80).
وعلى هذا الأساس صدرت الدساتير والقوانين التي حمت هذه الحقوق ففي الولايات المتحدة الأمريكية صدرت تشريعات عادية تضمنت بعض الحقوق التي اشرنا إليها بعد الأزمة الاقتصادية التي حدثت سنة 1935 والتي أطلق عليها اسم (السياسة الجديدة)، أما في انكلترا فقد قررت بعض الحقوق ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية بموجب قوانين صدرت عن البرلمان الانكليزي ابتداءاً من نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم تكن فرنسا بعيدة عن هذه التطورات إذ تضمن دستور 1946 في مقدمته تحديداً شاملاً لهذه الحقوق ومنها تضمين القوانين لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة في المجالات كافة، وضمان حقوق العمال، بالتأكيد على حق العمل، وعدم جواز ان يضار إنسان من عمله بسبب الجنس أو الرأي أو العقيدة، والحق في ان ينضم أي إنسان إلى النقابة التي يمكن ان تدافع عن مصالحه، وأقر الحق في الاضراب ضمن حدود القانون الذي ينظمه، فضلاً عن ضمان التأمين الصحي والراحة، والحق في التمتع بأوقات الفراغ وتوفير الوسائل الضرورية لاستمرار حياة العاجزين عن العمل نتيجة الشيخوخة أو المرض(81).

وفي الدستور الفرنسي النافذ والصادر عام 1958 فقد نص على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنتها المبادئ السابقة ولكن بطريقة غير مباشرة إذ أُشير إلى تمسك الشعب الفرنسي بإعلان سنة 1789 ومقدمة دستور 1946.

وهنا يمكن الإشارة إلى حقيقة تتمثل في ان الديمقراطيات الغربية لم تعطِ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نفس القدر من الأهمية التي تعطيها للحقوق والحريات الفردية فمجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دساتير الدول الرأسمالية هي مجرد أهداف عامة يجب على الحكومات ان تحاول تحقيقها في حين ان الحريات التقليدية تتمتع بحماية تشريعية وقضائية تمنع الاعتداء عليها أو الحد من فعاليتها(82).
ومن المهم القول بان الدستور العراقي لعام 2005 قد اكد في المادة (22) منه على ان العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة ، كما نص على الحقوق الاخرى التي تساهم في كفالة هذا الحق من قبيل تأسيس النقابات والاتحادات المهنية وحرية الانضمام اليها .
وفي المادة (30) منه اورد ( تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة او المرض او العجز عن العمل او التشرد او اليتيم او البطالة ، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقه ,وتوفر لهم ,السكن والمناهج الخاصه لتاهيلهم والعنايه بهم , وينظم ذالك بقانون ) .

ومن جانبه اكد الدستور الاردني النافذ لعام 1952 في الماده (23) منه على حق العمل لجميع الاردنيين , كما اشار الى واجب الدوله في توفيره لهم باجور تتناسب مع كمية العمل وكيفيته , كما قرر تعويض خاص للعمال المعيلين , وفي احوال التسريح و المرض والعجز واصابات العمل .

الفرع الثاني- حق الملكية

يعد حق الملكية من الحقوق الأساسية والمهمة بالنسبة لكل فرد وربما كانت مشكلة الإنسان قد بدأت عندما وضع شخص ما قدمه على قطعة أرض وقال هذه ملكي، وكتب لوك يقول (إن السلطة العليا يجب إلا تسلب الفرد جزء من ملكه دون ان تحصل على رضاه، وذلك لأن حماية الملكية هو الغرض الذي من أجله أُنشئت الحكومة، وكون الأفراد الجماعة)، ووجد هذا الكلام صداه في إعلان عام 1789 الذي أكد على ان (الملكية حق مقدس لا يمكن المساس به ولا يجوز ان تنزع الملكية الخاصة لشخص إلا إذا كان ذلك للمصلحة العامة وطبقاً للقانون على ان يكون ذلك في مقابل دفع تعويض سابق وعادل)(84).

والنص المتقدم يعبر عن النظرة التي سادت لهذا الحق في نهاية القرن الثامن عشر والنص الأول من القرن التاسع عشر حيث كان يعد من الحقوق الطبيعية للأفراد بعد الحرية وقبل الضمان ومقاومة الطغيان، وهذا يعني ان النص الذي جاء به إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 قد عبر عن إيمان الثورة الفرنسية بان الملكية الخاصة تمثل القلعة الحصينة للحريات الفردية فهي التي تعبر أصدق تعبير عن حرية الإنسان، وان شخصية كل إنسان لا يمكن ان تنمو إلا إذا نشأت بحرية لا تحت رحمة الغير، لذا فان مُكنة تملك الأموال هي خصيصة جوهرية وأساسية لجميع المكنات الفردية المكونة لحريات الفرد، وعبرت النظرية التقليدية لحقوق الأفراد العامة عن مفهوم يربط بين الملكية والحرية حيث اعتبرت ان الفرد يستوفي مقومات استقلاله عن الدولة ويستطيع ان يستغني عن مساعدتها متى ما توافرت الملكية والحرية، وعلى هذا الأساس عدت الملكية مثل الحرية حق طبيعي يمكن الاحتجاج به أمام الكافة بما فيهم الدولة ذاتها، إلا ان المفهوم المتقدم للملكية باعتبارها حق مقدس وطبيعي وغير قابل للزوال تحت ضغط التطورات الاقتصادية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وربما قبل ذلك بفترة قصيرة حيث يمكن تحديد ثلاث اتجاهات فكرية عبرت عن موقفها من حق الملكية هي:
1- اتجاه يذهب إلى تضييق الملكيات الفردية وإحلال ملكية الدولة أو الملكيات الجماعية محلها.
2- اتجاه ثانٍ يذهب إلى تغير طبيعة النظرة إلى الملكية وذلك عن طريق اعتبارها تقوم بوظيفة اجتماعية (نظرية الملكية كوظيفة اجتماعية) ويراد بها تقيد حق الملكية بإخضاعه لمجموعة من الالتزامات التي تقود إلى تحقيق الحاجات الاجتماعية فالمالك عليه عندما يقوم باستخدام ملكية ان يراعي حاجات الجماعة قبل كل شيء.
3- اتجاه ثالث جمع العناصر الجيدة في الاتجاهين السابقين إذ يفضل هذا الاتجاه نقل الملكية من الفرد إلى الدولة أو إلى الجماعة إذا كان أداء المال لوظيفته الاجتماعية لا يتحقق إلا بنقله إلى الدولة أو الجماعة وهذا ما يتحقق عن طريق التأميم، ومن الأمثلة على التأميم كجزء نجده فيما قامت به الحكومة الفرنسية من تأميم لمصانع رينو للسيارات بعد الحرب العالمية الثانية بسبب النشاط المعادي لمالك هذه المصانع لفرنسا أثناء الاحتلال الألماني، والحالة الثانية تتمثل بتغيير طبيعة الحق بحيث يحل طابع نسبي للملكية محل الطابع المطلق لها وذلك عن طريق تحديد سلطات المالك على ملكه وهذا يعني الاعتراف بالملكية الخاصة لكن مع اعطاء السلطة السياسية القائمة بتفسير المصلحة الاجتماعية التي لا تستطيع فكرة الملكية الهروب منها(85).

من جانب آخر أكدت الاتفاقيات الدولية على حق الملكية وكذلك الاعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث نصت المادة 17 منه على حق كل فرد في التملك سواء بمفرده أو مع غيره وأضافت إلى ذلك عدم جواز تجريد شخص من ملكه تعسفاً، والمضمون ذاته أشارت إليه المادة (5) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري وإعلان القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7 تشرين الثاني 1967 وكذلك الحال مع الإعلان الخاص بحقوق المعوقين(86).


الفرع الثالث- الحقوق الثقافية

من أهم الحقوق الثقافية الحق في التعليم والثقافة حيث تم الاعتراف في القوانين الداخلية للدول والمعاهدات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بالحق في الثقافة والتعليم بهدف توجيه الثقافة نحو بناء وتنمية الشخصية الإنسانية والإحساس بكرامتها والاشتراك بشكل مؤثر وفعال في نشاط المجتمع الحر، وهذا ما يتم تحقيقه عبر إتاحة فرصة التعليم الابتدائي وجعله إلزامياً ومجانياً للجميع، والعمل على جعل التعليم الثانوي والفني والمهني متاحاً وميسوراً وبكل الوسائل المناسبة وعلى وجه التحديد عن طريق جعل الثقافة مجانية للجميع، فضلاً عن جعل التعليم العالي ميسوراً للجميع على أساس كفاءة كل شخص والعمل على تطوير المناهج المدرسية واحترام حق الآباء وحريتهم في اختيار ما يرونه من مدارس لتعليم أبنائهم واحترام حرية البحث العلمي والانتفاع بالتقدم العلمي وتطبيقاته، وكذلك حرية الأفراد في تأسيس المعاهد التعليمية ضمن المبادئ التي تنسجم مع الحد الأدنى للمستويات التي تقررها الدولة.

ان حق الآباء في تعليم أبناءهم قد أشير إليه منذ القرن الثامن عشر على ان يكون ذلك تحت رقابة الدولة بالشكل الذي يمكنها من اختيار المدرسين واشرافها على برامج التعليم والنظريات والأفكار التي تلقن للطلاب(87).

فعلى سبيل المثال كان التعليم في انكلترا حتى نهاية القرن الثامن عشر محتكراً تقريباً من جانب الكنيسة الرسمية ونتيجة للثورة الصناعية والاقتصادية وأفكار الثورة الفرنسية طرحت آراء من قبل جوزيف لانكستر دعا فيها إلى ايجاد تعليم حر لا يلقن التلميذ فيها ديانة معينة بينما دعا أندروبيل إلى التمسك بالنظام القديم، وفي عام 1833 بدأ البرلمان الانكليزي يهتم بالتعليم فمنح إعانات للاتجاهين السابقين وفي عام 1870 صدر قانون التعليم الأولي حيث تدخلت الدولة طبقاً لنصوصه لتنظيم التعليم العام حيث اعتمد هذا التنظيم على إتاحة الفرصة لكل طفل في ان يتلقى تعليماً أولياً واتخذت إجراءات عملية لتحقيق هذا الهدف عن طريق إنشاء هيئة تدريسية في كل مقاطعة، فضلاً عن بناء المدارس ثم صدرت بعد ذلك قوانين أخرى نظمت العملية التعليمية في هذا البلد(88).

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد كان من الأمور المهمة بالنسبة للمجتمع الديمقراطي الصحيح طبقاً لتوجهات جيفرسون، ان تقوم فيه الثقافة الشعبية، فهذه هي التي تحرر عقل الإنسان وتعمل على اتساع أفقه ومداركه، وهو أمر يؤدي إلى خلق إنسان أكثر قدرة على تطوير المجتمع بنواحيه المتعددة(89).

ويلاحظ مما تقدم ان بداية تنظيم التعليم كان لأسباب دينية ولازال العامل الديني يثير بعض التحفظات على مستوى العملية التعليمية ككل، فموضوع التعليم من المواضيع المهمة بحيث يجب تطويعه لتحقيق الغايات الإنسانية النبيلة فلكل فرد حق في التعليم وحق في العمل يرتبط به ويمكن من خلال الحق في التعليم اعمال الحق في العمل حيث يستغل المتعلم ما لديه من معلومات وبدون تعليم وطني متاح للجميع تصبح المساواة في الحقوق تعبيراً بلا معنى.


المطلب الثالث- الجيل الثالث من الحقوق

تتسع مجالات حقوق الإنسان مع مرور الزمن وتتطور فأصبحت هناك مجموعة من الحقوق التي تحتاج إلى تعاون الجميع سواء على المستويين الداخلي أو الدولي لكون هذه الحقوق ذات بعد انساني عام كالحق في التنمية، والحق في السلام، والحق في التضامن، والحق في بيئة نظيفة، والحق في الثروة الموجودة في قاع البحار، والحق في الإغاثة عند الكوارث الكبرى.

الفرع الأول- الحق في التنمية

يوجد بعد انساني لمفهوم التنمية وإعطاء تعريف يشتمل على جانب واحد من هذا المصطلح ليس بالأمر الصحيح فالتنمية كمفهوم أعطيت لها تعاريف متعددة وقد تطورت هذه التعاريف بتطور الزمن حيث اقترنت بالنمو الاقتصادي ثم تطور مفهوم التنمية ليشتمل على البعد السياسي والاجتماعي والثقافي إلى جانب البعد الاقتصادي ومجموع المضامين المتقدمة يعبر عنها بالتنمية البشرية ويعرف اعلان الحق في التنمية الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1986، عملية التنمية بأنها (عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها اعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية).

والهدف من وراء الحق في التنمية القضاء على الفقر والعمل على تدعيم كرامة الإنسان واعمال حقوقه، فضلاً عن إدارة المجتمع والدولة بصورة جيدة بتوفير فرص متساوية أمام كل الأفراد فهذه الإدارة الجيدة إذا ما تحققت يمكن تحقيق كل حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية(90).

أما تقرير التنمية البشرية فمنذ بداية صدوره عام 1990 عرفها بانها عملية توسيع لخيارات الناس بزيادة القدرات البشرية وطرق العمل وحدد هذه القدرات الأساسية الواجب توافرها لأعمال التنمية البشرية بثلاث هي:
أ- ان يعيش الناس حياة طويلة وصحية.
ب- ان يكونوا مزودين بالمعرفة.
ج- ان يكون بامكانهم الحصول على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائق.

وسبق ان صدر الإعلان العالمي للحق في التنمية عام 1986 حيث أكد على اعتبار التنمية حقاً من حقوق الإنسان وهو جعل الهدف من التنمية تمكين الإنسان من الحصول على حقوقه فحقوق الإنسان والتنمية سيدعم كل منهما الآخر فالتنمية البشرية بمعناها الواسع لن تتحقق إذا لم تتحقق المساواة بين الأفراد في المجتمع الواحد كما ان الجهود الرامية لتعزيز احترام حقوق الإنسان ستكون أكثر حظاً في النجاح إذا ما تم القضاء على الفقر ورفع مستوى المعيشة(91).

أما المسألة الثالثة فهي الربط بين الحق في التنمية والحق في المشاركة الشعبية والتوزيع العادل لفوائد التنمية وهذا ما يتحقق عن طريق تمكين الناس من أخذ القرار وبالشكل الذي يربط بين الديمقراطية والتنمية عن طريق ايجاد مؤسسات دستورية تعمل على تعميق مشاركة الناس في الشأن العام كما تلعب المنظمات غير الحكومية دوراً مهماً بهذا الاتجاه لأنها تملك القدرة على الاتصال والتعامل مع الفئات المهمشة وخرق مركزية الدولة(92).

الفرع الثاني- الحق في بيئة نظيفة

وضع اعلان المؤتمر الخاص بالبيئة البشرية الذي دعت إليه الأمم المتحدة عام 1972 بهدف الهام الشعوب وارشادها للمحافظة على البيئة وتعزيزها ونصت الفقرة الأولى من الديباجة على (الإنسان هو، في الوقت نفسه، مخلوق بيئته ومحدد شكلها، فهي تؤمن له عناصر وجوده المادي وتتيح له فرصة النمو الفكري والاجتماعي والروحي، وخلال التطور الطويل والقاسي للجنس البشري على هذا الكوكب، تم الوصول الآن إلى مرحلة أكتسب فيها الإنسان، عبر التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا، القدرة على تحويل بيئته بأساليب لا تحصى وعلى نطاق لم يسبق له مثيل، وكلا الجانبين من بيئة الإنسان، الطبيعي والذي من صنع الإنسان، ضروري لرفاهيته وللتمتع بحقوق الإنسان الأساسية، وحتى بالحق في الحياة).

وقد أكد المبدأ الأول من اعلان ستوكهولم على (للانسان حق أساسي في الحرية، والمساواة وظروف عيش مناسبة، في بيئة ذات نوعية تتيح حياة الكرامة والرفاه، وهو يتحمل مسؤولية جليلة في حماية بيئته وتحسينها للجيل الحاضر وللأجيال المقبلة .....)(93).

ان الاهتمام بالحق في بيئة نظيفة لا يعني الوصول إلى تحقيق بيئة مثالية لعيش الإنسان بل ان الغاية هو المحافظة على التكوين الطبيعي للمحيط الذي يعيش فيه الإنسان وحماية هذا المحيط من أي تدهور خطير وتطويره بالشكل الذي يؤدي إلى خدمة الإنسان وهناك نصوص دستورية في العديد من دساتير دول العالم نصت على حماية الحق في البيئة إذ نصت المادة 54 من الدستور الاسباني لعام 1978 على تمتع الإنسان ببيئة مناسبة تساهم في تطويره، بينما نصت المادة 123 من دستور بيرو لعام 1979 على (الحق بالعيش في بيئة سليمة وملائمة لتطوير الحياة والحفاظ على الريف والطبيعة)(94).
ولعل الدستور العراقي من الدساتير العربية القليله التي اهتمت بهذا الحق فقد اورد في المادة (33) منه (اولاً:- لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة .
ثانياً :- تكفل الدولة حماية البيئة والتنوع الاحيائي والحفاظ عليهما .)
وإذا كانت حقوق الإنسان على وجه العموم، تمثل التزاماً على الأفراد أو الدولة في الوقت نفسه التي تعد فيها حقوقاً لمصلحة الإنسان فقد حدد المبدأ رقم 23 من الميثاق العالمي للطبيعة 1982 بوضوح مضمون المشاركة الفردية حيث نص على (يجب اتاحة الفرصة لجميع الأشخاص وفقاً لتشريعهم الوطني للاسهام منفردين أو مشاركين مع غيرهم في صياغة القرارات ذات الصلة المباشرة ببيئتهم، واتاحة وسائل الانتصاف أمامهم إذا الحق بهم ضرر أو تدهور).

واعمالاً للاتجاه المتقدم نصت المادة 66 من الدستور البرتغالي على (1- للجميع الحق ببيئة بشرية سليمة ومتوازنة وعليهم واجب حمايتها. 2- تلتزم الدولة عن طريق مؤسساتها بالمناشدة وبمساندة المبادرات الجماهيرية في أ- منع التلوث والسيطرة على آثاره وأشكال التآكل المؤذية التي يسببها. ب- تنظيم مساحة اقليمية وذلك بغية اقامة مناطق مستقرة بايلوجياً. ج- خلق وتطوير المتنزهات الطبيعية. د- تشجيع الاستمتاع العقلاني بالموارد الطبيعية مع الحفاظ على مسؤوليتها واستقرارها البيئي)(95).

وعلى مستوى التطبيقات القضائية الوطنية يمكن الإشارة إلى قرار المحكمة الهندية العليا التي أكدت بان الالتزام بالمحافظة على التوازن الآيكولوجي لا يقتصر على الدول فحسب وإنما يمتد إلى الأفراد(96).

كذلك تعرضت المؤسسات القضائية الدولية للحق في البيئة فقد أكدت محكمة العدل الدولية في الفتوى الصادرة عنها عام 1996 بخصوص مشروعية استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها على الحق في بيئة نظيفة وأقرت بوجود القانون البيئي العرفي وذكرت (ان وجود التزام عام على الدول بضمان احترام الأنشطة الجارية في إطار ولايتها أو سيطرتها لبيئة الدول الأخرى أو المناطق الواقعة خارج السيطرة الوطنية، شكل الآن جزءاً من القانون الدولي المتصل بالبيئة)(97).

الفرع الثالث- الحق في التضامن

يقوم الحق في التضامن على أساس ما ورد في المادة 1 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أكدت على ان الناس جميعاً (قد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم ان يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء)، فضلاً عن كون التضامن واقع اجتماعي ويفترض ان يمتثل الفرد لإرادة الجماعة باعتبارها تعبيراً عن ذلك التضامن، ويبدو ان المعاني المتقدمة تحمل في طياتها جانباً أخلاقياً كبيراً إلا ان هذا البعد الأخلاقي المميز لا يعني انها غير متمتعة بوصف الالزام باعتبارها قواعد قانونية طالما تم النص عليها في اتفاقيات دولية أو في تشريعات داخلية.

وعلى اساس الحق في التضامن يقع التزام أخلاقي أولاً وقانوني ثانياً بضرورة تقديم المساعدة والعمل على نجدة الإنسان أو المجتمعات التي يمكن ان تتعرض لبعض النكبات أو المشاكل أو الاعتداءات في حالات الحروب والكوارث الطبيعية.

ان الحق في التضامن يجد له أساساً قانونياً وأخلاقياً متيناً في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة التي نصت على (.... ان نأخذ أنفسنا بالتسامح، وان نعيش معاً في سلام وحسن جوار..... ).


الفرع الرابع- الحق في السلام

يجد الحق في السلام الأساس له في نصوص ميثاق الأمم المتحدة التي تعمل على تحقيق مجموعة من الأهداف وعلى رأسها تحقيق السلم والأمن الدوليين وديباجة الميثاق تصدرتها الكلمات الآتية (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا ان ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف ...).

وإعمالا لنص الميثاق اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 12 تشرين الثاني 1984 اعلاناً بشأن حق الشعوب في السلم أكدت فيه (ان الحياة دون حرب هي بمثابة الشرط الدولي الأساسي للرفاهية المادية للبلدان ولتنميتها وتقدمها وللتنفيذ التام لكافة الحقوق والحريات الأساسية التي تنادي بها الأمم المتحدة).

وأضافت الجمعية العامة في هذا الإعلان انها (.... تدرك ان اقامة سلم دائم على الأرض، في العصر النووي، يمثل الشرط الأولى للمحافظة على الحضارة الإنسانية وعلى بقاء الجنس البشري، وإذ تسلم بان ضمان حياة هادئة للشعوب هي الواجب المقدس لكل دولة 1- تعلن رسمياً ان شعوب كوكبنا لها حق مقدس في السلم..... وان المحافظة على حق الشعوب في السلم وتشجيع تنفيذ هذا الحق يشكلان التزاماً أساسياً على كل دولة .... وان ضمان ممارسة حق الشعوب في السلم يتطلب من الدول ان توجه سياساتها نحو القضاء على أخطار الحرب، وقبل أي شيء آخر الحرب النووية، ونبذ استخدام القوة في العلاقات الدولية، وتسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية على أساس ميثاق الأمم المتحدة .. وناشدت الجمعية العامة جميع الدول والمنظمات الدولية ان تبذل كل ما في وسعها للمساعدة في ضمان تنفيذ حق الشعوب في السلم باتخاذ التدابير الملائمة على المستوى الوطني والدولي لتحقيق هذا الهدف(98).

هوامش الفصل الرابع

1. نعيم عطية، الدستور المصري وحقوق الإنسان، مجلة السياسة الدولية، العدد 39، السنة 1975، ص34.
2. شمس مرغني علي,القانون الدستوري,1978,عالم الكتب,ص665
3. عبد الغني بسيوني,النظم السياسيه,1984,ص351
4. منيب محمد ربيع,ضمانات الحريه في مواجهة سلطات الضبط الاداري,القاهره.1981 ص 115
5. محسن خليل,النظم السياسيه والقانون الدستوري,1981 ص104
6. عبد الغني بسيوني, المصدر السابق,ص384
7. ثروت بدوي ,النظم السياسيه,الجزء الاول,النظريه العامه للنظم السياسيه,1970,ص368
8. محسن العبودي,الحريات الاجتماعيه,دار النهضه العربيه ,1990,ص7
9. سعاد الشرقاوي,نسبية الحريات العامه وانعكاسها على التنظيم القانوني ,دار النهضه العربيه,1979,ص 71
10. حسان محمد شفيق، نحو تصنيف جديد للحريات العامة، المصدر السابق، ص53.
11. محمد فائق، حقوق الإنسان والتنمية، المستقبل العربي، العدد 251، السنة كانون الثاني 2000، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص101.
12. حسان محمد شفيق، المصدر السابق، ص54.
13. محمد فائق، المصدر السابق، 101.
14. حسان محمد شفيق، المصدر السابق، ص59-60.
15. محمد فائق,المصدر السابق, ص101
16. دور الدولة في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والحريات الفردية، منشور صادر عن قسم الدراسات القانونية في مركز العراق للأبحاث، آب 2004.
17. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص170-171.
18. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص116-117.
19. فاتح سميح عزام، الحقوق المدنية والسياسية في الدساتير العربية، المستقبل العربي، العدد 277، آذار 2002، مركز دراسات الوحدة العربية، ص21-22.
20. أنظر نصوص هذا البروتوكول في، محمد شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الأول، الوثائق العالمية، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة، 2003، ص101-103.
21. تقرير الأمين العام، منشور، منع الجريمة والعدالة الجنائية، عقوبة الإعدام وتنفيذ الضمانات التي تكفل حماية حقوق اللذين يواجهون عقوبة الإعدام، الأمم المتحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الدورة الموضوعية لعام 2000، 5تموز – 1 آب 2000، ص21-22.
22. المصدر نفسه، ص19.
23. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص22.
24. المصدر نفسه، ص24.
25. المصدر نفسه، ص25.
26. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص118-119.
27. المصدر نفسه، ص120.
28. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص26.
29. محمود محمود مصطفى، حماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية، مجلة المحامون السورية، العدد 12، السنة 1978، ص320.
30. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص136.
31. المصدر نفسه، ص141.
32. المصدر نفسه، ص142.
33. محمود محمود مصطفى، المصدر السابق، ص321.
34. تقرير المقرر الخاص عابد حسين، الحقوق المدنية والسياسية بما في ذلك مسالة حرية التعبير (بريطانيا) المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة حقوق الإنسان، الدورة 56، ص20.
35. حسن الهداوي، غالب الداودي، القانون الدولي الخاص، الجزء الأول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق، ص275.
36. عبد العزيز محمد سرحان، المصدر السابق، ص151.
37. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص179.
38. عبد الحميد متولي، المصد رالسابق، ص464.
39. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص379-380.
40. المصدر نفسه، ص381.
41. عثمان خليل، المصدر السابق، ص139-140.
42. المصدر نفسه، ص141.
43. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص282.
44. عثمان خليل، المصدر السابق، ص141.
45. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص282.
46. المصدر نفسه، ص383.
47. المصدر نفسه، ص385.
48. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص26.
49. ايريكا- ايرين أ.دايسي، واجبات الفرد ازاء المجتمع والقيود المفروضة على حقوق الإنسان وحرياته بمقتضى المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، نيويورك، 1984، ص229.
50. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص395.
51. المصدر نفسه، ص395-396.
52. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص391-393.
53. المصدر نفسه، ص394-395.
54. المصدر نفسه، ص396.
55. المصدر نفسه، ص400-402.
56. المصدر نفسه، ص468.
57. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص23-24.
58. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص392.
59. عثمان خليل، المصدر السابق، ص147.
60. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، 416-417.
61. المصدر نفسه، ص418.
62. المصدر نفسه، ص466-467.
63. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص23.
64. تقرير عبيد حسين المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير (تقرير البعثة إلى تونس) المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة حقوق الإنسان، الدورة 56، E/CN.4/2000/63/Add.4 ، ص5.
65. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص400.
66. المصدر نفسه، ص393-394.
67. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص463-465.
68. تقرير عبد الفتاح عمرو وفقاً لقرار لجنة حقوق الإنسان 1996/23 ، المجلس الاقتصادي والاجتماعي/ لجنة حقوق الإنسان، الدورة 54، E/CN.4/1998/6/Add.1، ص4.
69. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر نفسه، ص463-465.
70. المصدر نفسه، ص465-466.
71. عصام نعمة اسماعيل، حول حجاب المسلمات في فرنسا، يبقى القضاء ملاذاً نهائياً لحماية الحرية الدينية، المستقبل العربي، العدد 301، السنة 3/2004، ص13.
72. المصدر نفسه، ص18-19.
73. تقرير الأمين العام/ حقوق الإنسان والحرمان التعسفي من الجنسية/ المجلس الاقتصادي والاجتماعي- لجنة حقوق الإنسان، الدورة 56، E/CN.41/2000/56/Add.1. 28 January 2000 ، ص2.
74. أنظر بحث فؤاد عبد المنعم رياض، الجنسية كحق من حقوق الإنسان "دراسة مقارنة لبعض التشريعات العربية" المنشور في محمد شريف بسيوني، دراسات تطبيقية عن العالم العربي، الطبعة الأولى، دار العلم للملايين، بيروت، 1989، ص456.
75. فاتح سميح عزام، المصدر السابق، ص27-28.
76. عصام العطية، القانون الدولي العام، الطبعة الرابعة، 1987، ص222-223.
77. أحمد جمال الظاهر، دراسات في الفلسفة السياسية، المصدر السابق، ص471.
78. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص175.
79. نعيم عطية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدساتير الحديثة، مجلة مصر المعاصرة،، العدد 345، السنة 1971، ص113.
80. المصدر نفسه، ص114.
أيريكا – ايرين أ.دايسي، المصدر السابق، ص501.
81. المصدر نفسه، ص114-115.
82. أنور أحمد رسلان، المصدر السابق، ص175-176.
83. المصدر نفسه، ص177.
84. مصطفى كامل ليلة، المصدر السابق، ص390-391.
85. نعيم عطية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدساتير الحديثة، المصدر السابق، ص119-121.
86. عبد الكريم علوان، المصدر السابق، ص58.
87. عثمان خليل، المصدر السابق، ص147.
88. نعيم عطية، إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في التجربة الدستورية الانكلوسكسونية، المصدر السابق، ص406.
89. المصدر نفسه، ص418.
90. محمد فائق، المصدر السابق، ص101.
91. المصدر نفسه، ص102.
92. المصدر نفسه، ص103.
أنظر كذلك عبد الكريم علوان، المصدر السابق، ص79.
93. المصدر نفسه، ص83.
94. صلاح الحديثي، النظام القانوني الدولي لحماية البيئة، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية القانون/ جامعة بغداد ، 1997، ص10، هامش رقم 1.
95. المصدر نفسه، ص11 هامش رقم 1.
96. المصدر نفسه، ص 14 هامش رقم 4.
97. لويز دوسوالدبيك، القانون الدولي الإنساني وفتوى محكمة العدل الدولية بشأن مشروعية التهديد بالأسحلة النووية أو استخدامها، المجلة الدولية للصليب الأحمر، العدد 35، شباط 1997، ص50.
98. أنظر نص هذا الإعلان منشوراً في محمد شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، الوثائق العالمية، المجلد الأول، المصدر السابق، ص960.

الفصل الخامس
الحماية الداخلية لحقوق الانسان
ترتب على نضال الشعوب وثوراتها وانتصاراها في مواجهة قهر السلطة في كثير من مراحل التاريخ البشري ، ان انتقلت الحرية من مجرد افكار ورؤى يدعو اليها الكتاب والمفكرين وتتطلع اليها الشعوب الى حقوق معترف بها ويحميها القانون باعتبارها شرط من شروط استقرار الدول وحماية نظامها السياسي والاجتماعي .
وعلى ذلك يجب ان توفر السلطة ضمانات جدية تكفل احترام هذه الحقوق وتتعهد باحترامها وفي مقدمة هذه الضمانات ادراج الحقوق والحريات في صلب الوثيقة الدستورية فلا حرية بدون قانون يحميها من اعتداء الحكام او الافراد انفسهم.
وقد يسر ذلك انتشار الدساتير والوثائق القانونية واعلانات الحقوق التي اضحت ضمانات اكيدة في مواجهة الانظمة السياسية القائمة وخارجه عن مجال سيطرتها إلا إنها ضمانات غير كافية يجب تعزيزها على المستوى الداخلي من خلال وجود قضاء مستقل يملك ولاية الغاء قرارات السلطة التنفيذية الماسة بالحقوق والحريات ، اذا ما خالفت القانون او تعسفت باستخدام سلطاتها وتقرير مبدأ الرقابة على دستورية القوانين وكفالة ديمقراطية التجاء الافراد الى القضاء لا لغاء القوانين غير الدستورية وايجاد نضم جديدة لتحقيق العدالة واحترام حقوق وحريات الافراد خارج النظام القضائي .
الى غير ذلك من وسائل اخرى تساهم على المستوى الوطني في تعزيز احترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية . وهو موضوع هذا الجزء من الدراسة .

المبحث الاول
ادراج الحقوق والحريات في صلب الوثيقة الدستورية
من المبادئ المسلم بها في النظم الديمقراطية إن يمثل الدستور الوثيقة القانونية العليا واجبة الاحترام من السلطات الأساسية الثلاث في الدولة. بحكم إن الدستور يتضمن المبادئ القانونية التي تتعلق بشكل الدولة ونظام الحكم فيها وعلاقته بالمواطنين وينظم السلطات العامة في الدولة وحقوق وحريات الأفراد ويعد الدستور أعلى التشريعات في الدولة ويقع في قمة الهرم القانوني ويسمو على القواعد القانونية الأخرى جميعا. مما ينبغي إن تلتزم سلطات الدولة جميعها بالتقيد بأحكامه وإلا عدت تصرفاتها غير مشروعة. فالسلطة التنفيذية تلتزم بقواعد الدستور ولا يحق لها مخالفتها في أعمالها إذ إن ذلك يعرض أعمالها للإلغاء والتعويض عما تسببه من ضرر. كما إن السلطة التشريعية ممثلة بالبرلمان تتقيد هي الأخرى بأن تحترم تشريعاتها القواعد الدستورية وإلا كانت عرضه للإلغاء استنادا إلى مخالفتها لمبدأ المشروعية . ومن الجدير بالذكر في هذا المجال إن نؤكد انه ليس المهم إن يسجل الدستور المبادئ العامة التي تحكم السلطات الأساسية في الدولة. إنما يجب العمل على كفالة احترام الدستور وتقدير الضمانات التي إلى تعزيز هذا الاحترام وفي هذا الجزء من الدراسه نتناول الضمانات القانونية والواقعية لاحترام القواعد الدستورية.

المطلب الاول
مضمون القواعد الدستورية
يختلف محتوى الدستور من دولة إلى أخرى حسب التنظيمات الدستورية السائدة فيها لذلك ليس من السهولة التحديد الدقيق لما يحتويه الدستور غير إن الخطوط الرئيسية المجمع عليها من فقهاء القانون الدستوري تقوم على تقسيم القواعد الدستورية إلى جزئين: يتعلق الجزء الأول منها بدراسة القواعد المنظمة لممارسة السلطة. أما الجزء الثاني فيتعلق بدراسة الحقوق والحريات.
أولا : القواعد المنظمة لممارسة السلطة:
يتضمن الدستور القواعد التي تنظم ممارسة نشاط السلطات الحاكمة في الدولة والعلاقة بينها وحدود عمل كل سلطة حتى لا تطغي سلطة على الأخرى وفق مبدأين أساسيين هما فصل السلطات والتوازن بينهما.
فقد درج الفقهاء على تقسيم وظائف الدولة القانونية إلى ثلاث ( تشريعية ، تنفيذية ، قضائية) ويقوم التوازن بين السلطات بان لاتطغي السلطة التنفيذية على الشعب ممثلا بالبرلمان ولا يطغي البرلمان على السلطة التنفيذية وهذا الأمر يحتاج إلى ضابط حازم يؤدي إلى الحفاظ والثبات في النظام السياسي القائم.
وفي هذا المجال تثار مشكلة تتصل بتنظيم هذه السلطات والعلاقة بينها وهو ما يتكفل به الدستور باعتباره الوثيقة القانونية الأعلى في الدولة.
وقد كان لفكرة توزيع السلطات في الدولة قبولا لدى واضعي دستور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 ورجال الثورة الفرنسية فورد النص عليه في إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام1789 الملحق بدستور عام 1791 ، ويتفق معظم الدستوريون اليوم على إن هناك نموذجين أساسيين لتوزيع السلطات احدهما يتمثل بالنظام البرلماني والآخر بالنظام الرئاسي يأخذ الأول بالفصل المعتدل بين السلطات بينما يعتمد الثاني على الفصل شبه المطلق.
من جانب آخر تتضمن الوثيقة الدستورية القواعد التي يرجع إليها في أسلوب تقلد السلطة وانتقالها( الوراثة ، الانتخاب ) ، كما يتضمن شكل الدولة ما إذا كان بسيطا أم مركبا ، وإذا كان فدراليا فان الدستور يبين تقسيم السلطة بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات.
ثانيا:. القواعد المنظمة للحقوق والحريات.
يحدد الدستور في الجزء الثاني من أحكامه تلك القواعد المنظمة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
فقد حرصت الوثائق الدستورية المختلفة على أن تتضمن في جانب منها الحقوق والحريات التقليدية لاسيما تلك المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية. وفي جانب آخر الحقوق والحريات ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولم يقف المشرع الدستوري عند حد تسجيل هذه الحقوق والحريات بل عمل على كفالة احترامها وتقدير ضمانات ممارستها ووضع القيود التي تحد من تقييد السلطات العامة لها. بشرط إن تبقى في حدود عدم مساسها بحقوق وحريات الآخرين وعدم الأضرار بالمصالح الأخرى للمجتمع.
وهذا التقييد الضابط للحرية من الخطورة بحيث لايمكن تركه لتقدير الدولة ولا يمكن التعويل على نبل مقاصدها. ومن اجل إن لا تتجاوز السلطة على هذه الحقوق والحريات كان لا بد من وجود ضابط لتلك السلطة يتمثل في نص الدستور على احترام تلك الحقوق والحريات وان يتم إدراج المبادئ الرئيسية التي تنظم الحريات العامة في صلب الوثيقة الدستورية وان لا يترك للسلطة التنفيذية أن تنضمها عن طريق المراسيم فتتوغل في تلك الحريات وتجعل ممارستها استثناءا من المنع.
ولم يتبع المشرع الدستوري في اغلب الدول العربيه أسلوب تقرير الحقوق والحريات العامة في إعلانات الحقوق أو في ديباجة دساتيره ولعل في ذلك تجنب لما قد يثار بشأن القيمة القانونية لهذه الإعلانات.
كما لم يتبع ما نصت عليه بعض الدول من تقرير هذه الحقوق في قوانينها العادية كما هو الحال في انكلترا وما قد يؤدي إليه هذا الأمر من إمكانية المشرع العادي في تعديل هذه الحقوق بالزيادة أو النقصان.
فقد تبنت هذه الدساتير الأسلوب الذي اتبعه الدستور الأمريكي في تقرير الحقوق والحريات العامة في نصوص وردت في صلب الوثيقة الدستورية مما اسبغ عليها من القوة ما للنصوص الدستورية الأخرى.

المطلب الثاني
الضمانات القانونية لتطبيق القواعد الدستورية
ينتج عن مبدأ سمو الدستور على القواعد القانونية الأخرى بمختلف مراتبها - سواء كانت تشريعاً عادياً صادرا من السلطة التشريعية أو تشريعا فرعياً صادراً عن السلطة التنفيذية - إن تعلو أحكام الدستور على كل أعمال السلطات في الدولة ، اعتباره المعبر الوحيد عن الإرادة الشعبية وتكون هذه الأعمال لاغيه وباطلة إذا ما خلقته.
ولكن السؤال هو من الذي يقرر ما إذا كانت تلك الأعمال الصادرة من السلطة التشريعية أو من السلطة التنفيذية تتناقض مع الدستور وما هي الإجراءات الواجب مراعاتها لضمان تطبيق القواعد الدستورية.
الفرع الاول: ( الرقابة على دستورية القوانين ) .
الدستور يقيد المشرع العادي في الحدود التي رسمها له ومن ثم تمنع السلطة التشريعية عن إصدار التشريعات التي تتعارض مع نصوص الدستور وفق ما يسمى بمبدأ دستورية القوانين . ولضمان التزام السلطة التشريعية بتلك الحدود من الضروري فرض الرقابة عليها.
والملاحظ إن الدساتير مختلفة في إتباع الطريقة التي تحقق بها تلك الرقابة وسلكت في هذا المجال سبل مختلفة أهمها ما يلي:
اولاً :-الطعن في دستورية القوانين أمام لجنة أو مجلس دستوري.
تباشر الرقابة على دستورية القوانين في بعض الأحيان من قبل هيئة أو لجنة ذات صيغة سياسية غير قضائية.
وقد انفردت فرنسا منذ أواخر القرن الثامن عشر في الدعوة إلى إيجاد هيئة سياسية يكون من اختصاصها إلغاء جميع القوانين التي تسن مخالفة لأحكام الدستور. ولم تعهد بهذه المهمة إلى القضاء بسبب السمعة السيئة له في ذلك الوقت (1)
وقد أخذت العديد من الدول عن فرنسا هذا النوع من الرقابة مع اختلاف بين دستور وآخر. فاخذ الاتحاد السوفيتي السابق بهذا الأسلوب في دستور عام1977 وجعل الرقابة من اختصاص السلطة التشريعية كما اخذ به دستور ألمانيا الديمقراطية في دستورها لعام 1949 و بلغاريا في دستورها لعام1947 والصين في دستورها لعام1954.
وقد أناط الدستور الفرنسي الحالي الصادر عام 1958 مهمة الرقابة إلى هيئة اسماها المجلس الدستوري تتكون من نوعين من الأعضاء : تسعة أعضاء يتم تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ. كما يضم المجلس رؤساء الجمهورية السابقون للاستفادة من خبراتهم السياسية التي اكتسبوها من سني خدمتهم من ناحية أخرى. أما رئيس المجلس فيعين من بين أعضاء المجلس من قبل رئيس الجمهورية. (2)
ويتميز هذا النوع من انواع الرقابة على دستورية القوانين في انه يمارس رقابه وقائية على القوانين غير الدستورية وهي في مرحلة تشريعها قبل ان تصدر ، لكنه بالرغم من ذلك تعرض للانتقاد من حيث إن تحريكه يعود أما للسلطة التشريعية أو التنفيذية مما يقيم الرقابة على اعتبارات سياسية أكثر من إقامتها على اعتبارات قانونية وموضوعية(3) بحكم ان جهة الرقابة غالباً تتكون من هيئة يتم تعيينها أو اختيارها من إحدى هاتين السلطتين ولا شك إن الطابع السياسي يتدخل في هذا التعيين مما يفقدها الاستقلال والحياد الأمني في ممارسة دورها الرقابي.
ثانياً : الرقابة القضائية على دستورية القانون:
بموجب هذا النوع من الرقابة يمارس القضاء مهمة الفصل فيما إذا كان القانون دستوريا من عدمه ويتم ذلك في الغالب بإتباع طريقين هما:
1-رقابة الامتناع أو الدفع الفرعي:
ويتم ذلك بان يهمل القضاء القانون غير الدستوري ويمتنع عن تطبيقه في القضية المعروضة. وقد اتبعت هذه الطريقة من طرق الرقابة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتم من خلال نزاع قضائي يدفع فيه احد الخصوم بان القانون المراد تطبيقه عليه غير دستوري فتنظر المحكمة في هذا الدفع فإذا ثبت لديها انه مخالف للدستور امتنعت عن تطبيقه وإذا ظهر العكس استمرت في نظر النزاع.
ومن الجدير بالذكر انه ليس في الدستور الأمريكي نص صريح يرجح أو يقر مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين. لكن نص المادة السادسة من الدستور قد أكد إن (( هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي تصدر طبقا له.. تكون هي القانون الأعلى للبلاد، ويكون القضاة في جميع الولايات ملزمين به،ولا يعتد بأي نص في الدستور أو قوانين أية ولاية يكون مخالفا ًلذلك)). (4)
وقد ذهب الرأي الراجح في الفقه الدستوري الأمريكي إلى القول بان الرقابة على دستورية القوانين هي بطبيعتها من اختصاص السلطة القضائية بحكم إنها تمتلك ميزة البعد عن التأثير السياسي فضلا عن الخبرة(5)
مع إن البعض قد ذهب إلى إن إسناد هذه السلطة للقضاء فيه اعتداء على اختصاص السلطة التشريعية ويجعل منها سلطة سياسية أعلى من سلطة الأمة الممثلة ببرلمانها. (6)
ووفق هذا النوع من الرقابة وعندما تحكم إحدى المحاكم في دعوى أمامها بعدم دستورية قانون ما فإنها لا تلغي القانون وإنما تمتنع عن تطبيقه ويضل القانون سليما على الرغم من ذلك ويجوز لمحكمة أخرى إن تطبقه كما يصح إن تطبقه ذات المحكمة التي امتنعت عن تطبيقه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:09 pm

المطلب الثاني
الضمانات القانونية لتطبيق القواعد الدستورية
ينتج عن مبدأ سمو الدستور على القواعد القانونية الأخرى بمختلف مراتبها - سواء كانت تشريعاً عادياً صادرا من السلطة التشريعية أو تشريعا فرعياً صادراً عن السلطة التنفيذية - إن تعلو أحكام الدستور على كل أعمال السلطات في الدولة ، اعتباره المعبر الوحيد عن الإرادة الشعبية وتكون هذه الأعمال لاغيه وباطلة إذا ما خلقته.
ولكن السؤال هو من الذي يقرر ما إذا كانت تلك الأعمال الصادرة من السلطة التشريعية أو من السلطة التنفيذية تتناقض مع الدستور وما هي الإجراءات الواجب مراعاتها لضمان تطبيق القواعد الدستورية.
الفرع الاول: ( الرقابة على دستورية القوانين ) .
الدستور يقيد المشرع العادي في الحدود التي رسمها له ومن ثم تمنع السلطة التشريعية عن إصدار التشريعات التي تتعارض مع نصوص الدستور وفق ما يسمى بمبدأ دستورية القوانين . ولضمان التزام السلطة التشريعية بتلك الحدود من الضروري فرض الرقابة عليها.
والملاحظ إن الدساتير مختلفة في إتباع الطريقة التي تحقق بها تلك الرقابة وسلكت في هذا المجال سبل مختلفة أهمها ما يلي:
اولاً :-الطعن في دستورية القوانين أمام لجنة أو مجلس دستوري.
تباشر الرقابة على دستورية القوانين في بعض الأحيان من قبل هيئة أو لجنة ذات صيغة سياسية غير قضائية.
وقد انفردت فرنسا منذ أواخر القرن الثامن عشر في الدعوة إلى إيجاد هيئة سياسية يكون من اختصاصها إلغاء جميع القوانين التي تسن مخالفة لأحكام الدستور. ولم تعهد بهذه المهمة إلى القضاء بسبب السمعة السيئة له في ذلك الوقت (1)
وقد أخذت العديد من الدول عن فرنسا هذا النوع من الرقابة مع اختلاف بين دستور وآخر. فاخذ الاتحاد السوفيتي السابق بهذا الأسلوب في دستور عام1977 وجعل الرقابة من اختصاص السلطة التشريعية كما اخذ به دستور ألمانيا الديمقراطية في دستورها لعام 1949 و بلغاريا في دستورها لعام1947 والصين في دستورها لعام1954.
وقد أناط الدستور الفرنسي الحالي الصادر عام 1958 مهمة الرقابة إلى هيئة اسماها المجلس الدستوري تتكون من نوعين من الأعضاء : تسعة أعضاء يتم تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ. كما يضم المجلس رؤساء الجمهورية السابقون للاستفادة من خبراتهم السياسية التي اكتسبوها من سني خدمتهم من ناحية أخرى. أما رئيس المجلس فيعين من بين أعضاء المجلس من قبل رئيس الجمهورية. (2)
ويتميز هذا النوع من انواع الرقابة على دستورية القوانين في انه يمارس رقابه وقائية على القوانين غير الدستورية وهي في مرحلة تشريعها قبل ان تصدر ، لكنه بالرغم من ذلك تعرض للانتقاد من حيث إن تحريكه يعود أما للسلطة التشريعية أو التنفيذية مما يقيم الرقابة على اعتبارات سياسية أكثر من إقامتها على اعتبارات قانونية وموضوعية(3) بحكم ان جهة الرقابة غالباً تتكون من هيئة يتم تعيينها أو اختيارها من إحدى هاتين السلطتين ولا شك إن الطابع السياسي يتدخل في هذا التعيين مما يفقدها الاستقلال والحياد الأمني في ممارسة دورها الرقابي.
ثانياً : الرقابة القضائية على دستورية القانون:
بموجب هذا النوع من الرقابة يمارس القضاء مهمة الفصل فيما إذا كان القانون دستوريا من عدمه ويتم ذلك في الغالب بإتباع طريقين هما:
1-رقابة الامتناع أو الدفع الفرعي:
ويتم ذلك بان يهمل القضاء القانون غير الدستوري ويمتنع عن تطبيقه في القضية المعروضة. وقد اتبعت هذه الطريقة من طرق الرقابة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتم من خلال نزاع قضائي يدفع فيه احد الخصوم بان القانون المراد تطبيقه عليه غير دستوري فتنظر المحكمة في هذا الدفع فإذا ثبت لديها انه مخالف للدستور امتنعت عن تطبيقه وإذا ظهر العكس استمرت في نظر النزاع.
ومن الجدير بالذكر انه ليس في الدستور الأمريكي نص صريح يرجح أو يقر مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين. لكن نص المادة السادسة من الدستور قد أكد إن (( هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي تصدر طبقا له.. تكون هي القانون الأعلى للبلاد، ويكون القضاة في جميع الولايات ملزمين به،ولا يعتد بأي نص في الدستور أو قوانين أية ولاية يكون مخالفا ًلذلك)). (4)
وقد ذهب الرأي الراجح في الفقه الدستوري الأمريكي إلى القول بان الرقابة على دستورية القوانين هي بطبيعتها من اختصاص السلطة القضائية بحكم إنها تمتلك ميزة البعد عن التأثير السياسي فضلا عن الخبرة(5)
مع إن البعض قد ذهب إلى إن إسناد هذه السلطة للقضاء فيه اعتداء على اختصاص السلطة التشريعية ويجعل منها سلطة سياسية أعلى من سلطة الأمة الممثلة ببرلمانها. (6)
ووفق هذا النوع من الرقابة وعندما تحكم إحدى المحاكم في دعوى أمامها بعدم دستورية قانون ما فإنها لا تلغي القانون وإنما تمتنع عن تطبيقه ويضل القانون سليما على الرغم من ذلك ويجوز لمحكمة أخرى إن تطبقه كما يصح إن تطبقه ذات المحكمة التي امتنعت عن تطبيقه في قضية أخرى إذ إن حجية الحكم بعدم الدستورية نسبية يقتصر أثرها على طرفي النزاع. ما لم يكن الحكم الصادر بعدم الدستورية صادرا من المحكمة الاتحادية العليا.
ويعد هذا الطريق الأسلوب الأكثر نجاحا في فرض الرقابة على دستورية القوانين في الدول التي تخلو دساتيرها من النص صراحة على حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين ، إذا ما دفع أمامه – أثناء نظر دعوى مرفوعة – بعدم دستورية قانون ما واجب التطبيق. ومن ذلك ما درج عليه القضاء المصري في ظل دستور عام 1956 ودستور عام 1958 رغم خلوهما من نصوص تنظيم الرقابة.(7)
2-الطعن في دستورية القوانين بطريق الدفع الأصلي أو رقابة الإلغاء.
يجيز هذا النوع من الرقابة لبعض المحاكم إلغاء القانون غير الدستوري وإنهاء العمل به وقد يكون هذا الحكم قبل صدور القانون فتسمى رقابة الإلغاء السابقة أو بعده فيسمى رقابة الإلغاء اللاحقة. وبسبب خطورة الأثر المترتب على هذا الحكم والمتمثل بإلغاء تشريعات البرلمان ، حرصت الدول على إن تمارسه محاكم دستورية عليا متخصصة أو أعلى درجات القضاء في الدولة ، كما لم تجز كثر منها للأفراد إن يطعنوا مباشرة في دستورية القوانين بينما أجاز بعضها ذلك بطريق غير مباشر بان يتقدموا بالطعن بعدم دستورية قانون ما أمام بعض المحاكم، فان اقتنعت هذه المحكمة بجدية الطعن تقدمت به إلى المحكمة الدستورية. (Cool
ومن الدول التي أخذت بهذا الأسلوب من طرق الرقابة، العراق في ظل القانون الأساسي عام 1925 حيث أناط فحص دستورية القوانين بمحكمة عليا وجعل حق الطعن في دستورية القانون من اختصاص السلطة التنفيذية دون الأفراد.
وهذا الامر منتقد لأنه حرم المواطنين من ضمانة أساسية لكفالة احترام الدستور وما يتضمنه من حقوق وحريات.
كما اخذ الدستور الايطالي لعام 1947 بتشكيل محكمة دستورية من خمسة عشر قاضياً تمتلك سلطة إلغاء القانون غير الدستوري اعتباراً من تاريخ صدور الحكم.
واخذ به الدستور المصري الحالي الصادر في 11 سبتمبر 1971 بان جعل الرقابة على دستورية القوانين من اختصاص المحكمة الدستورية العليا بعد إن نبذ المشرع الدستوري نظام الرقابة السياسية على دستورية القوانين.
على انه بالرغم من مزايا الرقابة القضائية بطريق الدعوى المباشرة إلا إنها لم تسلم من النقد من جانب من الفقه باعتبار إنها تمثل خروجا على حدود مهمة القضاء وتؤدي إلى إقحامه في المجال التشريعي وإهداره لعمل السلطة التشريعية ، مما يعتبر مساسا بمبدأ الفصل بين السلطات. كما إن إعطاء المحكمة سلطة إلغاء القانون، يعطيها مركزا قويا ونفوذا كبيراً باتجاه سلطات الدولة الأخرى لاسيما السلطة التشريعية. (9)


المبحث الثاني
الرقابة على اعمال السلطة التنفيذية
مما لا شك فيه ان السلطة التنفيذية عندما تمارس وظيفتها قد تنتقص من حقوق وحريات الافراد خلافاً لما هو مقرر في الدستور . لذلك يجب ان لا تترك لها هذه السلطة دون ضابط يرسم الحدود التي لا تتجاوزها ويعرض تصرفاتها للبطلان .
ويفرض ذلك وجود ضمانات ووسائل تراقب عمل السلطة التنفيذية . وتختلف هذه الضمانات باختلاف الدولة والنظم القانونية المتبعة فيها . غير ان المستقر في اغلب الدول ان الضمانات القانونية في مواجهة السلطة التنفيذية تتمثل برقابة البرلمان لاعمال السلطة التنفيذية ورقابة القضاء وأخيراً رقابة الهيئات المستقلة .
المطلب الاول
رقابة البرلمان لاعمال السلطة التنفيذية
يتمثل هذا الطريق من الرقابة برقابة البرلمان على اعمال السلطة التنفيذية وذلك عن طريق الشكاوى المقدمة من الافراد والمتضمنة طلباتهم التي قد يجد البرلمان انها على قدر من الوجاهة مما يدعو الى مواجهة الوزراء بحق السؤال او الاستجواب او سحب الثقة من الوزارة كلها(10) .
ويتحدد شكل الرقابة بما هو مرسوم في الدستور . وهي تختلف من دولة الى اخرى وتكون الرقابة البرلمانية اقوى في النظم النيابية منها في النظم الاخرى ، حيث تكون الوزارة مسؤولة امام البرلمان مسؤولية تضمانية ناهيك عن المسؤولية الفردية لكل وزير عن اعمال وزارته .
وقد كفل الدستور العراقي لعام 2005 رقابة البرلمان على اعمال الحكومة احتراماً لمبدأ المشروعية عن طريق توجيه السؤال الى رئيس مجلس الوزراء والوزراء في أي موضوع يدخل في اختصاصهم ، كما يجوز لخمسة وعشرين عضواً في الاقل من مجلس النواب طرح موضوع عام للمناقشة لاستيضاح سياسة واداء مجلس الوزراء ، ولعضو مجلس النواب وبموافقة خمسة وعشرين عضواً ، توجيه استجواب الى رئيس مجلس الوزراء او الوزراء ، لمحاسبتهم في الشؤون التي تدخل في اختصاصهم .
وقد ورد في المادة 61/ ثامناً من الدستور ان لمجلس النواب سحب الثقة من احد الوزراء بالاغلبية المطلقة ، ويعد مستقيلاً من تاريخ قرار سحب الثقة ، كما يملك المجلس بناءً على طلب خمس اعضائه وبالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بعد استجواب وجه له .
ومن جانبه تبنى الدستور الاردني الرقابة البرلمانيه على اعمال الحكومة عن طريق توجيه السؤال الى رئيس مجلس الوزراء والوزراء.
فقد ورد في المادة 96 من الدستور : لكل عضو من اعضاء مجلس الاعيان و النواب ان يوجه الى الوزراء اسئله واستجوابات حول اى امر من الامور العامه وفقا لما هو منصوص عليه في النظام الداخلي للمجلس الذي ينتمي اليه ذالك العضو ، ولا يناقش استجواب ما , قبل مضي ثمانة ايام على وصوله الى الوزير الا اذا كانت الحاله مستعجله ووافق الوزير على تقصير المده المذكوره ."
في حين ورد في الماده 53 منه :" 1- تطرح الثقه بالوزاره او باحد الوزراء امام مجلس النواب . 2- اذا قرر المجلس عدم الثقه بالوزاره بالاكثريه المطلقه من مجموع عدد اعضائه وجب عليها ان تستقيل .3- واذا كان قرار عدم الثقه خاصا باحد الوزراء وجب عليه اعتزال منصبه " .
لكن مع ما تتمتع به الرقابة البرلمانية على اعمال السلطة التنفيذية من اهمية في مجال احترام وسيادة القانون فان دورها مقيد غالباً بالارادة الحزبية السائدة في البرلمان التي تكون في احيان متوافقة مع ارادة الحكومة لو صادف انها من الحزب نفسه فتكون الحكومة الخصم والحكم(11) .
كما ان عدم نضج الوعي السياسي لدى اعضاء البرلمان وافتقارهم الى الخبرة وضعف المعارضة قد تؤدي الى ضعف هذه الضمانة ويختفي دورها الحقيقي في حماية حقوق الافراد وحرياتهم .
المطلب الثاني
رقابة القضاء على اعمال الادارة
تعد رقابة القضاء على اعمال السلطة التنفيذية ممثلة بالادارة واحدة من اهم عناصر الرقابة واكثرها ضماناً لحقوق الافراد وحرياتهم لما تتميز به الرقابة القضائية من استقلال وحياد . وما تتمتع به احكام القضاء من قوة وحجية يلتزم الجميع بتنفيذها واحترامها والا تعرض المخالف للمسائلة وما في ذلك من تبني لشرعية دولة القانون .
ومن المستقر وجود نوعين من نظم الرقابة القضائية على اعمال الادارة هما نظام القضاء الموحد ونظام القضاء المزدوج .

النوع الاول :نظام القضاء الموحد :
يسود هذا النظام في انكلترا والولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول الاخرى ومقتضاه ان تختص جهة قضائية واحدة بالنظر في جميع المنازعات التي تنشأ بين الافراد انفسهم او بينهم وبين الادارة او بين الهيئات الادارية نفسها .
وهذا النظام يتميز بانه اكثر اتفاقاً مع مبدأ المشروعية اذ يخضع الافراد والادارة الى قضاء واحد وقانون واحد مما لا يمنح الادارة أي امتيازات في مواجهة الافراد(12) . بالاضافة الى اليسر في اجراءات التقاضي .

النوع الثاني :نظام القضاء المزدوج :
يقوم هذا النظام على اساس وجود جهتين قضائيتين مستقلتين جهة القضاء العادي وتختص بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين الافراد او بينهم وبين الادارة عندما تتصرف كشخص من اشخاص القانون الخاص ويطبق على هذا النزاع احكام القانون الخاص . وجهة القضاء الاداري تختص بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين الافراد والسلطات الادارية عندما تظهر بصفتها صاحبة السلطة وتتمتع بامتيازات لا يتمتع بها الافراد ويطبق القضاء الاداري على المنازعة قواعد القانون العام ، وتعد فرنسا مهد القضاء الاداري ومنها انتشر الى كثير من الدول كبلجيكا واليونان ومصر والعراق .
ومن المهم القول بان هذا النظام قد نشأ اساساً على مبدأ الفصل بين السلطات ومقتضاه منع القضاء العادي من النظر في المنازعات التي تكون الادارة طرفاً فيها احتراماً لاستقلال السلطة التنفيذية .
وقد اتسم القضاء الإداري بسرعة الفصل في المنازعات الادارية والبساطة في الاجراءات ضماناً لحسن المرافق العامة.
كما ان وجود قضاء متخصص يمارس الرقابة على اعمال السلطة التنفيذية يمثل ضمانة حقيقية لحقوق الافراد وحرياتهم في مواجهة تعسف الادارة ، وتتجلى اهمية وجود قضاء اداري متخصص للفصل في المنازعات الادارية في ان رقابة القضاء على اعمال الادارة تعتبر الجزاء الاكبر لمبدأ الشرعية والضمانة الفعالة لسلامة تطبيق القانون والتزام حدودة وبه تكتمل عناصر الدولة القانونية وحماية حقوق وحريات الافراد من جور وتعسف الادارة .
ومن الدول التي اتبعت اسلوب القضاء المزدوج الاردن والتي كانت في اول عهد تنظيمها القضائي تتخذ اسلوبا متميزا يتمثل في ازدواجية القانون ووحدة القضاء .
الا انها عدلت عن هذا التوجه بعد فصل محكمة العدل العليا عن محكمة التمييز بموجب القانون المؤقت رقم 11 لسنة 1989 حيث اصبحت الاردن من دول القضاء المزدج.
غير ان الاردن لازالل بحاجه الى دعم استقلال القضاء الاداري في الاردن وتفعيل دوره بالغاء الاستثناءات الواردة على ولاية محكمة العدل العليا في الغاء القرارات الادارية واعتبارها صاحبة الولاية العامة في نظر طلبات الافراد في الغاء القرارات الادارية لما في بقاء هذه الاستثناءات من تجاوز على مبدأ المشروعية وخضوع الادارة للقانون ، ويفتح المجال امام تعسفها وانتهاك حقوق الافراد وحرياتهم .
كما انه من الضروري ان يمنح المشرع الاردني للاداره سلطة الغاء احكام القوانين المؤقته المخالفه للدستور او الانظمه المخالفه للقانون او الدستور لامجرد تجميدها او وقف العمل باحكامها .
ويبرز دور القضاء الاداري عندما تتخذ الادارة مجموعة من الاجراءات والاوامر والقرارات بهدف المحافظة على النظام العام وقد تؤدي هذه الاجراءات الى فرض قيود على الحريات الفردية وحماية لمصلحة المجتمع .
مما يستدعي وضع حدود لاختصاصات الادارة في ممارستها لسلطات تقييد الحرية ويتم هذا من خلال الموازنة بين متطلبات النظام العام وضمان حقوق وحريات الافراد ، وقد درجت احكام القضاء الاداري على منح الادارة حرية واسعة في ممارسة سلطات ضبط او تقييد الحريات او كما يطلق عليها بسلطات الضبط الاداري ، غير انها اخضعتها في ذلك لرقابة القضاء الاداري من نواح عدة .
وفي هذا المجال نبين باختصار حدود سلطات الضبط الاداري في الاوقات العادية ثم نعرض لحدود هذه السلطة في الظروف الاستثنائية .
الفرع الاول : رقابة القضاء في الظروف العادية
تخضع سلطة الادارة في الظروف العادية لمبدأ المشروعية الذي يستدعي ان تكون الادارة خاضعة في جميع تصرفاتها للقانون ، وإلا كانت تصرفاتها وما تتخذه من قرارات باطلاً غير مشروعاً وتتمثل رقابة القضاء على سلطات الادارة في هذه الظروف فيما يلي :

أولاً :- الرقابة على الهدف .
يجب ان تتقيد الادارة بالهدف الذي من اجله قرر المشرع منحها هذه السلطات ، فليس للادارة تخطي هذا الهدف سواء كان عاماً ام خاصاً ، فاذا استخدمت سلطتها في تحقيق اغراض بعيدة عن حماية النظام العام . او سعت الى تحقيق مصلحة لا تدخل ضمن الاغراض التي قصدها المشرع فان ذلك يعد انحرافاً بالسلطة ويخضع قرار الادارة لرقابة القضاء المختص .
ثانياً : الرقابة على السبب .
يقصد بالسبب الظروف الخارجية التي دفعت الادارة الى التدخل واصدار قرارها ، ولا يعد تدخل الادارة مشروعاً إلا اذا كان مبنياً على اسباب صحيحة وجدية من شأنها ان تخل بالنظام العام بعناصره الثلاثة الامن العام والصحة العامة والسكينة العامة . وقد بسط القضاء الاداري رقابته على سبب القرار الضابط للحرية مثلما هو الحال في القرارات الادارية الاخرى وكما استقر عليه القضاء في فرنسا ومصر والاردن .
ثالثاً : الرقابة على الوسائل .
يجب ان تكون الوسائل التي استخدمتها الادارة مشروعة ، ومن القيود التي استقر القضاء على ضرورة اتباعها في استخدام الادارة لوسائل الضبط الاداري انه لا يجوز ان يترتب على استعمال هذه الوسائل تعطيل الحريات العامة بشكل مطلق لان ذلك يعد الغاء لهذه الحريات ، فالحفاظ على النظام العام لا يستلزم هذا الالغاء وانما يكتفي بتقييدها . ومن ثم يجب ان يكون الحظر نسبياً ، أي ان يكون قاصراً على زمان ومكان معينين . وعلى ذلك تكون القرارات الادارية التي تصدرها سلطة الضبط الاداري بمنع ممارسة نشاط عام منعاً عاماً ومطلقاً غير مشروعة.(13).
رابعاً :- رقابة الملائمة .
لا يكفي ان يكون قرار الضبط الاداري جائزاً قانوناً او انه صدر بناءً على اسباب جدية ، انما تتسع رقابة القضاء لبحث مدى اختيار الادارة الوسيلة الملائمة للتدخل ، فيجب ان لا تلجأ الى استخدام وسائل قاسية او لا تتلائم مع خطورة الظروف التي صدر فيها .
ومن الضروري ان نبين ان سلطة القضاء في الرقابة على الملائمة هي استثناء على القاعدة العامة في الرقابة على اعمال الادارة فالاصل هو استقلال الادارة في تقدير ملائمة قرارتها ، لكن بالنظر لخطورة قرارات الضبط على الحقوق والحريات فان القضاء يبسط رقابته على الملائمة .(14)
وفي هذا المجال لا يجوز مثلاً لرجال الامن ان يستخدموا اطلاق النار لتفريق تظاهرة في الوقت الذي كان استخدام الغاز المسيل للدموع او خراطيم المياه كافياً لتحقيق هذا الغرض .
الفرع الثاني :رقابة القضاء في الظروف الاستثنائية
قد تطرأ ظروف استثنائية تهدد سلامة الدولة كالحروب والكوارث الطبيعية ، وتجعلها عاجزة عن توفير وحماية النظام العام باستخدام القواعد والاجراءات السابق بيناها . وفي هذه الحالة لابد ان تتسع سلطات هيئات الضبط لمواجهة هذه الظروف من خلال تمكينها من اتخاذ اجراءات سريعة وحازمة لمواجهة الظرف الاستثنائي .
على ان الظرف الاستثنائي اياً كانت صورته حرباً او كوارث طبيعية لا يجعل الادارة في منأى من رقابة القضاء بشكل مطلق ، فلا يعدو ان يكون الامر توسعاً لقواعد المشروعية ، فالادارة تبقى مسؤولة في الظروف الاستثنائية على اساس الخطأ الذي وقع منها ، غير ان الخطأ في حالة الظروف الاستثنائية يقاس بميزان آخر غير ذلك الذي يقاس به الخطأ في الظروف العادية .

اولاً :- التنظيم القانوني لسلطة الضبط في الظروف الاستثنائية .
حيث ان نظام الظروف الاستثنائية من شأنه المساس المباشر بحقوق وحريات الافراد التي يكفلها الدستور ، فلابد ان يتدخل المشرع بتحديد ما اذا كان الظرف استثنائياً او لا ، ويتم ذلك باتباع اسلوبين :
الاول ان تصدر قوانين تنظم السلطات الإدارية في الظروف الاستثنائية بعد وقوعها ، ويتسم هذا الاسلوب بحماية حقوق الافراد وحرياتهم لانه يحرم السلطة التنفيذية من اللجوء الى سلطات الظروف الاستثنائية إلا بعد موافقة السلطة التشريعية ، ويعيبه ان هناك من الظروف الاستثنائية ما يقع بشكل مفاجئ لا يحتمل استصدار تلك التشريعات بالاجراءات الطويله المعتادة(15) ، بينما يتمخض الاسلوب الثاني عن وجود قوانين منظمة سلفاً لمعالجة الظروف الاستثنائية قبل قيامها ويرخص الدستور للسلطة التنفيذية باعلان حالة الظروف الاستثنائية والعمل بمقتضى هذا القانون .
ولا يخفي ما لهذا الاسلوب من عيوب تتمثل في احتمال اساءة الادارة سلطتها في اعلان حالة الظروف الاستثنائية في غير اوقاتها للاستفادة مما يمنحه لها المشرع من صلاحيات في تقيد الحريات الافراد وحقوقهم .
وقد اخذ المشرع الفرنسي بالاسلوب اذا منحت المادة السادسة عشرة من دستور الجمهورية الخامسة الصادر عام 1958 رئيس الجمهورية الفرنسية سلطات واسعة ، كذلك فعل المشرع الاردني في المواد 124 و125 من دستور عام 1952 فقد ورد في الماده 124 " اذا حدث مايستدعي الدفاع عن الوطن في حالة وقوع طواريء فيصدر قانون باسم قانون الدفاع تعطي بموجبه صلاحيه وقف قوانين الدوله العاديه لتامين الدفاع عن الوطن ويكون قانون الدفاع نافذ المفعول عندما يعلن عن ذالك باراده ملكيه تصدر بناء على قرار من مجلس الوزراء" .
ثانيا : الرقابة القضائية على سلطات الضبط في الظروف الاستثنائية .
يمارس القضاء الاداري دوراً مهماً في الرقابة على سلطات الادارة في الظروف الاستثنائية مع ان هذه السلطات تتسع بشكل كبير لمواجهة ما يهدد النظام العام وحسن سير المرافق العامة فقد وضع القضاء الاداري في فرنسا ومصر حدوداً لسلطات الضبط الاداري في ظل الظروف الاستثنائية ، حتى لا تتعسف الادارة في استعمال سلطاتها تلك او تنتهك حقوق وحريات الافراد(16) .
وفي هذا المجال لا يجوز ان تستخدم الادارة سلطاتها الاستثنائية دون ضابط ، كما ان التوسع في استخدام سلطات الضبط الاداري يجب ان يكون بالقدر اللازم لمواجهة خطورة الظرف الاستثنائي وان تتحدد ممارسة هذه السلطات بمدة الظرف الاستثنائي ولا يجوز ان تستمر فيه لمدة تزيد عن ذلك .
فالقاضي يراقب في هذه الظروف قرارات الادارة من حيث اسبابها والغاية التي ترمي اليها من اتخاذها ولا يتجاوز في رقابته الى العيوب الاخرى – الاختصاص والشكل والمحل – وهو ما استقر عليه القضاء الاداري في العديد من الدول(17) .
وعلى ذلك فان الظرف الاستثنائي ايا كانت صورته حرباً او كوارث طبيعية لا يجعل الادارة في منأى من رقابة القضاء بشكل مطلق ، فلا يعدو الامر ان يكون توسعاً لقواعد المشروعية . تأسيساً على مقولة "الضرورات تبيح المحضورات" .
ويمارس للقضاء الاداري دورا مهما في تحديد معالم نظرية الظروف الاستثنائية ، فان احكام القضاء الاداري في فرنسا ومصر قد قطعت شوطاً كبيراً في ذلك ، ووضعت شروط الاستفادة من هذه النظرية وبسطت الرقابة على الادارة في استخدام صلاحيتها الاستثنائية حماية لحقوق الافراد وحرياتهم وهذه الشروط هي :-
1- وجود ظرف استثنائي يهدد النظام العام وحسن سير المرافق العامة سواء تمثل هذا الظرف بقيام الحرب او اضطراب او كارثة طبيعية .
2- ان تعجز الادارة عن اداء وظيفتها باستخدام سلطتها في الظروف العادية فتلجأ لاستخدام سلطتها الاستثنائية التي توفرها هذه النظرية .
3- ان تحدد ممارسة السلطة الاستثنائية بمدة الظرف الاستثنائي فلا يجوز للادارة ان تستمر في الاستفادة من المشروعية الاستثنائية مدة تزيد على مدة الظرف الاستثنائي.(18)
4- ان يكون الاجراء المتخذ متوازناً مع خطورة الظرف الاستثنائي وفي حدود ما يقتضيه .
وللقضاء الاداري دور مهم في الرقابة على احترام الادارة لهذه الشروط وهو ما يميز هذه النظرية عن نظرية اعمال السيادة التي تعد خروجاً على مبدأ المشروعية ويمنع القضاء من الرقابة على الاعمال الصادرة استناداً اليها .
المطلب الثالث
رقابة الهيئات المستقلة لاعمال السلطة التنفيذية
استحدثت المتغيرات العالمية نظماًبديلة لتحقيق العدالة خارج النظام القضائي منها ما لا يفصل في النزاع كنظم الرقابة المستقلة ولجان التوفيق او الوساطة او حقوق الانسان ومنها ما يفصل في النزاع كما هو الحال في نظام التحكيم القائم على اتفاق الخصوم .
ويتماشى استحداث هذه النظم مع النتائج المترتبة على اتساع تدخل الدولة في نشاط الأفراد تحت شعارالحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة والتي تشكل غاية العمل الاداري ومناطه والتي تدور حولها مشرعية وعدم مشروعية تصرفات الادارة .
وقد كان الامر ملحاً لاتخاذ مواقف معينة لكبح جماح الادارة وردها الى الطريق القويم اذا ما انحرفت في ممارستها لامتيازاتها في مواجهة الافراد . وعزز هذه الضرورة زيادة شعور الافراد بعدم كفاية الوسائل التقليدية في الرقابة على اعمال الادارة وحماية حقوق الافراد وحرياتهم من جهة وللعيوب التي تكتنف تلك الوسائل من تعقيد في اجراءاتها وبطئها وتكاليفها الباهضة من جهة اخرى .
ومن الوسائل البديلة والتي اثبتت نجاحها في ممارسة مهمة الرقابة نظام الامبودسمان او المفوض البرلماني الذي انتشر في الدول الاوربية الاسكندنافية ونظام الوسيط الفرنسي والادعاء العام الاشتراكي وغيره من النظم الاخرى والتي سنتطرق اليها ونعرض لنظامها القانوني .

الفرع الاول : نظام لامبودسمان Omboudsman او المفوض البرلماني
الامبودسمان كلمة سويدية يراد بها المفوض او الممثل . وهو شخص مكلف من البرلمان بمراقبة الادارة والحكومة وحماية الافراد وحرياتهم(19) .
وقد استحدثت السويد هذا النظام في دستورها لعام 1809 ليكون وسيلة لتحقيق التوازن بين الافراد بين سلطة البرلمان والسلطة التنفيذية وللحد من تعسف هذه الاخيرة في استخدامها لامتيازاتها في مواجهة الافراد ، ومن اسباب ظهور هذا النظام في السويد هو ما عانته من صراعات بين الملك والبرلمان في تلك الفترة ، فتارة ينتصر الملك فيستقل بالسلطة بلا منازع وتارة اخرى ينتصر البرلمان فتقيد سلطة الملك الى اقصى حدها ، وقد ادت هذه الفوضى الى ضرورة استحداث نظام يحقق التوازن بين هاتين السلطتين فكان هذا النظام ما اصطلح عليه بالامبودسمان والذي تطور حتى بات يطلق عليه اسم ( حامي المواطن) فهو الشخص الذي يلجأ اليه المواطن طالباً حمايته وتدخله اذا ما صادفته مشاكل او صعوبات مع الحكومة او الجهات الادارية(20) .
وبالنظر للنجاح منقطع النظير لهذا النظام فقد اخذت الكثير من الدول بانظمة مشابهة له ففي عام 1919 اخذت به فلندا ثم الدنمارك بمقتضى دستورها لعام 1953 وتم اول انتخاب للامبودسمان فيها عام 1955 ثم نيوزلندا بمقتضى قانون سنة 1962 ومارس العمل فيها عام 1963 ثم اخذت به المملكة المتحدة في قانونها لعام 1967 واخذت كندا بهذا النظام عام 1967 ايضاً .
وقد استحدثت فرنسا قانوناً مشابهاً لنظام الامبودسمان السويدي اسمه الوسيط Lemediatair لانه يتوسط بين البرلمان والحكومة او لانه وسطاً بين الرقابة البرلمانية والقضائية . وجاء انشاء هذا النظام نتيجة لمناقشات ودراسات مستفيضة جعلته بصورة خاصة لا تطابق النظم السابقة ، وان كان يتمتع ببعض اختصاصات الامبودسمان ونراه جديراً بالدراسة ايضاً(21).
اولاً : النظام القانوني للامبودسمان او المفوض البرلماني .
صدر القانون رقم 928 لعام 1967 في 29/9/1967 متضمناً القواعد القانونية والاختصاصات للامبودسمان والتي نصت على ان يتم انتخاب الامبودسمان والذي من الممكن ان يكون قاضياً او موظفاً او استاذاً في القانون لمدة اربع سنوات بواسطة 48 عضواً من اعضاء البرلمان 24 من كل مجلس(22) .
وقبل عام 1915 سار العمل على انتخاب امبودسمان واحد يسمى Justitue omboudsman يمارس جميع الاختصاصات الموكلة له فيما يتعلق بالرقابة الادارية والمحاكم والقوات المسلحة ، لكن بعد هذا التاريخ اصبحت المسائل المتعلقة بالقوات المسلحة من اختصاص امبودسمان آخر .
وبموجب قانون التعديل في 28/9/1986 الغي التقسيم الثنائي الى عسكري ومدني وادمج عملهم في مكتب واحد برئاسة ثلاثة موظفين يسمى كل منهم Justitue omboudsman اختص احدهم بما يتعلق بحماية حريات الافراد وما يتعلق بالسجون ومؤسسات الاطفال والمسنين وذوي العاهات اما الثاني فيتعلق نشاطه بالرقابة على اعمال القوات المسلحة والضرائب ، ويتعلق الثالث بالرقابة على اعمال المحاكم ورجال الشرطة والامن المحلي واعمال الادارة(23) . هذا ويقدم الامبودسمان تقريراً سنوياً الى البرلمان يتضمن ما قام به من اعمال خلال تلك السنة .
ثانياً : اختصاصات المفوض البرلماني .
تنص المادة 96 من دستور السويد لعام 1908 (( للمفوض حق اقامة الدعوى امام المحاكم المختصة ضد من ارتكبوا اعمالاً مخالفة للقانون بسبب التحيز او المحسوبية او أي سبب آخر او أهملوا في تأدية واجباتهم على النحو المطلوب)) . وعلى هذا الاساس يمارس الامبودسمان اختصاصه في ثلاث مجالات .
1- الرقابة الادارية .
للمفوض البرلماني الحق في التدخل من تلقاء نفسه او بناء على شكوى يتلقاها من الافراد ، او باي وسيلة اخرى يعلم من خلالها بوقوع مخالفة كحقه باجراء التفتيش الدوري على المؤسسات الادارية وله في سبيل ذلك الحق في الاطلاع على المستندات والملفات وله ان يحظر المناقشات والمداولات التي تعقدها الاجهزة الادارية كما يملك استدعاء أي موظف ويستجوبه فيما ينسب اليه ، وله اقامت الدعوى على الموظفين المقصرين في اداء واجباتهم ومطالبتهم بالتعويض لمن لحقه ضرر من جراء التصرف غير الشرعي للادارة(24) .
كما يتمتع بصلاحية توجيه الادارة الى وجوب اتباع اسلوب معين في عملها تتدارك فيه خطأها ولو لم يكن منصوص علية في القانون الا انه يرى فيه تطبيقا لمبادئ العدالة فيه وروح القانون وضمانا لمصلحا الفرد من جهة والمصلحة العامة ممثلة بالادارة من جهة اخرى .
واختصاص الامبودسمان السويدي في هذا المجال شاملاً الا فيما يتعلق باالملك فهو مصون اما الوزراء فينحصر اختصاصة في تحريك الدعوى بحقهم اما مسائلتهم فهي من شأن البرلمان كما يخرج عن اختصاصاته اعضاء البرلمان والمواطنين العاديين(25).
2- الرقابة على جهاز القضاء
يختص المفوض البرلماني وفقا للدستور بالرقابة على القضاء وتطبيقهم لوظائفهم ومسائلتهم عن اخطائهم التي يقعون بها اثناء تنفيذهم لاعمالهم فيما يخص تأخير حسم الدعاوى او عدم محافظتهم على المستندات والسجلات وسوء تنفيذهم للاحكام او اخلالهم بالسلوك الواجب اتباعه في الجلسة او خارج المحكمة، كما يسأل الامبودسمان القضاة عن الاحكام الصادرة خلافا للقانون اذا كان الاخلال بسوء نية او كان الخطأ جسيما وله في هذا السبيل الالتقاء بالمتهمين والتأكد من عدم مرور وقت طويل على توقيفهم قبل محاكمتهم وزيارة المحاكم ومكاتب الادعاء العام .
ومن الدول التي اخذت بالرقابة على القضاء وجعلته من ضمن اختصاصات المفوض البرلماني فنلندا والدنمارك اما فرنسا ونيوزلندا والنروج والمملكة المتحدة والكثير من الدول الاخرى التي تاخذ بهذا النظام فانها لا تجيز هذا النوع من الرقابة على اساس مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والتقاليد والمبادئ الدستورية التي تحمي هذا الجهاز المهم وترفض اي تاثير خارجي عليه . الااننا لانجد في ممارسة هذه الرقابة خروجا على مبدا استقلال القضاء ، فرقابة الامبودسمان لاتساهم في اصدار الاحكام ولا تغير في مضمون قناعة القاضي واستقلاليته في اصدار قراراته ، وغاية ما في الامر هو الاشراف على الجانب الاداري من عمل القاضي كمدة تأجيله للدعاوى وفترة حسمها وأسلوب إدارته للجلسات والتزامه بقواعد المرافعات .
الا اذا تعلق الامر بمخالفة جسيمة للقانون وفي هذه الحالة لا يشكل الأمر خرقا للاستقلال بقدر ما يحقق الصالح العام .
3- الرقابة على القوات المسلحة
يراقب المفوض البرلماني في السويد القوات المسلحة ويهدف من ذلك الرقابة على الادارة العسكرية وحماية حقوق منتسبي القوات المسلحة ، وله في ذلك مراقبة تنفيذ القوانين والانظمة المتعلقة بالجيش ومراقبة الادارة الاقتصادية العسكرية واجهزة الرقابة الداخلية العسكرية كما يتعرض لمختلف الاخطاء التي تخل بحسن ادارة مرفق الدفاع الوطني .
وهو في ذلك يتمتع به الامبودسمان المدني من حق تلقي الشكوى واجراء التفتيش الدوري ، وقد لاقى هذا الاختصاص الرقابي للامبودسمان على القوات المسلحة الترحيب من الكثير من الدول التي اخذت بهذا النظام فأخذت به فنلندا والدنمارك والنرويج ، بل اقتصر عمل الامبودسمان الالماني wehrbe faen ftrgg على الشؤون العسكرية .
بينما امتنعت بعض الدول عن الاخذ بالرقابة على الامور العسكرية وقصرت اختصاصات المفوض البرلماني على الادارة المدنية فيها ومنها المملكة المتحدة وفرنسا والهند وبعض الدول الاخرى .
ثالثاً: الاجراءات المتبعة في عمل المفوض البرلماني procedures a respecter
يتلقى المفوض البرلماني الموضوع المراد بحثه اما عن طريق شكوى مباشرة من الافراد ، ولا يشترط في هذه الحالة شكل معين لتلك الشكوى وتسلم الشكوى الى مكتب المفوض باليد او بالبريد وبدون اي رسم . ويتكون هذا المكتب من رئيس المكتب وستة رؤساء لاقسام المكتب ، قسمان للقضاء وقسمان للمسائل الحربية وقسم للمسائل الخدمة المدنية ،واربع نواب رؤساء الى جانب ستة من الموظفين وهؤلاء من رجال القانون والقضاء ويعاونهم خمسة عشر كاتبا وسكرتيرا.
وقد يصل موضوع العمل المراد بحثه الى علم الامبودسمان عن طريق الجولات التفتيشية التي يقوم بأجرائها دورياً الى مختلف الاجهزه الادارية والمحاكم والقوات المسلحة لتأكد من قيام العاملين فيها بواجباتهم على الوجه الصحيح ، وقد يعلم الامبودسمان بتلك المخالفات عن طريق الصحافة وما تنشره من معلومات يتحقق من صحتها ويمارس اختصاصه في مواجهة المقصرين . للتأكد من صحة الشكوى وصلاحية نظرها من قبله ، على عكس الامر في السويد وفنلندا والنرويج والكثير من الدول الاخرى التي اخذت بالنظام المفوض البرلماني والتي سمحت بالتصال المباشر بين الافراد والمفوض .
هذا ويملك الامبودسمان السويدي سلطة اتهام اي موظف او قاضي وتقديمه للمحاكمة اذا وجد انه ارتكب خطأ او خرقا يستوجب مسائلته بالإضافة إلى المقترحات والتوصيات التي يوجهها للإدارة .
اما الوسيلة الأكثر فعالية فهي التقرير السنوي المقدم الى البرلمان في بعض الدول ورئيس الجمهورية في بعض الدول الأخرى ، والذي يتعين نشره علناً ، وهو أمر ذو تأثير على الادارة اذ يجعلها موضع للمسائلة والاختبار فهو يؤثر على ثقة الافراد بالإدارة والتي يسعى الوزراء الى كسبها دائماً .

رابعاً: تقييم نظام المفوض البرلماني .
يتمتع هذا النظام بخصائص مهمة تميزه عن سائر وسائل الرقابة فهو على العكس الرقابة القضائية لا يتطلب اي رسوم او مصاريف كما يتمتع بصفة السرعة التي تفتقر اليها الرقابة القضائية بالإضافة الى عدم اشتراطه اي شكلية في تقديم الشكاوى اليه. فهو يراقب موضوع الملائمة في اصدار الادارة بقراراتها في مواجهة الأفراد ويستمد سلطته تلك من مبادئ العدالة والقيم العليا للمجتمع بالإضافة الى ما يتمتع به من اختصاصات مهمة في مجال السلطة التشريعية وإسهامه في اقتراح وتعديل التشريعات على وفق ما يلائم التطبيق السليم لها في المجتمع بأسلوب يحفظ حقوق وحريات الأفراد ويمنع المساس بها إلا بالقدر الذي يسمح به القانون تحقيق لصالح العام .
الا انه يؤخذ على هذا النظام انه ليس ملزما باتخاذ أجراء معين في الشكوى المرفوعة اليه كما انه لا يتمتع بسلطة إصدار قرارات ملزمه للإدارة وغاية الأمر انه يوجهها الى إتباع أسلوب معين في تعاملها مع الأفراد ومن خلاله يطلب تعديل او إلغاء قراراتها ، فسلطته أدبية في هذا الشأن .
الفرع الثاني : نظام الادعاء العام الاشتراكي المصري.
أخذت مصر بهذا النظام كأسلوب للرقابة على الجهاز الإداري فيها فقد نص الدستور المصري لعام 1971 في المادة 179 منه على ان ( يكون المدعي العام الاشتراكي مسؤول عن اتخاذ الإجراءات التي تكفل تأمين حقوق الشعب وسلامة المجتمع ونظامه السياسي والحفاظ على المكاسب الاشتراكية والتزام السلوك الاشتراكي ويحدد القانون الاختصاصات الأخرى ويكون خاضع لرقابة مجلس الشعب).
اولاً : اختصاصات المدعي العام الاشتراكي :
صدر القانون رقم 95 لسنة 1980 ليحدد اختصاصات المدعي العام الاشتراكي ومن الاختصاصات في هذا القانون ( حماية القيم السياسية للمجتمع وتطبيق المبادئ المقررة في الدستور والقانون والتي تهدف الى حماية حقوق الشعب وقيمه الدينية والمقومات الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والحفاظ على الطابع الاصيل للاسرة المصرية ، وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد حماية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي ). كما نصت المادة 15 من القانون المذكور على ان يقدم المدعي العام الاشتراكي الى رئيس الجمهورية ومجلس الشعب تقريراً سنوياً عما قام به من اعمال ، وما اجراه من تحقيق وما اتخذ من اجراءات ، وله ان يشير في التقرير الى ما يراه من اقتراحات لحماية النظام السياسي بالدولة او لمعالجة اي ثغرات في القوانين او النظم الخاصة بحماية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي .
كما يتولى المدعي العام الاشتراكي سلطة التحقيق والادعاء امام محكمة القيم بالنسبة للمسؤولية الناشئة من الانفعال المنصوص عليها في هذا القانون بناء على ما يصل الى عمله او بناء على ابلاغ احد المواطنين او احد ماموري الضبط .
كما يتمتع باختصاص التحقيق بالموضوعات التي تمس مصلحة عامة للمواطنين بناء على تكليف من رئيس الجمهورية او مجلس الشعب او بناء على طلب من رئيس الوزراء .
ويبدو ان هذا النظام يتمتع بالكثير من اختصاصات المفوض البرلماني فهو انشأ ليكون اداة للمحافظة على الحرية والمبادئ الأساسية التي يقدمها الأفراد دينياً وسياسياً واجتماعياً وتوجيه السلطة لما يساعد في سد الثغرات التشريعية في النظم القائمة لما فيه من حماية لحقوق وحريات المواطنين .
إلا إنه يختلف عن المفوض البرلماني في صبغته السياسية من خلال سعيه إلى تطبيق النظام السياسي في الدولة وضمانه لتنفيذ السياسة العامة لها ، ولا أدل على ذلك انه يعين بقرار من رئيس السلطة التنفيذية ، الأمر الذي قاد في النهاية إلى توسيع اختصاصاته ليكون أداة في يد النظام السياسي في مواجهة والأفراد بدلاً من ان يكون عوناً لهم لاسيما اختصاصه بإصدار قرارات المنع من التصرف والتداعي أمام محكمة الحراسة لغرض الحراسة والتحفظ على الأشخاص المفروضة عليهم . مما استدعى إعادة النظر في القانون رقم 95 لسنة 1980 الذي عرف بقانون حماية القيم والذي تم إلغائه وبالقانون رقم 221 لسنة 1994 .
وبصدور القرار بقانون رقم 221 لسنة 1994 لم يبق للمدعي الاشتراكي إلا ثلاثة اختصاصات هي :
1- الحراسة على الأموال : كان المدعي العام الاشتراكي يختص بالاستناد إلى القانون رقم 34 لسنة 1971 بأجراء التحقيقات المتعلقة بالأموال والتحفظ على الأشخاص إلا إن هذه المادة ألغيت وأصبحت الحراسة تلاحق المال فقط(26) .
2- التحقيق في تخلف او زوال شرط من شروط تأسيس الأحزاب وفقاً للمادة 17 من قانون الأحزاب رقم 40 لسنة 1977 .
3- التحقيق فيما يكلف به من موضوعات من رئيس الجمهورية أو مجلس الشعب او بناء على طلب من رئيس مجلس الوزراء وفقاً للقانون رقم 95 لسنة 1980 ولائحة مجلس الشعب .
ثانياً : الطبيعة القانونية لاختصاصات المدعي العام الاشتراكي .
أثارت مسألة تحديد الطبيعة القانونية لاختصاصات المدعي العام الاشتراكي في مصر اختلافاً في الفقه والقضاء ، فقد ذهب البعض الى ان هذا الجهاز جزء من السلطة القضائية في حين ذهب آخرون الى انه جزء من السلطة التنفيذية بينما ذهب البعض إلى انه جزء من السلطة التشريعية .
اعتمد الاتجاه الأول على أساس ممارسة المدعي العام جانباً من اختصاصات السلطة القضائية كالادعاء والتحقيق في الدعاوي التي تختص بها محكمة القيم وقد لاقى هذا الاتجاه بعض التأييد في أحكام القضاء(27).
غير ان هذا القول محل نظر من حيث ان المدعي العام الاشتراكي يتمتع بالكثير من الاختصاصات غير القضائية كما انه يختار من أعضاء السلطة القضائية مثلما يمكن أن يختار من غيرها . كما انه لا يتمتع بالضمانات التي يتمتع بها أعضاء السلطة القضائية فهو يعين ويعزل بقرار من مجلس الشعب وبناء على اقتراح من رئيس بالجمهورية(28).
من جهة أخرى لا يمكن اعتبار المدعي العام الاشتراكي جزء من السلطة التنفيذية بحكم خضوعه لمجلس الشعب على النحو الذي نظمه الدستور والقانون . مثلما لا يمكن اعتباره جزء من السلطة التشريعية لعدم ممارسته للوظيفة التشريعية .
ومن ذلك يتبين ان المدعي العام الاشتراكي جهاز يتمتع باختصاصات متنوعة منها ما هو ذي طبيعة قضائية ومنها ما هو ذو طبيعة سياسية ومنها ما هو ذو طبيعة إدارية ، وهو جهاز يتبع مجلس الشعب ويخضع له ولا يمكن القول باستقلاليته عنه مثلما لا يمكن القول باستقلاليته عن السلطة التنفيذية ومن ثم هو يقترب من نظام الامبودسمان السويدي.
الفرع الثالث : نظام الوسيط في فرنسا .
وفقاً لهذا النظام يعين وسيط الجمهورية Lemediateur de la Republique لمدة ست سنوات غير قابلة للتجديد بمرسوم من رئيس الجمهورية باقتراح وموافقة مجلس الوزراء ، وهو ما تنص عليه المادة الثانية من القانون وهو لا يستطيع ان يمارس مهامه التي حددها القانون إلا بعد حصوله على التدريب اللازم .
ولا يمكن عزل الوسيط خلال هذه المادة او إنهاء ممارسة أعمال وظيفته إلا عندنا يتعذر عليه القيام بواجباته الوظيفية ويترك أمر تقرير ذلك الى لجنة مكونة من نائب رئيس مجلس إدارة الدولة ورئيس محكمة النقض ورئيس ديوان الرقابة المالية ويتخذ القرار وبالإجماع .
ويتمتع الوسيط باستقلال تام فلا يتلقى اي تعليمات من اي سلطة ولا يمكن إلقاء القبض عليه او ملاحقته او توقيفه او حجزه بسبب أعمال وظيفته او الآراء التي يدلي بها(29).
اولاً : اختصاصات الوسيط .
تحدد المادة الأولى من القانون رقم 6 في 3/1/1973 اختصاصات وسيط الجمهورية في تلقي الشكاوى المقدمة من الأفراد ذوي العلاقة مع الإدارات الحكومية والمؤسسات العامة والمحلية وكافة المرافق التي تقدم الخدمات العامة .
بينما اجاز القانون الصادر في 6/2/1992 للأشخاص المعنوية كالشركات والنقابات والهيئات المحلية اللجوء الى الوسيط على ان يشترط في من يلجأ للوسيط سواء أكان شخصاً طبيعياً ام معنوياً ان يكون له مصلحة وفي ذلك يختلف نظام الوسيط الفرنسي عن نظام الامبودسمان السويدي .
كما يملك الوسيط تقديم التوجيهات المؤدية الى تحسين مستوى اداء الإدارة وتسهيل حل المواضيع محل النزاع وتوجيه الادارة الى اتباع أسلوب معين في العمل . ويحدد الوسيط مدة معينة تجيب الإدارة على هذا التوجيه فاذا امتنعت عن الإجابة او رفضت الرأي المقترح يرفع الوسيط تقريراً بذلك الى رئيس الجمهورية .
هذا وقد أوجب المشرع الفرنسي على الموظفين الإجابة على أسئلة واستفسارات الوسيط وله في ذلك ان يطلب من الوزراء تسليم المستندات والملفات التي تخص الموضوعات التي يبحثها ، ولا يجوز لهم الامتناع عن ذلك وان كانت الملفات سرية إلا إذا تعلق الامر بالدفاع الوطني او المصالح السياسية العليا للدولة(30) .
ويخرج من اختصاصات الوسيط على وفق نص المادة 8 من قانون عام 1973 اعمال الادارة المتعلقة بالمنازعات ذات الطابع الوظيفي بسبب إناطة الفصل بها الى مجلس الدولة وحسبه كفيلاً بتوفير الحماية اللازمة للموظفين .

ثانياً : الإجراءات المتبعة في عمل الوسيط .
من الجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي استلزم تقديم تظلم إلى جهة الإدارة قبل تقديم الشكوى امام الوسيط للتخفيف عن كاهله ولإتاحة الفرصة للإدارة لتصحيح أخطائها ، كما ان تقديم الشكوى الى الوسيط لا يقطع المدة المحددة للطعن امام القضاء الإداري والمحددة بشهرين وعلى هذا الأساس لا مانع من تقديم الطعن امام القضاء في نفس الوقت الذي تقدم فيه الشكوى امام الوسيط .
فاذا تبين للوسيط صحة الشكوى او وجاهة الطلب فيها يقوم الوسيط بتقديم التوصيات او المقترحات الى الادارة المشكو منها ويبين ما يراه ضرورياً لتجاوز موضوع الشكوى ويقدم الحلول التي يراها ملائمة ، فاذا لم يتوصل الى جواب من الإدارة خلال المدة التي حددها للاجابة يمكنه عندئذ ان يعلن عن تلك التوصيات من خلال وسائل الإعلام او من خلال تقريره السنوي الذي يعلنه لرئيس الجمهورية والبرلمان ، وفي ذلك إحراج للإدارة ، بالإضافة إلى ذلك للوسيط ان يطلب احالة الموظف المقصر للقضاء المختص .
وعلى الرغم من ان الوسيط في فرنسا لا يستطيع أن يحل محل الإدارة في إزا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:16 pm

الفصل السادس
الحماية الدولية لحقوق الإنسان

إذا كانت القوانين الداخلية قد اهتمت بحقوق الإنسان بقصد توفير وسائل حماية فعالة لها، فان النظام القانوني الدولي قد فعل الشيء نفسه بعد ان تكونت القناعة لدى دول العالم المختلفة ونظراً لما عاناه الإنسان في القرن العشرين تحديداً من ويلات وآلام نتجت عن حربين عالميتين فقد بدء اهتمام القانون الدولي بالفرد من خلال صيغ وأشكال مختلفة منها الاهتمام بتفاصيل الحقوق والحريات التي نادى بها المفكرون والفلاسفة وتبنتها الدساتير واعلانات الحقوق فضلاً عن خلق آليات للحماية مقررة لمصلحة الفرد في مواجهة الدولة، والحقيقة ان كل هذا العمل قديم طبقاً للوسائل الدولية، أي الأساليب التي يعبر بها النظام القانوني الدولي عن أفكار واتجاهات أشخاصه وهم الدول والمنظمات الدولية فكانت المعاهدات والأعراف والمبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتمدنة.
ان البوادر الأولى لوجود نوع من الحماية لحقوق الإنسان دولياً محددة الأهداف وذات فكرة واضحة قد ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا أمر ارتبط حتى قبل هذا التاريخ بتحديد مركز الفرد في القانون الدولي.
وبقصد توضيح الجوانب المختلفة لتطور الحماية الدولية لحقوق الإنسان سنقوم بالبحث في هذه الجوانب أو المظاهر المتعددة طبقاً للمباحث الآتية:


المبحث الأول
تطور موقف القانون الدولي من الفرد وحقوقه
لم يكن الموقع الذي يشغله الفرد حالياً في النظام القانوني الدولي قد حصل عليه دفعة واحدة، فالقانون التقليدي الذي ينظم العلاقات بين الدول لم يكن يسمح للفرد بأية مساحة ولو كانت محدودة في بنيانه إلا ان المسالة لم تعد كذلك مع بدايات القرن العشرين، وقد تجلت أولى ملامح هذا التغيير بعد انشاء عصبة الأمم التي لعبت دوراً في مجال التعامل مع الشخصية الإنسانية، ومن ثم سنتعرض في هذا المبحث للوضع القانوني الذي يتمتع به الفرد في ظل النظام القانوني الدولي التقليدي والتطورات التي حدثت في عهد عصبة الأمم.

المطلب الأول
موقع الفرد في النظام القانوني الدولي التقليدي
ظلت الدولة القومية منذ إبرام معاهدة صلح وستفاليا عام 1648 هي اللاعب المباشر والوحيد على مستوى العلاقات الدولية باعتبارها الشخص الوحيد للقانون الدولي وما يعنيه ذلك من القدرة على التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات التي يفرضها النظام القانوني الذي يحكم العلاقات بين الدول، وقد ترتب على هذا الأمر حقيقتين: الأولى ان الدولة كانت تصنع قواعد القانون الدولي وتخضع لها، والثاني ان مبدأ السيادة كان يعتبر طيلة هذه الفترة هو المبدأ الأساسي أو الحاكم المنظم للعلاقات المتبادلة فيما بين الجماعة الدولية.(1)
ومع ذلك فان الحقيقة المتقدمة لم تمنع المتخصصين في العلوم الإنسانية ومنها القانون الدولي من الاهتمام بحماية حقوق الإنسان الأساسية، فوضع الفرد في القانون الدولي على وجه التحديد كان ومازال موضع نقاش منذ ظهور القانون الدولي التقليدي، ولكن النتائج كانت تقود بصورة دائمة الى إنكار أي دور للفرد يلعبه بصورة مباشرة في النظام القانوني الدولي، رغم الاعتراف بانه يمثل الوحدة الإنسانية التي يقوم ويرتكز عليها أي نظام قانوني، فالقانون الدولي بقي ينظر إلى الفرد باعتباره مجرد شيء لا يمكن ان يتمتع بأي حقوق أو يلتزم بأي واجب بصورة مباشرة، وهكذا كان الفرد العادي بما له من حقوق وما عليه من التزامات مستبعداً من دائرة القانون الدولي فهو أحد مواضيع هذا القانون لا أحد أشخاصه، وكان يحق لصاحب السلطان أو الملك الذي يدين له الأفراد بالولاء والطاعة السهر على حماية مصالح رعاياه في الخارج دون ان يترتب على ذلك أي واجب تجاهه إذ ان الملك عندما يقرر حماية رعاياه في الخارج فهو يفعل ذلك من منطلق حقه الخاص.
ورأت بعض الدول الأوربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على وجه التحديد وبعد ان اتسعت تجاربها وعلاقاتها مع بعض الدول انه من الضروري ان تقوم بعقد معاهدات تتضمن احكاماً محددة تقضي بحماية مجموعة معينة من رعاياها، وهو ما قامت به المملكة المتحدة التي أبرمت عدة معاهدات مع المغرب وافق بموجبها على وجه التحديد على معاملة جميع رعاياه من مسيحيين وغير مسيحيين على قدم المساواة.(2)
ان المرحلة التي بدأت مع تكون أولى قواعد القانون الدولي في العصر الحديث فيما يتعلق بمركز الفرد حصل فيها نوع من التكوين لقيم مشتركة ومفاهيم متفق عليها على المستوى الدولي عبر جهود فكرية ذات طابع قانوني.
على المستوى الفقهي يمكن الحديث عن اتجاهين يتحدد بموجبها الموقف من الفرد، الاتجاه الأول يرى ان الفرد يتمتع بالشخصية الدولية سواء كانوا من المنتمين لمدرسة القانون الطبيعي أو من الذين ينتمون لمدرسة القانون الموضوعي، فانصار مدرسة القانون الطبيعي يؤمنون بوحدة القانون ولا يترددون عن الاعتراف بالشخصية القانونية الدولية للفرد إذ انهم يرون ان القواعد القانونية يجب ان تتفق وتنسجم مع الطبيعة العاقلة للإنسان حيث يرى جروشيوس ان الأفراد هم أشخاص القانون الداخلي والدولي مما يترتب عليه الاعتراف لهم بحقوق طبيعية أساسية، كالحق في مقاومة الظلم، والحق في الملاحة عبر البحار، والحق في تملك الأقاليم التي لا سيادة عليها، والحق في شراء الأشياء الضرورية بثمن عادل، كما يتحمل الأفراد بعض الالتزامات وقت الحرب، كالالتزام بعدم الاشتراك في الحرب غير العادلة، أو الحق في عقد الاتفاقات مع الدول، مثل الاتفاق الذي يبرمه أسير الحرب مع الدولة في نظير تحريره.
وأنصار مدرسة القانون الموضوعي يعترفون للفرد بالشخصية القانونية الدولية كذلك لأنهم يعتقدون بضرورة تخليص القانون من الأفكار والافتراضات والشوائب التي علقت به نتيجة ظروف التطور التي مر بها، فيرون ان الدولة مجرد حيلة قانونية أو صياغة قانونية قائمة على الافتراض، وهي منحت الشخصية القانونية بناءً على هذا الأساس وان الشخص الحقيقي للنظامين القانونيين الداخلي والدولي هو الفرد، وهم يأخذون كذلك بوحدة القانون.(3)
الاتجاه الثاني عبرت عنه المذاهب الوضعية، وهؤلاء يرون عدم امكانية الاعتراف للفرد بأي دور في القانون الدولي، فالأخير عبارة عن نظام قانوني يهتم بالدول ولا يجوز ان تعنى المعاهدات الدولية بالأفراد كما انه ليس للفرد حقوق ولا التزامات في القانون الدولي.(4)
وانسجاماً مع الاتجاه الأول (مدرسة القانون الطبيعي ومدرسة القانون الموضوعي) فقد ظهر تعزيز لدور الفرد في نطاق القانون الدولي حيث تم القضاء على محاولات تشبيه الإنسان بالأرض أو السلع عن طريق تحريم الرق منذ انعقاد مؤتمر برلين عام 1855 الذي قاد إلى إبرام اتفاقية برلين التي جعلت من تجارة الرقيق عملاً غير مشروع في القانون الدولي العام، وألزمت الدول الأطراف فيها بالقضاء على هذه الظاهرة، كما تم تحريم الاتجار بالمخدرات حيث أبرمت اتفاقية دولية عام 1912 وأخرى عام 1926 وتعاقبت بعدها الاتفاقيات التي اهتمت بهذا الموضوع فضلاً عن اهتمام القانون الدولي بمكافحة الأمراض والأوبئة حيث أنشئ مكتب الصحة الدولي عام 1903 وفي عام 1904 أنشئ مكتب مماثل بين الدول الأمريكية، وهما يعدان الأساس التاريخي لوجود منظمة الصحة العالمية، وكان هناك اهتمام دولي بحماية الملكية الأدبية والفنية والصناعية للفرد منذ عام 1883 حيث أبرمت اتفاقية دولية بهذا الخصوص.(5)
ومع كل ما تقدم فان الحقيقة هي ان القانون الدولي التقليدي كان عاجزاً عن تقديم حماية حقيقية للفرد في مواجهة سلطات دولية في ظل سطوة مبدأ السيادة إلا في الحالات التي يطبق فيها القانون الداخلي مبدأ الاندماج الذاتي الذي يعتبر القاعدة القانونية الدولية بعد اندماجها في النظام القانوني الداخلي جزءاً من الأخير وبالتالي فهي سوف تتمتع بقوة القواعد الدستورية الوطنية.(6)
المطلب الثاني
حقوق الإنسان في ظل عصبة الأمم
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما خلفته هذه الحرب من مآسي وويلات، اتفقت الدول المنتصرة في الحرب على إنشاء منظمة عصبة الأمم، وجاءت معاهدات السلام التي أبرمها الحلفاء مع دول المحور الخاسرة متضمنة لنظام العصبة الذي لا تضم نصوصه تنظيماً قانونياً محدداً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية بل على العكس من ذلك إذ قوبل اقتراح الرئيس الأمريكي ولسون تضمين عهد العصبة نصاً بشأن المساواة الدينية بالرفض، ولكن معاهدات الصلح تضمنت للمرة الأولى نظاماً دولياً لحقوق الإنسان تعلق بالاقليات القومية التي تعيش بصورة أساسية ضمن الدول الجديدة أو القديمة التي كانت قائمة قبل الحرب إلا انها توسعت بضم أقاليم جديدة إليها كتشيكوسلوفاكيا، وبولندا، ويوغسلافيا، ورومانيا، واليونان، وكذلك على بعض الدول المهزومة والتي نشأت من أنقاضها (تركيا وإمبراطورية النمسا والمجر وبلغاريا).(7)
من جانب آخر بذلت جهود صينية يابانية في مؤتمر الصلح الذي أعقب الحرب كانت تهدف إلى ضرورة تضمين ميثاق العصبة النص على التزام أعضائها بالتسوية في المعاملة بين الأجانب دون تفرقة أساسها الأصل أو الجنس إلا ان هذه الجهود لم تثمر، وفي عام 1933 وأثناء مناقشة قضية الأقليات ومعاملة اليهود في ألمانيا، تقدمت هاييتي باقتراح إلى جمعية العصبة يهدف إلى ان تعبر الجمعية عن أملها في إبرام اتفاقية دولية لضمان حقوق الإنسان، ولم تتخذ خطوات جدية باتجاه إبرام مثل هذه المعاهدة.(Cool
فنظام حماية الأقليات عبر عن الاهتمام بحقوق الإنسان في ظل عصبة الأمم، وهو نظام لم يذكر في ميثاق العصبة إلا بالنسبة للدول المهزومة أو الدول الجديدة التي ظهرت بعد انهيار الإمبراطوريات القديمة وأعفت الدول المنتصرة من الخضوع لهذا النظام الذي ذكر في المادتين 86 و 93 من معاهدة فرساي، وكان الهدف الأساسي من المعاهدات الخاصة بالاقليات تأمين التمتع بصورة قانونية وفعلية بالحقوق الأساسية المعترف بها للفرد في جميع الدول المتحضرة مثل حماية الأشخاص المنتمين لهذه الاقليات، وتأمين حريتهم، وكرامتهم، والمساواة في المعاملة بينهم وبين غالبية السكان، وقد احيلت بعض المشاكل المتعلقة بالاقليات إلى محكمة العدل الدولية الدائمة كالمسالة المتعلقة بالأقلية الألمانية في بولندا، وفيما يخص حالة الألمان المقيمين في بولندا حددت المحكمة مفهومها لكلمة المساواة إذ أكدت ان هذه الكلمة استعملت في المعاهدات الخاصة بالاقليات لتعني المساواة الفعلية وليست الشكلية، وقد تعني هذه الكلمة كذلك لكي تستفيد أية أقلية من المساواة الحقيقية في المعاملة ضرورة منحها معاملة تفضيلية بالنسبة لما تعامل به الغالبية التي تعيش الأقلية بينها.(9)
ان التطبيق الفعلي لنظام الأقليات وضع في الأشكال الآتية:
1. معاهدات الأقليات، وهي معاهدات خاصة أبرمت بين الحلفاء وكل من يوغسلافيا ورومانيا واليونان وتشيكوسلوفاكيا وبولندا.
2. نصوص خاصة بحماية الأقليات وضعت في معاهدات الصلح التي أبرمت مع النمسا وبلغاريا والمجر وتركيا.
3. نصوص خاصة بحماية الأقليات وضعت في معاهدات ثنائية أبرمت بين بعض الدول كالمعاهدة المبرمة بين بولندا وتشيكوسلوفاكيا عام 1921.
4. تصريحات صادرة من جانب واحد قامت بها بعض الدول عندما انضمت إلى عصبة الأمم كالتصريحات الصادرة عن فنلندا وألبانيا والعراق باحترام حقوق الأقليات عند انضمام كل منها إلى عصبة الأمم.
أما الضمانات الخاصة لحقوق الأقليات فكانت على ثلاثة أنواع:
1. ان المعاهدات الدولية وغيرها من الوثائق القانونية التي نصت على حماية حقوق الأقليات لم تكن تخضع للتغير أو الإلغاء إلا بموافقة مجلس العصبة.
2. أجازت هذه المعاهدات للأقليات التقدم بشكاوى إلى مجلس العصبة الذي يملك الحق بتوجيه ملاحظات للدول المشكو منها.
3. ان الجهة المختصة بتفسير نصوص هذه المعاهدات أو تطبيقها هي محكمة العدل الدولية الدائمة.(10)
فهذا النظام الذي يهدف إلى منع التمييز بين الأغلبية والأقليات هو نفسه كان قائماً على التمييز بين الدول المنتصرة المطالبة بتطبيق هذا النظام والدول المهزومة التي فرض عليها هذا النظام، كما سمح هذا النظام بتدخل بعض الدول بشؤون الدول الأخرى بحجة حماية الأقليات، وقد انهار نظام الأقليات مع انهيار عصبة الأمم إذ انه كان نظاماً مرتبطاً بها.
إلا انه مع ذلك فان حقوق الاقليات قد تم حمايتها ضمن الحماية المقررة لحقوق الإنسان في الاتفاقيات المعنية بهذه المسالة، وقد صدر إعلان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يتعلق بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات وأصبحت هناك آليات لحماية وتعزيز حقوق الاقليات في ظل الأمم المتحدة.
أما دستور منظمة العمل الدولية الذي تم النص عليه في معاهدة فرساي وكافة معاهدات السلام التي أعقبت الحرب فقد تضمن في مقدمته ما يلي:
(لما كان الغرض من عصبة الأمم إقامة السلام العالمي، وكان هذا الغرض لا يمكن تحقيقه إلا على أساس من العدل الاجتماعي، ولما كانت توجد ظروف للعمل تتضمن لعدد كبير من الأشخاص الظلم، والبؤس، والحرمان، مما يولد سخطاً يؤدي إلى تهديد السلام والتناسق العالمي. ولما كان من الواجب العمل عاجلاً على تحسين تلك الظروف … لذا فان الدول المتعاقدة، مدفوعة بشعور العدل والإنسانية وبالرغبة في توطيد سلام عالمي، قد اتفقت على إنشاء منظمة دائمة لتحقيق تلك الأغراض).
ويكمن الهدف الأساسي للمنظمة في العمل على تحقيق الرفاهية للعمال ماديا ومعنوياً وثقافياً، وهي تعمل على تحيقيق هذه الأهداف من خلال خلق قانون عالمي موحد يضمن حقوق العمال بعقد الاتفاقيات الدولية والتوصيات التي تصدر عن مؤتمر العمل الدولي أحد أهم أجهزة المنظمة، وهو ينعقد سنوياً في مقر المنظمة في جنيف.(11)
ويشمل نشاط المنظمة مسائل هامة مختلفة تنصب بصورة أساسية على مجموعة الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي كالعمالة، والبطالة، والشروط العامة للعامل، وشروط تشغيل الأطفال والنساء، والمسائل المتعلقة بصحة العمال وأمنهم وضماناتهم الاجتماعية، والعلاقة بين أصحاب العمل والعمال، وسياسة التشريع الاجتماعي ولا يقتصر دور هذه المنظمة على عقد الاتفاقيات وإصدار التوصيات المتعلقة بشؤون العمال لكنها ساهمت بدور مهم في إعداد التشريعات الوطنية الخاصة بحقوق العمال.(12)
وقد تأكدت مبادئ وأغراض المنظمة في الإعلان الخاص بأهداف وأغراض منظمة العمل الدولية الذي أقره المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية بمدينة فيلادلفيا عام 1944 وقد أدمج هذا الإعلان بشكل ملحق في دستور المنظمة طبقاً لتعديل تم سنة 1946 حيث أكد هذا الإعلان المبادئ التي قامت عليها المنظمة، ومنها على وجه الخصوص ان العمل ليس سلعة، وان حرية الرأي وحرية الاجتماع لا غنى عنهما لأطراد التقدم، وان الفقر أينما وجد يولد خطراً يهدد الرفاهية في كل مكان وبعد مراجعة دستور المنظمة في مدينة مونتريال عام 1946 أعلن ان لجميع البشر بصرف النظر عن فوارق الجنس أو العقيدة الحق في تحقيق رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف عيش تكفل الحرية والكرامة والاستقرار الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وهكذا فقد أصبح الحق في الرفاهية هدفاً أساسياً تضمنه إعلان رسمي.(13)

المبحث الثاني
حماية حقوق الإنسان في ظل منظمة الأمم المتحدة
اتجهت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية إلى العمل على إقامة نظام دولي بهدف تحقيق السلام والرفاهية، وقد عمل ميثاق الأمم المتحدة على تحقيق هذه المبادئ والأهداف عن طريق خلق مناخ دولي مناسب وظروف ملائمة لعلاقات دولية مبنية على السلم، وهذا ما يمكن ان يتحقق من خلال احترام المساواة في الحقوق بين الشعوب، وان يكون لكل منها تقرير مصيرها، وتعزيز حقوق الإنسان وحرياته بدون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو اللغة أو الدين دون تفرقة بين الرجال والنساء، وقد عملت الأمم المتحدة بهذا الاتجاه وتكون نتيجة لهذه الجهود ما عاد يعرف اليوم بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.

المطلب الأول
حقوق الإنسان في الميثاق
تضمن ميثاق الأمم المتحدة العديد من المواضع التي أشارت إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان سواء المضامين التي وردت في الديباجة أو في نصوص الميثاق ذاته.
الفرع الاول- ديباجة الميثاق
تضمنت الديباجة مبدأين يمثلان في نظر واضعي الميثاق الجزء الأساسي في تحقيق الهدف الذي قامت عليه الأمم المتحدة وهو حفظ الأمن والسلم الدوليين، وهذا الهدف لا يتحقق دون احترام حقوق الإنسان أفراداً وجماعات دون تمييز، فضلاً عن احترام المساواة بين الدول صغيرها وكبيرها، وهو العنصر الأول لتحقيق أهداف المنظمة الدولية، أما العنصر الثاني فيؤكد على ضرورة احترام العدالة والالتزامات الدولية.
وترى الديباجة ان الضمانة الحقيقية لاحترام هذه القواعد لا تكمن في الانصياع لها بتأثير عنصر الجزاء الذي قد يقترن بها لكن الالتزام الحقيقي بها ينبع من قيام المخاطبين بهذه القواعد بصورة طوعية وبحسن نية باحترامها، ومن ثم فان هذا المبدأ يعد الضمانة لاحترام ما ورد في الديباجة من مبادئ.
وهنا يجوز لنا ان نتساءل عن الأثر القانوني أو القيمة القانونية للمبادئ الواردة في ديباجة الميثاق؟
انقسم الفقه الدولي إلى اتجاهين للإجابة عن السؤال المتقدم، فذهب الاتجاه الأول إلى ان الديباجة لا تفرض التزامات محددة على عاتق الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث ان أثرها يقتصر على توضيح السبب الذي قامت الأمم المتحدة من أجله كما انها تساعد على تفسير التزامات الدول الأطراف في الميثاق وتحديد مضمونها، دون ان تكون بمفردها مصدراً لالتزامات محددة على عاتق الدول.
أما الاتجاه الثاني فيذهب إلى عدم جواز التفرقة بين القيمة القانونية للديباجة، وما تتمتع به من إلزام، وبين ما جاء في المادتين الأولى والثانية من الميثاق المتضمنتين لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها حيث ان العبرة ليست بالموضع الذي يأتي فيه الحكم أو الشكل الذي يتخذه، وإنما العبرة بحقيقته ومضمونه، كما ان هناك أفكاراً أساسية قامت عليها الأمم المتحدة تتعلق بحقوق الإنسان لا نجدها إلا في الديباجة فضلاً عن ان نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الإنسان لا تعكس هذه الفلسفة أو الأفكار، ومن ثم فإن الخروج بنظرة شاملة وصحيحة عن موقف الميثاق من حقوق الإنسان لا يتحقق إلا إذا فسرت هذه النصوص طبقاً لعدة اعتبارات منها ان الحرب العالمية الثانية كانت في جوهرها حرباً ضد العنصرية كما ان الديباجة قد تحدثت عن الشعوب كطرف أساسي في النظام القانوني الدولي وربطت الديباجة كذلك بين تحقيق حقوق الإنسان والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما كرسته المادة (55) من الميثاق.(14)
ان ديباجة الميثاق قد تطرقت لحقوق الإنسان متضمنة العبارات الآتية (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا ان ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وان نؤكد من جديد ايماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية …… وان ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وان نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح …. وان نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها….).
الفرع الثاني- حقوق الإنسان في نصوص الميثاق
عالج ميثاق الأمم المتحدة حقوق الإنسان في الديباجة وفي المواد 1، 13، 55، 56، 62، 68، 76 ولعل أهم هذه المواد هي 1، 55، 56.

فالمادة (1) تجعل من حقوق الإنسان احدى أهداف الأم المتحدة فضلاً عن ان الدول الأعضاء تلتزم بالتعاون مع المنظمة الدولية لتحقيق الهدف المشار إليه، واحترام الالتزامات الواردة في المادة (55) من الميثاق حول الاحترام العالمي لهذه الحقوق، وهكذا فان الميثاق يلزم الدول الأعضاء والمنظمة بالعمل على احترام حقوق الإنسان كافة، ولا تستطيع أية دولة ان تتحلل من التزاماتها المتعلقة بهذه الحقوق بحجة ان ما تقوم به يعد من مسائل الاختصاص الداخلي للدول التي تنظم على المستوى الوطني فقط من الناحية التشريعية والقضائية.(15)
أي ان ميثاق الأمم المتحدة لم يعتبر المشاكل ذات الصلة بحقوق الإنسان من الأمور الداخلة في صميم الاختصاص الداخلي للدول الأعضاء في المنظمة بل على العكس من ذلك حيث يكفي ان يكون الأمر معروضاً عليها ليثير اهتماماً دولياً ليثبت اختصاصها، ولقد اعتبرت الأمم المتحدة جميع المسائل التي تعرض عليها ذات الصلة بحقوق الإنسان حتى ولو تعلق الأمر بمعاملة دولة لرعاياها من المسائل الدولية وتستطيع بحثها دون ان يمنعها ذلك قيد الاختصاص الداخلي المنصوص عليه في المادة (2) فقرة (7) من الميثاق(16) التي نصت على (ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء ان يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على ان هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع).
أما المادة (55) من الميثاق فهي ترسي نوعاً من العلاقة بين تحقيق الأمن والسلم الدوليين وبين ضرورة العمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين احترام وضمان حقوق الإنسان، والحقيقة ان هذه المادة بصياغتها الحالية تفرض مجموعة من الالتزامات على الأمم المتحدة وأجهزتها مضمونها ضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير إيجابية لتحقيق هذه الغاية عن طريق البحث عن آليات أو وسائل تحقيق هذه الأهداف فالمادة (55) تنص على (رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبان يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على:
(أ) تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
(ب) تقديم الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.
(ج) ان يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً).
فضلاً عما تقدم فان المادة (56) من الميثاق قد فرضت التزاماً على الدول الأعضاء في المنظمة الدولية بان يقوموا منفردين أو مجتمعين بما يجب عليهم من عمل لتحقيق الأهداف المنصوص عليها في المادة (55) وبالتعاون مع الأمم المتحدة.
الفرع الثالث- أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان
أناط الميثاق الجزء الأكبر من المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان إلى الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي إلا ان ذلك لم يلغِ دور الأجهزة الأخرى، وهو ما سيتوضح طبقاً للتفصيل الآتي:
أولاً: الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي
تعد الجمعية العامة ثاني أهم جهاز بعد مجلس الأمن الدولي وهي بالدرجة الأساس جهاز للمداولة والإشراف والاستعراض لأعمال الأجهزة الأخرى، وبقدر تعلق الأمر بحقوق الإنسان فان المادة الثالثة عشرة من الميثاق تنص على قيام الأمم المتحدة بإنشاء دراسات وعمل توصيات بقصد (إنماء التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية، والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة بلا تمييز بينهم في الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء) وتنشأ الجمعية العامة طبقاً للمادة (22) من الميثاق ما تراه ضرورياً من الأجهزة الفرعية للقيام بوظائفها، ومن هذه الأجهزة لجنة القانون الدولي، واللجنة الخاصة لمناهضة التمييز العنصري، واللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف وغيرها، … .
أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي وهو جهاز متخصص في المسائل الاقتصادية والاجتماعية، فهو طبقاً للمادة الستون يعمل تحت إشراف الجمعية العامة، وهي جهاز سياسي بالدرجة الأساس، وطبقاً للمادة (62/2) من الميثاق فان للمجلس ان يقدم توصيات فيما يتعلق بإشاعة ونشر واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية ومراعاتها فضلاً عن تقديم دراسات في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة وتقديم توصيات إلى الجمعية العامة وأعضاء الأمم المتحدة وإلى الوكالات ذات الشأن وإعداد مشاريع القوانين في المواضيع التي تدخل تحت اختصاصه ومنحت المادة (68) من الميثاق المجلس الاقتصادي والاجتماعي الحق بإنشاء لجان تعنى بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز حقوق الإنسان وغيرها من اللجان التي قد يحتاج إليها لتأدية وظائفه، وهو ما قام به المجلس بصورة فعلية فأنشأ عدداً كبيراً من الأجهزة الفرعية التابعة له لتعمل ضمن وظائفه، وهذا ما دعا الجمعية العامة لإنشاء لجنة خاصة لتنسيق العمل بين هذه الأجهزة الفرعية.(17)
ومن أهم اللجان التي أنشأت من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي التي تهتم بهذا الموضوع هي لجنة حقوق الإنسان التي تتمتع بنظام قانوني خاص بها إذ انها الوحيدة التي خصها الميثاق بحكم تضمنته المادة (68) (ينشئ المجلس الاقتصادي لجاناً للشؤون الاقتصادية والاجتماعية ولتقرير حقوق الإنسان كما ينشئ غير ذلك من اللجان التي قد يحتاج إليها لتأدية وظائفه) والحقيقة ان هذه اللجنة قد تم إنشائها طبقاً لقرارين أصدرهما المجلس الاقتصادي والاجتماعي أولهما القرار رقم 5/1 الصادر في نيسان 1946 وبموجبه تم إنشاء لجنة حقوق الإنسان من تسعة أعضاء لتقوم بتقديم التقارير إلى المجلس المذكور كما تقدم له المقترحات والتوصيات في مسائل حقوق الإنسان وحماية الحريات الأساسية في صورة إعلانات أو مشروعات معاهدات، أما ثانيهما فهو الصادر في 12 يونيو 1946 والذي يحمل الرقم (9) وبموجبه حدد كيفية تشكيل هذه اللجنة واختصاصاتها التي لم تكن شاملة في جميع مسائل حقوق الإنسان، وفي مواجهة كافة أجهزة الأمم المتحدة وإنما تحدد اختصاصها على تقديم مقترحات وتوصيات إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، و كانت تتكون من (53) عضواً ينتخبون لمدة 3 سنوات على أساس التوزيع الجغرافي العادل، و كانت اللجنة تستطيع ان تنشئ أجهزة فرعية تابعة لها إذا كان ذلك ضرورياً لأداء وظائفها، وقامت بذلك فعلاً وأنشأت ثلاثة أجهزة فرعية لها عام 1946 هي اللجنة الفرعية لحرية الإعلام، واللجنة الفرعية لحماية الأقليات، واللجنة الفرعية للقضاء على التمييز العنصري، واختصرت هذه اللجان إلى لجنة واحدة هي اللجنة الفرعية لمقاومة التمييز العنصري وحماية الاقليات وتتكون من (26) عضواً.(18)
وقد ساهمت لجنة حقوق الانسان خلال الستين عاما الماضيه من عمرها بانجازات كبيره في مجال احترام حقوق الانسان الا ان الكثير من السلبيات رافقت عملها, مما استدعى الى تاسيس جهاز اخر ليحل محلها هو مجلس حقوق الانسان .
ثانيا: مجلس حقوق الانسان
لتجاوز السلبيات التي رافقت عمل لجنة حقوق الانسان بسبب تسييسها والانتقائيه والازدواجيه في تقاريرها وطريقة اختيار اعضائها , وفي ضوء السعي المتزايد لاصلاح الامم المتحده ومؤسساتها ولتفعيل احترام مبادئ حقوق الانسان , اقرت الجمعيه العامه للامم المتحده في 15/3/2006 تاسيس مجلس حقوق الانسان ليحل محل لجنة حقوق الانسان , وقد صوتت 170 دوله لصالح القرار من مجموع 191 دوله بينما عارضته اربعة دول هي الولايات المتحده الامريكيه واسرائيل وجزر مارشال وبالاو , وامتنعت ثلاثة دول اخرى عن التصويت هي ايران وبيلوروسيا وفنزويلا .
ومن المقرر ان يتبع هذا المجلس الجمعيه العامه مباشره مما يعطيه منزله رفيعه تتناسب مع اهمية الوظيفه الموكله به ويتجاوز مشكلة الارتباط بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي التي طالما عانت منها اللجنه سابقا .
وقد نص القرار على ان يتم اختيار اعضاء المجلس البالغ عددهم 47 عضوا بالاقتراع الفردي السري وبالاغلبيه المطلقه لاعضاء الجمعيه العامه , اي حوالي 96 صوتا . ويشترط في اختيار الاعضاء ان يلتزمو ا باحترام المعايير الدوليه لحقوق الانسان ,مع امكانية اسقاط العضويه باغلبية ثلثي عدد اعضاء الجمعيه العامه في حالة انتهاك هذه المعايير .
ومن الجدير بالذكر ان مدة عضوية المجلس هي ثلاثة سنوات قابله للتجديد مره واحده فقط , ويتم اختيار الاعضاء على اساس التوزيع الجغرافي العادل بواقع 13 مقعدا لافريفيا و13 مقعدا لآسيا وستة مقاعد لاوربا الشرقيه وسبعة مقاعد لدول اوربا الغربيه بما فيها الولايات المتحده الامريكيه وكندا ونيوزلندا و استراليا وثمانية مقاعد لدول امريكا الاتينيه والكاريبي .
ويعقد المجلس اجتماعاته في مقره الدائم في جنيف ومن المقرر ان يعقد ثلاثة اجتماعات في السنه على الاقل ولمدة عشرة اسابيع وليس ستة اسابيع كما كان عليه الامر في عهد اللجنه, كما يملك المجلس الاجتماع في اي وقت آخر للنصدي للازمات الطارئه في مجال حقوق الانسان .
ومن المنتظر ان يساهم المجلس في تعزيز الاحترام الدولي لحقوق الانسان ويساهم في تجاوز الانتقائيه في التعامل مع انتهاكات بعض الدول لمعايير حقوق الانسان التي كانت سائده في ظل لجنة حقوق الانسان .
كما سيساهم في تقديم التوصيات الى الجمعيه العامه بما يؤدي الى مواصلة تطوير القانون الدولي في مجال حقوق الانسان, وسيستعرض بشكل دوري شامل وموثق مدى وفاء كل من الدول الاعضاء بالتزاماته وتعهداته في مجال حقوق الانسان على نحو من المساواة والعداله .


ثالثا : الأجهزة الأخرى
يعد مجلس الأمن الدولي الجهاز الرئيسي في المنظمة الدولية الذي عهد إليه بمهمة حفظ الأمن والسلم الدوليين طبقاً لما ورد في المادة (24) من الميثاق، ومجلس الأمن الدولي مطالب في المادة المذكورة ان يعمل بالانسجام مع مبادئ الأمم المتحدة وواحداً منها (م1/3) هو (تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بينهم بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين) وقد بحث المجلس الكثير من المشاكل ذات المساس بحقوق الإنسان منها تقارير عن تعذيب المسجونين السياسين ووفاة عدد من المحتجزين وتصاعد موجات القمع ضد الأفراد والمنظمات ووسائل الإعلام في جنوب أفريقيا (القرار 417 لسنة 1977) وعدم توفير إسرائيل الحماية الملائمة للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة (القرار 471 لسنة 1980).(19)
كما أصدر مجلس الأمن قراره المرقم 808 بتاريخ 22/2/1993 القاضي بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في أراضي يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991 ومن أخطر هذه الجرائم جرائم التطهير العرقي التي تعد شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية ثم أصدر المجلس قراره المرقم 955 في 8/11/1994 القاضي بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة في رواندا.(20)
أما الأمانة العامة فلها مركز يسمى مركز حقوق الإنسان يشكل حلقة الوصل بين أعمال الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وفّر هذا المركز مجموعة من الخدمات التي تقدمها الأمانة العامة لأجهزة الأمم المتحدة المهتمة بحقوق الإنسان.(21)
كذلك تلعب محكمة العدل الدولية دوراً في هذا المجال(22) فضلاً عن الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة كمنظمة اليونسكو (1945) التي تستهدف بصورة أساسية ضمان حق الإنسان في التربية والتعليم والثقافة، ومنظمة الصحة العالمية (1946) التي تسعى إلى ضمان حق كل إنسان في الصحة، ومنظمة التغذية والزراعة التي تستهدف تحرير الإنسان من الجوع، والاتحاد الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية الذي يعمل على تنظيم حرية المراسلة بجميع أشكالها، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية التي تسعى إلى ضمان الحق في الملكية الفكرية.
مما تقدم يبدو واضحاً ان هناك دور معين تلعبه منظمة الأمم المتحدة في مجال حماية حقوق الإنسان وبأشكال مختلفة من خلال أجهزة المنظمة وبالتعاون مع الدول الأعضاء فيها إلا ان هذا الدور يبقى في إطار تشجيع وتطوير قضية حقوق الإنسان فهي لا تتدخل لحماية هذه الحقوق إلا في حالة وجود انتهاك لها من شأنه تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر.


المطلب الثاني
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

جاء هذا الإعلان متضمناً مقدمة وثلاثين مادة، ووافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إصداره بالإجماع يوم 10 كانون الأول 1948 وهو يعد من أكثر الإعلانات شهرة، وأكثرها إثارة للجدل والنقاش، وهناك وجه شبه بين هذا الإعلان وإعلانات الحقوق الداخلية كالإعلان الفرنسي الصادر عام 1789 وإعلان الحقوق والاستقلال الأمريكي لسنة 1776 وهو أول إعلان دولي لحقوق الإنسان إتصف بالشمول إلى حدٍ ما.
تشير المادتان الأولى والثانية من هذا الإعلان إلى ان جميع الناس دونما تمييز يولدون أحراراً ومتساويين في الكرامة والحقوق ثم تم تعداد المبادئ الأساسية للمساواة وعدم التمييز عند التمتع بالحقوق والحريات الأساسية، وبعدها تعدد المواد التسع عشرة التالية الحقوق المدنية والسياسية التي يحق لكل إنسان التمتع بها، ومنها الحق في الحياة والحرية والأمن الشخصي، والحرية من العبودية والرق، وعدم الخضوع للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، والاعتراف بالشخصية القانونية لكل إنسان كما نص الإعلان على ان الناس متساوون أمام القانون، ويمكن لأي إنسان اللجوء إلى القضاء أو المحاكم الوطنية للانتصاف من أية أعمال تنتهك حقوق الإنسان، وعدم التعرض إلى الاعتقال أو الاحتجاز أو النفي على نحو تعسفي فضلاً عن تثبيت المبدأ الذي مضمونه ان المتهم برئ حتى تثبت إدانته، والحق في التمتع بجنسية، والحق في الزواج وتأسيس أسرة، وحرية الفكر والضمير والدين، وحق التملك، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الاشتراك في الاجتماعات، والحق في المشاركة في الشؤون العامة لبلده وغيرها من الحقوق.
أما المواد من 22-28 فهي تنص على مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تشتمل على الحق في الضمان الاجتماعي، والحق في العمل وحرية اختيار العمل، والحق في الحصول على أجر متساوٍ ومكافأة عادلة ومرضية تكفل له ولأسرته عيشة لائقة فضلاً عن الحق في إنشاء النقابات والانضمام إليها، والحق في الراحة والرعاية في مجالات المرض أو البطالة أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة، والحق في التعليم، وغيرها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

أما المادة 28 فهي تنص على ان لكل فرد الحق بالتمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن ان تتحقق في ظله الحقوق والحريات التي جاء بها هذا الإعلان بينما تؤكد المادة 29 على ان كل فرد تقع عليه واجبات ازاء المجتمع ولا تخضع حقوق أي فرد إلا للقيود التي يقررها القانون ولا يجوز هدم كل هذه الحقوق بأي شكل عن طريق تفسير نص على نحو يفيد انه يتضمن مثل هذا الأمر، فالإعلان أشار إلى ان الحقوق الواردة فيه ليست مطلقة وللدولة ان تصدر القوانين التي ترسم بموجبها حدود هذه الحقوق بشرط ان يكون الهدف الوحيد من هذه القوانين ضمان الاعتراف والاحترام بهذه الحقوق للآخرين فضلاً عن احترام النظام العام والآداب العامة والرفاهية في مجتمع ديمقراطي، بينما نصت المادة 30 على انه (ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على انه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه).
الفرع الأول-القيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان
يذهب الاتجاه الراجح في الفقه الدولي إلى ان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يتمتع بقوة الإلزام طالما لم يأخذ صورة معاهدة دولية حيث أخذ صورة توصية صادرة عن الجمعية العامة، وهي تشبه بعض المواد التحذيرية الواردة في دساتير دول العالم الثالث كدستور غينيا 1958 والجزائر 1963 والكاميرون 1972 التي تؤكد اخلاصها والتزامها بالمبادئ الواردة في الإعلان فضلاً عن ان المادة الثانية والعشرون من الإعلان تقر بأن تحقيق الحقوق المنصوص عليها يجب ان يتم من خلال التنظيم القانوني الداخلي لكل دولة وحسب مواردها، وقد ضمت بعض الدول إلى قوانينها المحلية فقرات من الإعلان كما ان اتفاقيات دولية ضمت جميع الحقوق التي جاء بها هذا الإعلان.(23)
وقد أنكرت المحكمة العليا الأمريكية الصفة الإلزامية للإعلان، وكذلك فعل مجلس الدولة الفرنسي(24)، عليه فانه طبقاً للاتجاه المتقدم فان الإعلان هو تعبير عن مثل قال عنها أحد الرواد في مجال حقوق الإنسان انه يجب ان تصبح هذه المثل على مر السنين مبادئ قانونية تعترف بها وتطبقها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهذا الكلام قيل لأن نص الإعلان جاء مبهماً لا يتضمن أية توصيات للدول الأعضاء أو إحكاما تحدد الوسائل القانونية الدولية التي يمكن اللجوء إليها في حالة انتهاك حقوق الإنسان.(25)
ومن الفقهاء الذين ينكرون تمتع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بقوة ملزمة الفقيه الفرنسي شومون الذي يؤكد ان الإعلان يردد بعض الحقوق دون ذكر امور محددة إذ انه يشير مثلاً إلى الحق في الحياة أو العمل أو في ان تكون له جنسية، ولكنه في الوقت نفسه لا يذكر على أي نحو يستطيع التمتع بهذه الحقوق، ويرى هذا الفقيه ان الحقوق الواردة في الإعلان لا تتحدد ملامحها إلا باتخاذ إجراءات وطنية أو دولية لاحقة كإصدار تشريعات مختلفة تكون كفيلة بوضع هذه الحقوق حيز التنفيذ أو عن طريق إبرام اتفاقيات دولية تفصل هذه الحقوق وتنص على آليات لاحترامها وتحقيقها من الناحية العملية.(26)
الاتجاه الثاني يقول بتمتع هذه الوثيقة بقوة إلزام في حدود معينة، وهو يؤدي إذا ما توافرت شروط معينة إلى تكوين وارساء قواعد قانونية تلتزم الدول بها عن طريق العرف الدولي.(27)
وفريق آخر ضمن الاتجاه الثاني يقول ان الإعلان يتضمن تفسيراً رسمياً أو تحديداً لمضمون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية المشار إليها في الميثاق، وأخذ بهذا التفسير اتجاه فقهي وحكومي منها ما أعرب عنه ممثل فرنسا، ومن بين الوثائق الرسمية التي أخذت بهذا الاتجاه إعلان طهران لسنة 1969 الصادر عن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان الذي حضرته وفود من مائة دولة.(28)
وقبل ذلك اشارت إعلانات مؤتمر باندونغ عام 1955 فضلاً عن قرارات صادرة عن المؤتمرات التي عقدت في أمريكا اللاتينية لهذا الإعلان، وكان له أثر كبير في الاتفاقيات الدولية، وأشير إليه في العديد من أحكام المحاكم الوطنية التي تبين بشكل واضح ممارسات الدول، وهذه تشارك في تطوير القانون الدولي المعاصر ولعل الدور المتفق عليه الذي يقوم به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان انه يمثل (المستوى المشترك) فهو المرشد أحياناً في تفسير القوانين الوطنية وتطبيقها، ويستشهد به باعتباره دليلاً على وجود قانون حديث طور التكوين في مجال حماية حقوق الإنسان وحريات الأفراد الأساسية.(29)
وخلاصة ما تقدم ان من الصعب تجريد إعلان عام 1948 من أية قيمة قانونية فضلاً عن تأثيراته الفكرية على مستوى المشرع الوطني والدولي، فقد حرصت بعض الدول مثلاً على الإشارة إلى أنها تلتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في دساتيرها بل ان دولة بيرو قد تبنت نصوصه كاملة بموجب قانون أصدرته عام 1959 فضلاً عن أن محكمة العدل الدولية قد أشارت في العديد من أحكامها وفتاويها إلى هذا الإعلان والحقوق التي جاء بها كالقرار الصادر في قضية شركة برشلونة تراكشن عام 1970 فضلاً عن قرارات أخرى كما ان الصفة الإلزامية يمكن الدفاع عنها إذا ما قبلنا وجهة النظر التي مضمونها ان المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان تعد قواعد آمرة في النظام القانوني الدولي.(30)

الفرع الثاني- السمات الأساسية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان
يتميز هذا الإعلان بالسمات الآتية:
1. لا يختلف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كثيراً في صياغته عن الأسلوب الفرنسي المتبع في مثل هذه الإعلانات، إذ انه لا يُفَصِلْ في توضيح مضمون الحق الذي يثبته للإنسان، كما لا يرسم صورة واضحة له لكنه يكتفي بوضع المبدأ العام أو الاتجاه العام لمضمونه، ومع ذلك فهو يأخذ في بعض الأحيان بالاتجاه الانكلوسكسوني الذي يعبر عن صياغة اكثر تفصيلاً، فهو لا يكتفي بذكر مضمون الحق بصورة عامة لكنه يحدد مضمونه، ومن الأمثلة على الصياغة الشبيهة بالاتجاه الانكلوسكسوني يمكن الإشارة إلى المادة (2) بشأن عدم التمييز التي نصت على (لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلاً عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلاً أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود).
والمادة (18) بشأن حرية التفكير التي نصت (لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة)، والمادة (25) بخصوص حق كل إنسان في مستوى جيد من المعيشة حيث تنص على (1- لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته. 2- للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين، وينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية سواء أكانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعي أم بطريقة غير شرعية.)

2. يؤكد الإعلان على الحقوق الفردية التقليدية ولا تحتل الحقوق ذات الطابع الاقتصادي الاجتماعي والثقافي سوى مكاناً متواضعاً فيه وهذا مرده لأسباب سياسية نظراً لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على المنظمة وقت إصدار الإعلان مما ترتب عليه تغليب المفهوم الليبرالي على المفهوم الماركسي للحريات، ومع ذلك فان مفهوماً وسطاً تم تبنيه في العديد من الصياغات الواردة في الإعلان فمقدمته مثلاً تتحدث عن عالم حر انبثق حديثاً يتمتع به الفرد بصورة فعليه لا نظرية بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة، وهذه صياغة ترضي الدول الاشتراكية بينما تأخذ المادة الأولى من الإعلان ذاته بالمذهب الفردي وبنظرية الحقوق الطبيعية إذ تنص على (يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق).
وكذلك الحال مع المادة (17) التي توفق بين الفكرين الليبرالي والماركسي حيث تنص على (لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره)، ولا نجد من جهة أخرى أي ذكر لحق الإضراب الذي لا تقره الدول الشيوعية كما لا نجد إشارة إلى حرية التجارة والصناعة المقررة في الدول الرأسمالية، فهذا السكوت هو نوع من التوفيق كذلك.
3. ان نصوص الإعلان عالمية النزعة فهي موجهة إلى الإنسان أينما وجد بغض النظر عن ديانته ولونه وجنسه، وجنسيته أي انه إعلان لا يحمل السمة الوطنية لدولة معينة أو الخصائص المميزة لأمة معينة طالما انه يتجاوز نطاق الدولة الواحدة.
المطلب الثالث
العهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان لعام 1966
المقصود بالعهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان هما الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الثقافية، وكذلك الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية اللتين اقرتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها المرقم 2200 أ (د-21) فضلاً عن البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية والخاص باستلام ودراسة تبليغات الأفراد الذين يدعون بانهم ضحايا الاعتداء على الحقوق المنصوص عليها في العهد، وقد بدأ نفاذ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بتاريخ 3 كانون الثاني 1976 في حين دخلت الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية بتاريخ 23 آذار 1976 بتمام تصديق خمس وثلاثين دولة على كل منهما وهو ما قضت به المادة (49) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة (27) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودخل البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية حيز التنفيذ في الوقت ذات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 372
تاريخ التسجيل : 16/10/2008
العمر : 53
الموقع : https://elngdy.yoo7.com/

المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Empty
مُساهمةموضوع: رد: المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي    المدخل لدراسة حقوق الإنسان     الدكتور                            الدكتور   مازن ليلو راضي             حيدر ادهم عبد الهادي  Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 3:24 pm


والحقيقة ان ميثاق الأمم المتحدة يحظر كذلك الممارسات التميزية بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين في المواد (1/3) و (13/ب) و (55/ج) و (76/ج) وهذا هو الحال بالنسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يمنع أي تمييز بسبب اللون … أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر طبقاً لمادته الثانية، وتكرر هذه الاعتبارات في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المواد 2/1 ، 24/1) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 2/2).
وتتطرق الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لمجموعة من الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية منها حق الوصول إلى كافة الأماكن والمرافق المعدة للاستخدام العام كوسائط النقل والفنادق والمطاعم والمنتزهات، وغيرها من الحقوق المدنية الأخرى التي تعددها المادة (5/د) وهي على وجه التحديد الحق في حرية التنقل واختيار السكن وحق مغادرة أي بلد وحق العودة إليه بما فيه بلد الشخص نفسه.(38)
وتحدد المادة (2) من الاتفاقية التزامات الدول الأطراف فيها للقضاء على سائر أشكال التفرقة بالآتي:
1. تتعهد كل دولة طرف في الاتفاقية بالامتناع عن القيام بأي عمل أو ممارسة أي إجراء يتضمن تمييزاً ضد الأشخاص أو المؤسسات، كما ان الدول الأطراف تضمن ان تعمل سلطاتها ومؤسساتها الوطنية طبقاً لهذا الالتزام.
2. تلتزم كل دولة طرف في الاتفاقية بعدم دعم الممارسات التميزية التي تمارس من قبل أي شخص أو منظمة، وعدم الدفاع عنه أو تأييده.
3. تلتزم كل دولة طرف في الاتفاقية باتخاذ الإجراءات الفعالة بهدف مراجعة السياسيات الحكومية، وتعديل أو إلغاء أو إبطال أية قوانين أو لوائح يكون من نتائجها خلق أو إبقاء التمييز العنصري أينما وجد.
4. تلتزم كل دولة طرف في الاتفاقية بمنع التمييز العنصري، وان تنهي كافة الوسائل بما في ذلك التشريع هذه المسالة الممارسة من قبل أي شخص أو مجموعة أو منظمة.
5. تلتزم كل دولة طرف في الاتفاقية بتشجيع المنظمات والحركات الاندماجية المتعددة الأجناس، وغيرها من أساليب إزالة العوائق بين الأجناس المتعددة كلما كان ذلك مناسباً فضلاً عن عدم تشجيع كل ما من شأنه تقوية الانقسام العنصري.(39)
وتلزم الاتفاقية (المادة 6) كل دولة طرف فيها ان تؤمن لكل شخص خاضع لولايتها الحماية الفعلية عن طريق توفير سبل الانتصاف إذا ما تعرض لفعل يشكل خرقاً للاتفاقية، وما جاءت به من حقوق فردية وحريات أساسية سواء أمام المحاكم الوطنية أو أية هيئات حكومية أخرى مختصة ويحق لكل شخص انتهكت حقوقه المضمونة في هذه الاتفاقية المطالبة بالتعويض عن الضرر.
أما المادة (Cool من الاتفاقية فقد أكدت على المبدأ الذي نصت عليه المادة (2/3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمتمثل بقيام النظم القانونية الوطنية أو المحلية بتأمين حق رفع الدعوى ضد أي خرق لحقوق الإنسان، كما تنص الاتفاقية على إنشاء لجنة من أجل القضاء على التمييز العنصري تتكون من (18) خبيراً مشهوداً لهم بعدم التحيز والخلق العالي تختارهم الدول الأطراف من بين رعاياها تقوم بالأعمال الآتية:
أ- فحص التقارير التي تتسلمها من الحكومات وتقديم التوصيات والاقتراحات بصددها.
ب- التوصل إلى تسويات بصدد بعض المنازعات الدولية المتعلقة بتطبيق الاتفاقية.
ج- استلام وفحص البلاغات الصادرة عن أشخاص أو مجموعات من الأشخاص يشكون من اعتداء وقع عليهم من جانب دولة طرف اشتركت في الإعلان المنصوص عليه في المادة (14) من الاتفاقية.
د- التعاون مع أجهزة الأمم المتحدة المختصة فيما يتعلق بالتظلمات الصادرة عن سكان الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي.(40)
ثانياً: التنظيم الخاص بالوضع القانوني للمرأة
ساوى ميثاق الأمم المتحدة بين الرجل والمرأة بعبارات وردت في ديباجته والتي أكدت على ان شعوب الأمم المتحدة قد آلت على نفسها (ان تؤكد من جديد إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء …… من حقوق متساوية) ، وأكدت المادة (1) من الميثاق على عدم وجود تفريق بين الرجال والنساء في مساعي الأمم المتحدة المتعلقة بتعزيز احترام حقوق الإنسان، وهذا النهج سارت عليه نصوص الميثاق الأخرى كالمواد (Cool و (13) و (55) و (76) ، وينص العهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان لعام 1966 على مبدأ عدم التمييز بين الرجل والمرأة وورد هذا المبدأ في صكوك دولية متعددة تناولت الحقوق الخاصة بالمرأة، كاتفاقية الحقوق السياسية للمرأة، والاتفاقية الدولية بشأن جنسية المرأة المتزوجة، والاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والاعراف والممارسات الشبيهة بالرق.(41)
ان أبرز الاتفاقيات التي نظمت الوضع القانوني للمرأة المتعلق بحقوقها وحرياتها هي اتفاقية الحقوق السياسية للمرأة التي وافقت عليها الجمعية العامة عام 1952 والتي أشارت مقدمتها إلى رغبة الدول في احترام مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة.(42)
كما تضمنت أحكامها المساواة بين الرجال والنساء وحق التصويت في جميع الانتخابات بشروط متساوية (المادة 1) بينما نصت المادة (2) على ان (للنساء أهلية في ان يتم انتخابهن لجميع الهيئات المنتخبة بالاقتراع المنشأة بمقتضى التشريع الوطني بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون أي تمييز).
أما المادة (3) فقد أشارت إلى حق النساء وأهليتهن في تقلد المناصب العامة وممارسة جميع الوظائف العامة المنشأة بمقتضى التشريع الوطني بشروط متساوية مع الرجال ودون تمييز.(43)

الاتفاقية الثانية التي أنصبت على مكافحة التمييز ضد المرأة تعرف باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي اعتمدتها الجمعية العامة في 18 كانون الأول 1979 والتي دخلت حيز التنفيذ بتاريخ 3 أيلول 1981 حيث تم انشاء لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة طبقاً للمادة (17) من الاتفاقية عام 1982 وهي تختص بالنظر في تقارير الدول الأطراف عن التدابير التي قامت بها لتنفيذ أحكام الاتفاقية فضلاً عن إعداد مقترحات وتوصيات ورفع تقرير سنوي إلى الجمعية العامة، وهي تتألف من (23) عضواً تنتخبهم الدول الأطراف لمدة أربع سنوات، وتجتمع في فيينا لمدة أسبوعين مرة واحدة في السنة.(44)
وتنص هذه الاتفاقية في المادة (7) على ان الدول الأطراف تتعهد بكفالة المساواة مع الرجل في مجالات متعددة منها التصويت في جميع الانتخابات والاستفتاءات العامة والأهلية للانتخاب لجميع الهيئات التي ينتخب أعضاؤها بالاقتراع العام فضلاً عن المشاركة في صنع سياسة الحكومة وتنفيذها، وفي شغل الوظائف العامة، وتأدية المهام العامة على المستويات الحكومية كافة كما تلتزم الدول طبقاً للاتفاقية بمشاركة النساء على قدم المساواة مع الرجال في أية منظمات وجمعيات غير حكومية تعنى بالحياة العامة السياسية للبلد، وتكفل الحكومة مشاركة المرأة في عملية اتخاذ القرارات على الصعيد الوطني والحكومي والمحلي بواسطة تدابير تشريعية وإدارية كما ينبغي القيام بأنشطة خاصة لزيادة توظيف وتعيين وترقية المرأة وعلى وجه الخصوص في مناصب اتخاذ القرارات وتقرير السياسات.(45)
أما الاتفاقية المعنية بجنسية المرأة المتزوجة اتفق الأطراف فيها على انه لا يجوز ان يكون لعقد الزواج أو انفصال الرابطة الزوجية فيما بين مواطنين وأجانب أو لتغيير جنسية الزوج أثناء الزواج أثر تلقائي في جنسية المرأة.(46)
أخيراً نشير إلى صدور إعلانات متعددة من جهات مختلفة ومؤتمرات دولية عقدت في أكثر من بلد تطرقت لموضوع أوضاع المرأة بقصد تحسينها أو الدفع بهذا الاتجاه منها الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة لعام 1993(47) فضلاً عن صدور البروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1999.(48)
ثالثاً: الاتفاقيات الخاصة بالجنسية وانعدامها واللاجئين
تعد المسائل المتعلقة بالجنسية واللاجئين من القضايا المهمة المطروحة على مستوى البحث والحقيقة ان هناك ارتباط حقيقي بين مستوى الجنسية وانعدامها والوضع الخاص باللاجئين إذ ان مشكلات اللجوء قد أخذت في التفاقم بدرجة ملحوظة مع تزايد حدة الصراعات والمنازعات الداخلية والدولية فضلاً عن استمرار بقاء نظم الحكم الشمولية التي غالباً ما تبالغ في انتهاكات حقوق الإنسان والتنكيل بالمعارضين السياسيين، وهذا الوضع يصاحبه اسقاط للجنسية في حالات معينة، ومن ثم فان هناك مجالين للبحث هنا: الأول يتعلق بالتنظيم القانوني للجنسية وحالة انعدامها والثاني يخص الوضع القانوني للاجئين.
1. الاتفاقيات الخاصة بالجنسية وانعدامها
تعرف الجنسية باعتبارها رابطة قانونية وسياسية بين شخص ودولة تترتب عليها مجموعة من الحقوق والالتزامات المتقابلة وطبقاً للمادة (15) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فان الجنسية حق لكل شخص.
والحقيقة ان الجنسية تعد شرطاً مسبقاً لنشاط دولي معين إذ انها ذو صلة في مجال القانون الدولي بقدر تعلق الأمر بالولاية على الأشخاص، وعلى وجه التحديد بموضوع الحماية الدولية التي تؤمنها دولة ما لشخص معين باعتبار الجنسية أحد شروط ممارسة هذه الحماية، وقد تم إقرار عدد من الاتفاقيات الدولية تحت إشراف ورعاية الأمم المتحدة نظمت بعض الجوانب القانونية المتعلقة بالجنسية وحالة اللاجنسية منها الاتفاقية المتعلقة بجنسية المرأة المتزوجة لعام 1957 والتي دخلت حيز التنفيذ بتاريخ 11 آب 1958.
الاتفاقية الثانية هي الاتفاقية المتعلقة بوضع عديمي الجنسية المعتمدة بتاريخ 28 ايلول 1954 والتي تولت معالجة بعض الجوانب الخاصة بوضع عديمي الجنسية، وهو وضع فيه امتهان لكرامة الإنسان واهدار لإنسانيته ولامكانية تمتعه بالحقوق والحريات في دولة ما إلا بصفته كأجنبي مع استمرار حالة اللاجنسية لصيقة به، وطبقاً للمادة (1) من الاتفاقية يقصد بمصطلح (عديم الجنسية) (كل شخص لا تعتبره أية دولة واحداً من رعاياها بمقتضى أحكام تشريعاتها)، وتنص هذه الاتفاقية على مجموعة من الواجبات التي تقع على كاهل عديم الجنسية تجاه البلد الذي يعيش فيه كالامتثال لقوانين هذا البلد وأنظمته وخضوعه للتدابير التي تتخذ للمحافظة على النظام العام، والحقيقة ان المعاملة التي يعامل بها عديم الجنسية لا تختلف على وجه العموم عن معاملة اللاجئ بموجب الاتفاقية الخاصة باللاجئين، وبناءاً على ما تقدم نصت المادة (3) المشتركة في الاتفاقيتين على (تطبق الدول المتعاقدة أحكام هذه الاتفاقية على عديمي الجنسية (اللاجئين) دون أي تمييز بسبب الجنس أو الديانة أو بلد المنشأ).

إلا انه بخصوص بعض الحقوق يلاحظ ان عديمو الجنسية يحصلون على وضع أقل من وضع اللاجئين فحق الاجتماع والعمل بأجر يتعين على الدول المتعاقدة ان تمنح الأشخاص عديمو الجنسية المقيمون بشكل قانوني على أراضيهم معاملة مماثلة بقدر الإمكان، وهي لا تقل رعاية بأي من الأحوال عن تلك الممنوحة في الظروف نفسها للأجانب على وجه العموم، وهذا ما قضت به المواد (15) و (17).(49)
الاتفاقية الأخرى المتعلقة بحق الجنسية هي اتفاقية تقليل حالات انعدام الجنسية المعتمدة بتاريخ 30 آب 1960 والتي دخلت حيز التنفيذ في 13 كانون الأول 1975 وحاولت من خلال نصوصها تحسين أوضاع عديمي الجنسية حيث تضمنت بعض الأحكام منها ضرورة قيام الدول الأطراف بمنح جنسيتها لأي شخص ولد على أراضيها، وإذا لم يمنح جنسية هذه الدولة سيصبح عديم الجنسية إذ تمنح هذه الجنسية عند الولادة بحكم القانون أو بناءاً على طلب يقدم طبقاً لقانون الجنسية في الدولة المعنية إلى الجهة المختصة من جانب صاحب الشأن أو من ينوب عنه إلا انه يجوز للدولة الطرف في المعاهدة اخضاع منح جنسيتها لشروط معينة، وهذا هو حكم المادة (1) من الاتفاقية.
المادة الثانية نصت على ان أي لقيط يعثر عليه داخل أراضي الدولة الطرف يعتبر ما لم يثبت العكس، انه مولود على أراضي هذه الدولة من أبوين يحملان جنسيتها.
وفي حالة وجود نص في قانون جنسية دولة طرف يتضمن سقوط الجنسية بسبب تغيير في الحالة المدنية كالزواج او الإقرار بالشرعية او الاعتراف أو التبني يشترط قبل إسقاط الجنسية ان يكون الشخص حائزاً لجنسية دولة أخرى أو مكتسباً لها (م5) كما نصت المادة (Cool منها على عدم جواز ان تقوم دولة ما بحرمان شخص من جنسيته إذا ترتب على هذا الحرمان قيام حالة اللاجنسية مع وجود بعض الاستثناءات على هذه الحالة، بينما نصت المادة (9) على عدم جواز حرمان أي شخص من جنسيته أو أية مجموعة لأسباب تتعلق بالجنس أو العرق أو الديانة أو السياسة.(50)
2. الحماية الدولية للاجئين(51)
تعد اتفاقية عام 1933 الخاصة بوضع اللاجئين على المستوى الدولي المعاهدة الأولى التي حددت وضعاً دولياً للاجئين، ثم عقدت اتفاقية أخرى عام 1938 تخص اللاجئين المنحدرين من ألمانيا، وأخيراً عقدت الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 تموز 1951(54) ودخلت حيز النفاذ بتاريخ 22 نيسان 1954 وتعرف الاتفاقية في مادتها الأولى اللاجئ باعتباره (كل شخص يوجد خارج بلد جنسيته/ جنسيتها أو بلد إقامته/ إقامتها المعتادة وعنده خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر أو الدين أو القومية أو الإنتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب الرأي السياسي ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد ان يستظل/تستظل بحماية البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد).(53)
وتحدد الاتفاقية حقوق اللاجئين بما في ذلك حقوقه المتعلقة بحرية العقيدة والتنقل من مكان إلى آخر، والحق في التعلم، والحصول على وثائق السفر، واتاحة الفرصة للعمل، وتشدد على أهمية التزاماته تجاه الحكومة أو الدولة المضيفة حيث ينص أحد الأحكام الرئيسية في الاتفاقية على حظر إعادة اللاجئين أو ردهم إلى بلد يخشى فيه من التعرض للاضطهاد، وتحدد الاتفاقية الأشخاص أو مجموعة الأشخاص الذين لا تشملهم هذه الاتفاقية، وهم الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم ضد السلام، أو جريمة حرب، أو الجرائم الإنسانية أو جرائم جسيمة غير سياسية خارج بلد اللجوء.(54)
وقد تعهدت الاتفاقية بإعطاء اللاجئين معاملة لا تقل من حيث الدعاية عن تلك الممنوحة لمواطنيها خاصة فيما يخص بعض الحقوق مثل حرية ممارسة الشعائر الدينية، والتقاضي أمام المحاكم، والتعليم الأولي، والأمن الاجتماعي، والإغاثة العامة، ويعطى اللاجئون فيما يتعلق بحقوق الملكية معاملة لا تقل في جميع الأحوال عن تلك الممنوحة للأجانب عموماً، وتنص الاتفاقية على عدم جواز طرد أو رد اللاجئ دون إرادته إلى حدود أراضي البلد الذي هرب منه أو ان يتم طرده إلى بلد تكون حياته فيه وحريته عرضة للخطر بسبب جنسه أو جنسيته أو آرائه السياسية أو معتقداته الدينية أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة، إلا انه لا يحق للاجئ التمسك بهذه الأحكام إذا ما توافرت بحقه أسباب مقبولة وجيهة تقود إلى اعتباره خطراً على أمن البلد الموجود فيه أو سبق وادين طبقاً لحكم بات بجرم هام يشكل خطراً على مجتمع ذلك البلد (م33).
أما بروتوكول 1967 الذي عد نافذاً في 4 تشرين الأول 1967 بانضمام ست دول إليه وأدى إلى اعتماده، فقد جاء باضافة جديدة إذ ان المادة الأولى من اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين لعام 1951 قد أوردت قيدين لتحديد مفهوم اللاجئ عند صدورها: الأول زمني، والثاني جغرافي إذ اقتصر مفهوم اللاجئ على الذين اصبحوا لاجئين نتيجة أحداث وقعت قبل الأول من كانون الثاني 1951 دون غيرهم بينما تعرضت الاتفاقية لمشكلة تمثلت بعدم امكان اعتبار أي شخص لاجئاً إذا كان تركه لبلده للأسباب المبينة في الاتفاقية قد وقع بعد التاريخ المذكور أعلاه والبروتوكول الصادر عام 1967 أدى إلى ان يفقد القيد الزمني أهميته.(55)
ان التنظيم القانوني الخاص باللاجئين لا يمكن فصله عن مفاهيم حقوق الإنسان إذ انهم أناس انتهكت حقوقهم الإنسانية على مستوى خطير فمفهوم حماية اللاجئ لا ينفصل في ذاته عن الفكرة الأساسية المشار إليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمتمثلة بحق كل إنسان في ان يتمتع بملجأ وهذا ما تنص عليه اتفاقية جنيف لعام 1951 وهناك أهمية لحق عودة اللاجئ إلى بلده، وهذا حق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يؤكد على انه (لا يجوز حرمان أي شخص تعسفاً من حق دخول بلده).(56)
رابعاً: التنظيم القانوني لتحريم الرق والعبودية والتعذيب
توجد مجموعة من الاتفاقيات الدولية المحرمة للرق والممارسات الشبيهة منها اتفاقية 1926 التي أعدت برعاية عصبة الأمم إذ عرفت في المادة (1) الرق بانه (حالة أو وضع أي شخص تمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية، كلها أو بعضها)، بينما جاءت المادة (2) منها لتؤكد منع الاتجار بالرقيق وقمعه والعمل بصورة تدريجية وبالسرعة الممكنة للقضاء على هذه الممارسة بجميع صورها كلياً واستكملت هذه الاتفاقية بالاتفاقية التكميلية لابطال الرق التي عقدت بتاريخ 7 أيلول 1956.
وأبطل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الرق في المادة (4) منه التي نصت على (لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورها) ويلاحظ في هذا السياق ان عبارة (استرقاق) تعني القضاء على الشخصية القانونية، وهذا مفهوم محدود نسبياً إذ ان الاستعباد مفهوم أكثر عمومية وسعة ويشمل جميع الصور التي يسيطر فيها إنسان على آخر كما ان هناك ممارسات شبيهة بالرق تقود إلى الحط من الكرامة الإنسانية وأشير إلى هذه الممارسات في الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لعام 1956 باعتبارها الأعراف والممارسات الشبيهة بالرق.(57)
وتشمل صور الرق حالة الاستيلاء على الفرد لوفاء ديونه، وحالة عبيد الأرض، وتزويج النساء كرهاً بمقابل نقدي أو عيني، والتنازل عن الزوجة من جانب الزوج أو أسرته أو قبيلته إلى الغير، وحالة انتقال الزوجة بعد وفاة زوجها عن طريق الميراث لشخص آخر، وحالة التخلي عن الطفل أو ممن هو دون سن البلوغ من جانب والديه أو أي منهما أو عن طريق الوصية إلى الغير بمقابل أو دون مقابل بقصد استغلال الشخص أو عمله، كما تحرم الاتفاقية تجارة الرقيق التي تعرف باعتبارها العمل على نقل العبيد أو محاولة ذلك من دولة إلى أخرى بأية وسيلة أو الاشتراك في هذه النشاطات.(58)
كما أبرمت اتفاقيات عديدة تحرم الاتجار بالرقيق الأبيض كالاتفاقيات التي أبرمت في الأعوام 1902 و 1904 و 1910 واتفاقية 1933 فضلاً عن اتفاقية 1951 وجرى فضلاً عما تقدم تحريم تسخير الفرد أو إجباره على أداء عمل معين عن طريق الإكراه، وهنا يلاحظ ان مفهوم السخرة يعني كل عمل يفرض على الإنسان، دون ان تكون لارادته دخل في قبوله سواء كان مقابل أجر أو من دون مقابل.(59)
ومن الاتفاقيات التي حرمت الرق وأعمال السخرة اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية في المادة (Cool منها واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.(60)
ونصت الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان على تحريم التعذيب والعقوبات والمعاملات غير الإنسانية أو الاستثنائية أو المهينة، وهو ما نصت عليه المادة (7) من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، والمادة (5) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.(61)
أخيراً من المفيد الإشارة إلى وجود جوانب أخرى تمت العناية بها في إطار الحماية الدولية لحقوق الإنسان سواء من خلال إبرام اتفاقيات تكرس هذه الحماية أو عبر إعلانات أو توصيات أو قرارات صدرت عن الأمم المتحدة أو كان لها دور في ظهورها إلى حيز الوجود منها إعلان حقوق الطفل لعام 1959، والإعلان الخاص بحماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة الصادر عن الجمعية العامة عام 1974، واتفاقية حقوق الطفل لعام 1990 التي فصلت الحقوق التي جاء بها إعلان حقوق الطفل وصدر لهذه الاتفاقية ملحقان عام 2000 الأول يخص القيود التي يجب أن تفرض على اشتراك الأطفال في الأعمال المسلحة، والثاني يخص قمع الممارسات التي تستهدف استغلال الأطفال في أعمال غير أخلاقية أو في أعمال اباحية والحقيقة ان اتفاقية حقوق الطفل صدقت عليها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أي 191 دولة.(62)
الفرع الثاني- الجرائم الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان
ساهم الترابط بين الجهود الساعية إلى تدويل المسؤولية الجزائية، وإيجاد نوع من الحماية لحقوق الإنسان على المستوى الدولي، وعدم إفلات المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان من العقاب إلى إيجاد جرائم ذات طابع دولي نظمت بموجب اتفاقيات دولية فقد ذكرت حقوق الإنسان في الميثاق أو الديباجة ثماني مرات والسعي إلى حماية حقوق الإنسان من مقاصد الأمم المتحدة، ومن ثم ظهرت جرائم دولية مرتبطة بهذا الموضوع نشير إلى أهمها وهي:
أولاً: اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري
أقرت هذه الاتفاقية من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 ودخلت حيز النفاذ سنة 1951 وكان سبب إيجاد هذه الاتفاقية سياسة الإبادة التي اتبعتها بعض الدول قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها وأكدت محكمة العدل الدولية المعنى المتقدم في الرأي الاستشاري الصادر عنها والمتعلق بالتحفظات الخاصة باتفاقية منع إبادة الجنس البشري إذ ذكرت (من الواضح ان الاتفاقية اعتمدت على غرض إنساني وحضاري بحت، بل لا يمكن تصور اتفاقية لها هذا الطابع المزدوج بدرجة أعلى من هذه الاتفاقية إذ ترمي من ناحية إلى ضمان الوجود ذاته لبعض الجماعات البشرية، ومن ناحية أخرى إلى تأكيد وتوثيق مبادئ الأخلاق الأولية. وليس للدول المتعاقدة في مثل هذه الاتفاقية مآرب خاصة، وإنما لها ولكل منها مصلحة مشتركة وهي الحفاظ على المقاصد العليا التي من أجلها خرجت هذه الاتفاقية إلى عالم الوجود).(63)
والحقيقة ان اتفاقية 1948 اقتبست أحكامها من مبادئ نورمبرغ المتعلقة بجريمة الإبادة إلا ان الاتفاقية المذكورة بموجب المادة (1) منها اعتبرت الإبادة جريمة بموجب القانون الدولي سواء ارتكبت وقت السلم أو بالجرائم المخلة بالسلم أو جريمة الحرب.(64)
وقد ذكرت هذه الاتفاقية شكل أو طائفة الأفعال التي تتكون منها جريمة الإبادة الجماعية بشرط توافر قصد جنائي خاص لدى المتهم يتمثل في نية التحطيم الكلي أو الجزئي لجماعة وطنية أو عرقية أو دينية.(65)
ويشمل مفهوم الإبادة الجماعية: أ- قتل أفراد الجماعة. ب- الاعتداء الخطير على السلامة الجسدية أو النفسية لأعضاء الجماعة. ج- إخضاع الجماعة عمداً إلى ظروف معيشية من شأنها أن تؤدي إلى هلاكها الجسدي (العقلي) كلياً أو جزئياً. د- عرقلة أو منع الولادات الجماعية (التعقيم القسري) أي فرض تدابير تستهدف منع الانجاب داخل الجماعة. هـ- نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.(66)
أما نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية فهو نص كذلك على هذه الجريمة واورد الأشكال المذكورة في اتفاقية 1948 الخاصة بجريمة الإبادة الجماعية للجنس البشري في المادة السادسة منه.(67)
ثانياً: الجرائم ضد الإنسانية
عرفت الأشكال الخاصة بهذه الجريمة في ميثاق نورمبرغ، ونظام محكمة طوكيو، وأن كان هناك من يقول انه قد عرفت قبل هذا التاريخ وردوها إلى جروشيوس الذي فرق بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة وبخصوصها ثبتت محكمتي نورمبرغ وطوكيو مبدئيين أساسيين هما:
1)عدم الاعتداد بالحصانة المقررة لأعضاء الحكومة فيما يتعلق بأعمال السيادة.
2) عدم جواز الدفع الذي يتقدم به الموظف العام ومضمونه انه كان ينفذ الأوامر الصادرة عن رئيسه الأعلى في حالة قيامه بتنفيذ أعمال غير مشروعة طبقاً للقانون الدولي العام.(68)
ونصت المادة (7) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 على الأشكال المكونة لهذه الجريمة إذا ما أرتكب أحد هذه الأشكال في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم.(69)
وبعد انتهاء الفترة الزمنية التي استغرقتها محاكمات نورمبرغ وطوكيو بقيت الملامح العامة للاتجاهات القانونية الدولية تدين الجرائم ضد الإنسانية دون ان نشهد تطبيقات عملية حتى صدر قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 808 بتاريخ 25/9/1991 القاضي بتشكيل محكمة جنائية لمحاكمة المسؤولين اليوغسلاف عن انتهاكات وجرائم مختلفة، والقرار رقم 955 الصادر بتاريخ 8/11/1994 حيث شهدت هذه المحاكم إضافة صور جرمية جديدة للجرائم ضد الإنسانية، كالاختفاء القسري، والعنف الجنسي، والاستعباد الجنسي، والحمل القسري، والبغاء، وقد شهد نظام روما الأساسي تطوراً آخر فيما يتعلق بموقفه من الجرائم ضد الإنسانية حيث أخرجت هذه الجرائم تماماً من نطاق جرائم الحرب إذ كان يشترط لتحقيقها ارتكابها أثناء الحرب أو تكون مرتبطة بجريمة من الجرائم ضد السلام إلى صيغة وشكل جديد حيث لا يشترط ارتكابها أثناء الحرب.(70)
وتعد جريمة الفصل العنصري احدى الأشكال المكونة للجرائم ضد الإنسانية، والحقيقة ان الفصل العنصري يعد جريمة بموجب الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها المعتمدة عام 1973 والتي دخلت حيز النفاذ عام 1976.(71)
ثالثاً: جرائم الحرب
اهتمت الجمعية العامة لعصبة الأمم بهذه الجريمة وأصدرت قراراً عام 1937 وصفت فيه حرب الاعتداء بأنها جريمة دولية(72) وهي جريمة تنتهك حق الإنسان في الحياة ونص عليها نظام روما الأساسي كذلك في المادة (Cool منه إذ أكدت الفقرة الأولى منها على (يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بجرائم الحرب، ولاسيما عندما ترتكب في إطار خطة سياسية عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم)، بينما تولت الفقرة (2) من المادة ذاتها إيراد الصور المكونة لها، ومن أبرزها الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12/8/1949 والتي ترتكب ضد الأشخاص أو الممتلكات موضوع الحماية لأحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة.
أخيراً نشير إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت عام 1968 اتفاقية دولية تقضي بعدم تقادم جرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، والتي دخلت حيز النفاذ بتاريخ 11 تشرين الثاني 1970.(73)
رابعاً: جريمة العدوان
كانت الحروب تشن تحت مختلف الذرائع حتى بدأت وثائق دولية معينة تشير إلى عدم جواز اللجوء إلى الحرب لفحص المنازعات كاتفاقية لاهاي الثانية 1907 ومعاهدة فرساي (م227) وميثاق عصبة الأمم 1920 وبروتوكول جنيف 1924 واتفاق لوكارنو 1925 وميثاق بريان كيلوج 1928 ، والحقيقة ان أولى الخطوات الجادة التي بدأت لمحاسبة ومعاقبة مجرمي الحرب العدوانية قد نظمت بموجب وثائق دولية منها الاتفاق المتعلق بمحاكمة ومعاقبة مجرمي الحرب الرئيسيين في جانب المحور، وهو ميثاق نورمبرغ الموقع في لندن بتاريخ 8 آب 1945 وميثاق طوكيو لسنة 1946، فضلاً عن قرارات الجمعية العامة المرقمة (65) لسنة 1946 و (2625) لسنة 1970 و (3314) لسنة 1974 وهذا الأخير صدر تحت عنوان تعريف العدوان.(74)
أخيراً من المفيد الإشارة إلى ان اتفاقيات دولية مختلفة، قد نصت على جرائم ذات طابع دولي تضمن بعض أشكالها نظام روما الأساسي منها جريمتا القرصنة، والاتجار بالرقيق.(75)

المبحث الثالث
الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان
لا تقتصر الحماية الدولية لحقوق الإنسان على الوثائق العالمية المشار إليها آنفاً إذ توجد وثائق إقليمية سعت طبقاً لها مجموعة من الدول إلى تكريس تنظيم دولي إقليمي لحقوق الإنسان مما يعني وجود نصوص وقواعد قانونية إقليمية تتناول هذا الجانب، وهي على وجه العموم تستهدف الاستجابة للثقافات التي تتميز بها هذه المجموعة الإقليمية عن طريق إضافة لمسات تميزها عن الوثائق العالمية.
ومن الجدير بالذكر ان هناك أساس قانوني لهذا التنظيم الإقليمي لحقوق الإنسان الذي قامت ولازالت تقوم به منظمات دولية إقليمية إذ تنص المادة (52) من الميثاق على (ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام تنظيمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ الأمن والسلم الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحاً فيها ومناسباً مادامت هذه التنظيمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها)، كما دعت الجمعية العامة إلى انشاء أنظمة إقليمية لحقوق الإنسان تساعد على توفير الحماية لها، ومن أهم الوثائق الإقليمية أو مظاهر الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان يمكن الإشارة إلى:

المطلب الأول
الحماية الأوربية لحقوق الإنسان
أنشأت منظمة مجلس أوربا عام 1949 من قبل مجموعة من الدول الأوربية بهدف تحقيق وحدة هذه الدول بصورة أوثق والعمل على توفير حماية للمبادئ والقيم المشتركة، ودفع التقدم الاقتصادي والاجتماعي إلى الأمام، وهو ما يمكن أن يتحقق عن طريق تطوير مفاهيم حقوق الإنسان وحمايتها.(76)
وتم التوقيع على الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية نتيجة لجهود منظمة مجلس أوربا في مدينة روما بتاريخ 4 أيلول 1950 ودخلت حيز النفاذ يوم 3 أيلول 1953، وتحتوي الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان على ديباجة، وخمسة أبواب، موزعة على (66) مادة.
تؤكد الديباجة على (ان حكومات الدول الأوربية، التي تتماثل في التفكير، وذات ميراث مشترك من التقاليد السياسية، والمثل العليا، والحرية وسيادة القانون …… قررت ان تتخذ الخطوات الأولى للتنفيذ الجماعي لحقوق معينة مقررة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) واشتملت الاتفاقية على أهم الحقوق والحريات التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهي لم تتضمن قائمة متكاملة للحقوق لكن هذا النقص تم تفاديه بموجب مجموعة من البروتوكولات التي أُلحقت بالاتفاقية في مراحل لاحقة ابتداءا ًمن البروتوكول الأول لاتفاقية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية لسنة 1952 وانتهاءاً بالبروتوكول رقم (12) للاتفاقية ذاتها لعام 2000.(77)
ومع ان الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان تركز بشكل أكبر على الحقوق المدنية والسياسية إلا ان هناك مجالاً كذلك للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إذ تؤكد المواد (2-10) منها على ضرورة تمتع كل إنسان بالحقوق والحريات الشخصية كالحق في الحياة، والحق في محاكمة عادلة فضلاً عن حرية الفكر والعقيدة والدين، وحرية الرأي، وحرية الاجتماع، وحقوقاً أخرى كحظر التعذيب والعقوبات والمعاملات الوحشية أو الحاطة بالكرامة، وحظر الرق والعمل الجبري، والحق في الحرية والأمان، والحق في الحياة الخاصة والحياة العائلية وحرمة مسكن الشخص ومراسلاته، والحق في تكوين الجمعيات بما فيها الاشتراك في النقابات، والحق في الزواج وتأسيس أسرة وعدم التمييز، وقد أضافت البروتوكولات الإضافية عدداً من الحقوق الأخرى، كالحق في احترام الملكية، والحق في التعليم، والحق في انتخابات حرة، وحظر الحبس بسبب العجز عن الوفاء بالتزام تعاقدي، وحرية الانتقال، وحظر ابعاد رعايا الدولة، وحظر الابعاد الجماعي للأجانب، وتحريم عقوبة الإعدام.
كذلك تضمنت الاتفاقية إنشاء جهازين لضمان احترام التعهدات هما اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، ويبدو واضحاً ان هذه الاتفاقية قد تولت الكشف عن حقوق موجودة سبق الاعتراف بها على مستوى القوانين الداخلية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان فضلاً عن ان واضعي هذه الاتفاقية قد فضلوا تخصيص وثيقة منفصلة للحقوق الاجتماعية هي الميثاق الاجتماعي الأوربي الموقع عام 1961 ودخل حيز النفاذ يوم 26 شباط عام 1965(78) ولا تقتصر الحقوق المثبتة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان على الإنسان الأوربي وإنما هي مقررة لمصلحة كل البشر، وهو ما تشير إليه المادة الأولى من الاتفاقية كما ان لكل دولة طرف في الاتفاقية الحق بمطالبة الدول الأطراف الأخرى أو احداها باحترام الحقوق الواردة فيها سواء أكان ذلك لمصلحة مواطنيها أو غيرهم حتى وان كان لا يحمل جنسية أية دولة، وهذا يشمل الزائرين للدول الأطراف في المعاهدة في حالة انتهاك حقوقهم طبقاً لما تقرره المعاهدة والاتفاقية تسمح للدول الأعضاء باتخاذ تدابير مخالفة للالتزامات التي تطبقها داخل اقليمها في حالة الطوارئ وحالة الحرب أو أي ظرف آخر يهدد حياة الأمة بالخطر كما سمحت المادة (11) منها بالحد من حرية التجمع والاجتماع، وعندما اعتبرت ممارسة هذه الحرية مضرة بالنظام العام واجازت المادة (15) لكل دولة طرف في الاتفاقية باتخاذ تدابير مخالفة للميثاق الأوربي في حالات الحرب أو الأخطار الأخرى المهددة لحياة الأمة مع عدم المساس بالحق في الحياة، والحق في عدم التعرض للتعذيب، والحق في عدم الاسترقاق والعبودية، والحق في محاكمة عادلة.
ان النظام القانوني الأوربي يشتمل في حقيقة الأمر على عدة وثائق أو اتفاقيات أولها الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950 التي أُلحق بها حتى عام 2000 اثنا عشر بروتوكولاً، والاتفاقية الأوربية لمنع التعذيب والمعاملة أو العقوبة غير الإنسانية أو المهينة لعام 1989 التي أُلحق بها بروتوكولان عام 1993 والاتفاقية الأوربية بشأن ممارسة حقوق الأطفال 1996 والاتفاق الأوربي المتعلق بالأشخاص المشاركين في إجراءات المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1996 والمعاهدة المنشئة للمجتمع الأوربي (المعدلة) 1997 والميثاق الاجتماعي الأوربي (المعدل) 1996 وميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوربي لسنة 2000.(79)
المطلب الثاني
النظام القانوني الأمريكي لحماية حقوق الإنسان
يتضمن النظام القانوني الإقليمي في القارة الأمريكية المتعلق بحماية حقوق الإنسان مجموعة من النصوص القانونية المعبر عنها بصفة إعلانات واتفاقيات دولية كالإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان لعام 1948 والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان عام 1969 والبروتوكول الإضافي للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1988 والبروتوكول الخاص بالاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لالغاء عقوبة الإعدام لعام 1990 والاتفاقية الأمريكية لمنع التعذيب والعقاب عليه لعام 1987 والاتفاقية الأمريكية بشأن منع واستئصال العنف ضد النساء والعقاب عليه عام 1994 والاتفاقية الأمريكية بشأن الاختفاء القسري للأشخاص الصادرة عام 1996 والاتفاقية الأمريكية بشأن إزالة كافة أشكال التمييز ضد الأشخاص المعاقين 1999 والإعلان الأمريكي المقترح بشأن حقوق السكان الأصليين 1997 والنظام الأساسي للمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان 1980 والنظام الأساسي للجنة الأمريكية لحقوق الإنسان 1993.(80)

والحقيقة ان ميثاق الدول الأمريكية المعروف باسم ميثاق بوغوتا لعام 1948 قد تضمن عدة نصوص بشأن حقوق الإنسان إذ ان مقدمته توضح ان المهمة التاريخية التي قدرت لأمريكا تتمثل في تقديمها للإنسان أرضاً للحرية ومكاناً مناسباً لتطوير شخصيته ولتحقيق آماله المشروعة، وهي تؤكد كذلك على ان التضامن الحقيقي بين دول أمريكا وحق الجوار لا يمكن ان يتحقق دون إقرار نظام من الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية اللتان تقومان على احترام الحقوق الأساسية للإنسان في إطار من المؤسسات الديمقراطية في القارة كما يؤكد الميثاق على ان العدل والأمن الاجتماعي هما أساس السلام الدائم، وهذا الميثاق يفرض على الدول احترام حقوق الإنسان دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو الدين أو الجنسية كما ورد في المادة (5) والمادة (13) منه وتشير المادة (16) إلى حق كل دولة في تطوير حياتها الثقافية بحرية مع احترام حقوق الإنسان ومبادئ الأخلاق العالمية، كما يشتمل الميثاق على نصوص تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المواد 28-31) إلا انه يتعامل معها باعتبارها مجرد توجيهات موجهة إلى الدول التي يجب عليها ان تعترف بها وتشجع احترامها فقط.
ويربط الإعلان بين الحقوق والواجبات إذ ان قيام كل شخص بواجباته هو شرط مسبق لحق الجميع فضلاً عن ان حق كل إنسان مقيد بحقوق الآخرين وبأمن المجموع ومقتضيات العدالة والرفاهية العامة.(81)
أما الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان فقد أبرمت عام 1969 ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في 18 تموز 1978 بإتمام إيداع عشر دول لوثائق التصديق وقد صيغت في الكثير من أحكامها على نمط الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان لعام 1966 وتتضمن الاتفاقية الأمريكية أثنين وثمانين مادة أقرت ما يزيد على أربع وعشرين حقاً من حقوق الإنسان المستمدة من الوثائق المذكورة آنفاً كما ان هناك اعتراف بعدد من الحقوق غير المذكورة في الاتفاقية الأوربية والبروتوكولات الملحقة بها، كالحق في عدم الخضوع للرقابة المسبقة على حرية الفكر والتعبير والاعتراف بجميع الأطفال بمن فيهم الذين يولدون خارج نطاق الرابطة الزوجية، وبحق كل فرد في جنسية وحقه في جنسية الدولة التي يولد فيها إذ لم يكن له الحق في التمتع بجنسية أخرى والحق في اللجوء مع عدم السماح بابعاد الأجنبي إلى بلد آخر إذا كان حقه في الحياة قد يتعرض للخطر بسبب جنسه أو جنسيته أو دينه أو وضعه الاجتماعي أو آرائه السياسية،(82) فضلاً عن حظر الرق والحق في احترام الخصوصية وحرية الاعتقاد والديانة(83) والحق في اسم (م18) وحق الشخص الذي يدان بموجب حكم نهائي أو بات مبني على خطأ قضائي في التعويض، وفي المقابل يلاحظ ان الاتفاقية لا تشير إلى الحق في تقرير المصير وحقوق الأقليات.
وتشير الاتفاقية إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتلزم الدول باتخاذ الخطوات التي تحقق هذه الحقوق وتضعها موضع التنفيذ بصورة تدريجية، ويلاحظ عدم تحديد الاتفاقية لهذه الحقوق لكنها تحيل بهذا الخصوص إلى ميثاق منظمة الدول الأمريكية المعدل بموجب بروتوكول بوينس آيرس (م 26).(84)

المطلب الثالث
حقوق الإنسان في المواثيق الأفريقية

يتضمن النظام القانوني الأفريقي لحقوق الإنسان على المستوى الإقليمي مجموعة من الوثائق هي الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب 1981 والبروتوكول الخاص بالميثاق الأفريقي لإنشاء المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب 1997 وقواعد الإجراءات الخاصة باللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب 1995 والميثاق الأفريقي لحقوق ورفاهية الطفل 1990 والاتفاقية التي تحكم الجوانب المختلفة لمشاكل اللاجئين في أفريقيا 1974 ووثيقة أديس أبابا بشأن اللاجئين والتشريد القسري للسكان في أفريقيا 1994 وإعلان كمبالا بشأن الحرية الفكرية والمسؤولية الاجتماعية1990.(85)
والحقيقة ان أفريقيا التي ورثت أنظمة حكم شبيهة بالأنظمة البرلمانية السائدة في الدول المستعمرة والتي تبنت في دساتيرها أي الدول الأفريقية المستقلة حديثاً نصوص الحقوق التي جاءت بها دساتير الدول المستعمرة إلا ان هذا التوجه لم يكتب له البقاء بسبب فشله فلا النظام البرلماني ولا الدساتير التي وضعت بعد الاستقلال كانت تعبر عن حقيقة الواقع الأفريقي، فضلاً عن تبريرات أخرى أدت إلى ان تقوم في الدول الأفريقية أنظمة حكم تسيطر عليها أجهزة تنفيذية قوية أو يسيطر عليها عسكريون أو ديكتاتوريون مما ساهم في تهميش مواثيق الحقوق الوطنية، وهو ما أدى بدوره إلى ان تبرز الحاجة إلى نوع من التنظيم الإقليمي لحقوق الإنسان على مستوى القارة الأفريقية، وجاءت أول إشارة إلى هذا الموضوع في قانون لاغوس الصادر عن المؤتمر الذي دعت إليه اللجنة الدولية للفقهاء في لاغوس عاصمة نيجيريا عام 1961 إذ دعا فيه المؤتمرون الدول الأفريقية إلى دراسة فكرة وضع ميثاق أفريقي لحقوق الإنسان بهدف توفير ضمانات إضافية تحقق الحماية على المستوى العملي وقدر لهذه الفكرة ان تكون محل نقاش في مؤتمرات أفريقية عدة حتى عرض الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان على مؤتمر القمة الأفريقي في نيروبي عام 1981 وتمت الموافقة عليه ودخل حيز النفاذ عام 1986.(86)
يتألف هذا الميثاق من ديباجة وثمان وستين مادة حيث أكدت الديباجة التي تعد جزءاً لا يتجزأ من الميثاق على ان الدول الأعضاء مقتنعة بضرورة كفالة الاهتمام الخاص بالحق في التنمية، وعدم فصل الحقوق المدنية والسياسية عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وان الوفاء بالحقوق الثانية هو الذي يكفل التمتع بالحقوق الأولى، كما أكدت الديباجة على عزم الدول الأفريقية على إزالة كل اشكال الاستعمار، وعن وعيها للفضائل التي تتمتع بها التقاليد ذات الطابع التاريخي وقيم الحضارة في أفريقيا التي يجب ان تنبع منها وتتسم بها أفكارها حول مفهوم حقوق الإنسان والشعوب، وهذا يبرر الطابع المميز والخاص لحقوق الإنسان وأولوية بعضها على بعضها طبقاً لمفهوم أفريقي ينبع من مشاكل وحاجات القارة السوداء.
كما يربط الميثاق بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب بطريقة تؤكد التكامل وتكفل الترابط فيما بينها ويتم التأكيد في الديباجة كذلك على الربط بين حقوق الأفراد وواجباتهم باعتبار ان التمتع بالحقوق والحريات مسألة تتطلب ان ينهض كل شخص بواجباته وذكرت الفقرة (7) من الديباجة على ضرورة اعطاء أهمية خاصة للحق في التنمية فضلاً عن تأكيد الفقرة (Cool من الديباجة على التزام الدول الأفريقية بمساعدة التحرر الأفريقي، والقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري القائم بسبب العنصر أو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أما الفقرتين الأخيرتين من الديباجة فتؤكدان تمسكها بحريات وحقوق الإنسان والشعوب كما جاءت في وثائق دولية متعددة.
أشار الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان إلى ضرورة التمتع بمجموعة من الحقوق السياسية والمدنية كعدم التمييز بين الأشخاص في تمتعهم بالحقوق والحريات المكفولة في الميثاق لأي سبب كان وهذه مضمونة لكل شخص يقيم في بلد طرف في هذا الميثاق، إلا ان الميثاق فرق بين المواطنين وغيرهم بخصوص ممارسة بعض الحقوق كالحق في تكوين جمعيات، والحق في المشاركة في إدارة شؤون البلاد وتولي المناصب العامة ، أما فيما عدا ذلك فلكل فرد الحق في المساواة أمام القانون في الحماية المتساوية أمام القانون وعدم انتهاك حرمته واحترام حياته وسلامة شخصه من الناحية البدنية والمعنوية واحترام كرامته وعدم تعرضه للاهانة أو الاستعباد، والحق في الحرية والأمن الشخصي، والحق في اللجوء إلى القضاء، والحق في حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، والحق في التعبير والحصول على المعلومات والاجتماع بحرية مع الآخرين، والحق في التنقل، والحق في الحصول على ملجأ، وكفلت المادة (14) الحق في الملكية التي لا يجوز المساس بها إلا لضرورة أو مصلحة عامة طبقاً لأحكام القوانين المعمول بها.
ويلاحظ هنا ان بعض الحقوق كالحق في الحصول على المعلومات المنصوص عليه في المادة (9) جاء دون قيد على ممارسته في حين ان التعبير عن الأفكار ونشرها هو حق مسموح به في إطار القوانين واللوائح كما ان الميثاق الأفريقي يخلو من نصوص تجيز تعطيل ضمان بعض الحقوق لأسباب طارئة على الرغم من العمل بهذه الفكرة أو الاقرار بها لظروف استثنائية في الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية السياسية.(87)
أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد أشار الميثاق الأفريقي إلى جانب منها كالحق في العمل، والحق في التمتع بحالة صحية جيدة، والحق في التعليم وفي الاشتراك بحرية في الحياة الثقافية للمجتمع، وحق الأسرة في الحماية، وحق كل امرأة في عدم التمييز، فضلاً عن حقوق الأطفال وكبار السن والمعوقين.
المواد (19-24) تطرقت لحقوق الشعوب التي تكلم عنها الميثاق الأفريقي، وهذا أمر يتميز به هذا الميثاق عن غيره وهذه الفئة من الحقوق تعرف كذلك بحقوق التضامن أو حقوق الجيل الثالث كحق الشعوب في الوجود وفي تقرير مصيرها وفي التصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية وفي تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وفي السلام وفي بيئة مرضية وشاملة لتنميتها، وبهذا الصدد يثور السؤال الآتي وهو كيف يمكن ان نحدد المقصود بكلمة شعب؟ فهل تقتصر الكلمة على تلك الدولة ذات السيادة على أراضيها أم هي تشمل المجموعات العرقية الكبيرة التي لا تقبل بوضعها السياسي القائم؟
يؤكد أحد الكتاب في معرض أجابته عن هذا السؤال ان الميثاق الأفريقي يتخذ موقفاً وسطاً إذ انه يتحدث عن حق الشعوب المستعمرة المقهورة في تحرير نفسها، ويتحدث في المادة (23) عن ان العلاقات بين الدول تحكمها مبادئ التضامن والعلاقات الودية التي أكدها ميثاق الأمم المتحدة وأكدها مجدداً ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، وهذه إشارة إلى احترام دول القارة الأفريقية للحدود السياسية القائمة، وان تقرير المصير لا يسري على المجموعات المختلفة التي تسعى إلى الانفصال.(88)

المطلب الرابع
حماية حقوق الإنسان في القارة الآسيوية
ان تطور التنظيم القانوني الاقليمي لفكرة حقوق الإنسان في أوربا وأمريكا خاصة في أقسامها الشمالية لا يعني ان كل أجزاء العالم تت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elngdy.yoo7.com
 
المدخل لدراسة حقوق الإنسان الدكتور الدكتور مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دور هيئة قضايا الدولة في مجال حقوق الإنسان
» حقوق الإنسان والحريات الأساسيــــة بين الأصالـــة والتطـــور
» لمحة قصيرة عن تاريخ حقوق الإنسان-"دافيد شيمان"
» الكتاب : حقوق الإنسان في الإسلام المؤلف : عبد الله بن عبد المحسن التركي
» تاريخ حقوق الإنسان منذ ولادتها كفكرة إلى إقرارها في الأمم المتحدة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدي الاستاذ شعبان النجدي المحامى لنشر الثقافة والوعي القانوني :: الفئة الأولى :: منتدي الوعي القانوني وادوات القانوني الناجح :: حقوق الانسان-
انتقل الى: