كَيْفَ تَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟
لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ الدُّكْتُورِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ بن عَبْدِ الْمُنْعِمِ الشِّرْبِينِي
[تَفْرِيغ كَلِمَةٍ أَلْقَاهَا فَضِيلَةُ الشَّيْخُ الدُّكْتُورُ: أَبُو عَبْدِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ بن عَبْدَ الْمُنْعِمِ الشِّرْبِينِي فِي قَنَاةِ الْمَجْدِ الْفَضَائِيَّةِ]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد:
الحمد لله الذي جعلنا من أمة القرآن، الحمد لله الذي يسر لنا القرآن، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17، 22، 32، 40].
القرآن كلام الله، ونحن عبيده وخلقه ونعيش في ملكه، أرسل إلينا رسولا هو سيد ولد آدم صلوات ربي وسلامه عليه، وأنزل إلينا كتابا هو القرآن.
القرآن هو رسائل الله عز وجل إلى المخلوقين، نعم، القرآن رسائل الله عز وجل إلى المخلوقين، ونحن عرفنا في حياتنا كيف نتلقى رسائل المخلوقين، فيختلف تلقينا للرسائل باختلاف المرسِل لهذه الرسائل، فإذا جاءتنا رسالة من شخص مهم كان اهتمامنا في تلقي الرسالة وفي قراءتها، إذا جاءتنا رسالة من إنسان نحبه فترى عند وصول هذه الرسالة الفرح والأنس بها، وإذا فتحها قرأها مرة تلو مرة لأنه يحب من أرسل هذه الرسالة، وإذا كان لا يبالي به ولا يهتم فإنه يتأخر في فتحها وقد لا يفتحها، ولو قرأها، قرأها قراءة عابرة.
نعم، لأن الاهتمام بالرسائل إنما يعبر عن اهتمامك بمرسِلها، فكيف إذا كان مرسِل ذلك هو الله خالق السماوات والأراضين رب كل شيء ومليكه، كيف إذا كان مرسِل هذه الرسائل هو القيوم الذي لا قيام لذرة في بدنك إلا به ولا قيام لذرة في السماوات ولا في الأراضين إلا به، كيف إذا أرسل إلينا رسائل ألا وهي القرآن، فإن القرآن كلامه أرسله إلينا، فكيف يكون تلقينا لهذه الرسائل؟ هل يكون تلقي المهتمين؟ هل نحن نحب الله؟ فقد عرفتم كيف يتلقى المحبون رسائل من يحبون، ولهذا صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال (إن لله عز وجل أهلين) قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته) ، بل وجعل الخيرية لأهل القرآن تعلما وتعليما، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وقال -صلوات ربي وسلامه عليه-: (يقال لصاحب القرآن -أي يوم القيامة- اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا) . (يقال لصاحب القرآن) أتدرون ما معنى صاحب القرآن؟ الصاحب: أي الملازم الذي لا يتركه فهو يقرأه بالليل ويقرأه بالنهار هو صاحبه.
حفظ القرآن منزلة عظيمة، ولكن هل أنت صادق في أنك تريد أن تحفظ القرآن؟ إن عزمت على ذلك وكنت صادقا فأنصحك بثلاث نصائح:
الأولى: إخلاص النية لله عز وجل:
احفظ القرآن لله عز وجل، وإياك ثم إياك أن تكون كذلك الرجل الذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم خبره يأتي الله عز وجل به فيعرفه نعمه ويسأله: ما عملت فيها؟ فيقول: تعلمت فيك العلم وقرأت القرآن وحفظته وقرأته آناء الليل وأطراف النهار، ورب الأرض والسماوات العليم بذات الصدور يقول له: كذبت إنما حفظت ليقال حافظ وتعلمت ليقال عالم، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه فيجر إلى النار .
إياك أن تحفظ لتماري السفهاء، أو لتجاري العلماء، أو لتلفت إليك أنظار الناس. ألق الناس خلف ظهرك، ويكفيك أن تكون عند الله عالما، يكفيك أن تكون عند الله عز وجل حافظا.
أما النصيحة الثانية: فهي الدعاء والإلحاح في الدعاء أن يمن الله عز وجل عليك بحفظ القرآن، فوالله لا حول لنا ولا قوة إلا به.
إن الله عز وجل قال لنبيه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى [الأعلى:6]، فالذي يقرئ العبد فلا ينسى هو الله وحده، فالجأ إليه في الأوقات المرجوة الإجابة، وسله سبحانه وتعالى أن يستجيب دعوتك في أن تكون من حفظة كتاب الله عز وجل، في أن يكون صدرك وعاء لحفظ كلمات الله سبحانه وتعالى.
النصيحة الثالثة: هي الاستغفار وترك الذنوب:
إن المعاصي تحول بينك وبين الحفظ، الحفظ الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، الحفظ الذي يرفعك الدرجات في الجنة الدرجة تلو الدرجة، المعاصي عقبة دون مثل هذا الحفظ، ولهذا لما سئل وكيع وكان لا يرى معه كتاب أبدا كان ما كان إلا حافظا ما هو إلا يحفظ فسألوه عن دواء الحفظ؟ سألوه عن دواء الحفظ؟ فقال: ترك المعاصي، ترك المعاصي ما جربت مثله للحفظ .
فإذا فرَّغت القلب، وتركت تلك الذنوب وتلك المعاصي، ودعوت الله عز وجل وأقبلت عليه، فأنصحك بسبع وسائل ميسرة لحفظ كتاب الله عز وجل:
الأولى: أن تفرغ الأوقات:
كل من أراد أن ينفذ أي عمل جعل له وقتا يؤديه فيه، فعلامة صدقك في أنك تريد أن تحفظ القرآن أن تفرغ له الأوقات، وإني أنصحك أن يكون ذلك في البكور بعد صلاة الفجر مباشرة، في وقت صفاء الذهن وقبل أن تنشغل بمشاغل الدنيا، وليحصل لك البركة الموعودة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (البركة في البكور) .
النصيحة الثانية أو الوسيلة الثانية التي تعينك على حفظ كتاب الله عزوجل: أن تحدد مقدارا يوميا لنفسك:
وهذا يختلف من شخص لآخر، فمن الناس من يستطيع أن يحفظ صفحة كاملة، ومنهم من لا يستطيع أن يحفظ إلا سطرا واحدا، فبه ونعمت احفظ سطرا واحدا ولكن داوم عليه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قل) ، فليست العبرة بكثرة ما تحفظ، إنما العبرة بالمداومة على أن تحفظ كل يوم.
النصيحة الثالثة بعد أن حددت المقدار الذي ستحفظه والذي ستواظب عليه مواظبتك على الطعام والشراب: أن تقرأ هذا الورد على متقن، على أهل الفضل، على أهل الإتقان، فيكون لك شيخ، وابذل لذلك وقتك وجهدك، ابذل لذلك مالك ووقتك وجهدك على أن يكون لك شيخ إما أن يأتيك وإما أن تأتيه، وتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يأتيه جبريل كل عام يدارسه القرآن ، بل وترجم الإمام البخاري وقال: عرض جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأن جبريل كان يعرضه على النبي، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يعرضه عليه، وحديث أُبَي المشهور: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:1]) ، يقول الإمام النووي -رحمه الله-: لتستن به -صلى الله عليه وسلم- لتستن به الأمة، أي: في القراءة على أهل الإتقان وأهل الفضل .
النصيحة الرابعة أو الوسيلة الرابعة هي: أن تقرأ معاني كلمات الجزء الذي تريد أن تحفظه، ولا تتوسع في ذلك، فإن النفس ملول، ولعلها تميل إلى قراءة كتب التفسير حتى تقضي الوقت كله في قراءة كتب التفسير وتنشغل عن الحفظ. اقرأ معاني المفردات أو سبب نزول الآية فهذا يعينك على الحفظ.
النصيحة الخامسة: أن تكتب الآيات التي تريد أن تحفظها:
فهناك حفظ في الأذهان، وهناك حفظ باللسان، وهناك حفظ بالبنان، قال هذا الحافظ ابن كثير ، واستشهد واستدل بقول الله عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَخَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍاقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُالَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِعَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].
النصيحة السادسة هي: أن تقرأ هذا الذي حفظته باستمرار:
يكون لك معاهدة ومدارسة بحفظ القرآن، يعني لا تبدأ في اليوم الثاني في حفظ الورد الجديد حتى تراجع اليوم الذي قبله، واليوم الثالث تراجع ورد اليوم الأول والثاني، واليوم الرابع، وهكذا، فإذا كان آخر يوم في الأسبوع فلا تحفظ في اليوم الأخير وليكن الجمعة مثلا تُرَاجع فيها ما حفظته خلال الأيام الستة، وتبدأ الأسبوع الثاني بحفظ جديد، والثالث، والرابع، فإذا كانت نهاية الشهر راجعت ذلك كله، ولا تنتقل إلى ورد الشهر الثاني حتى تُرَاجع ورد الشهر كله في يومين في ثلاثة في أكثر فلا بأس، ولكن لا تنتقل إلى الجديد حتى تتقن الماضي، هذا هو ربط المحفوظات، هذا هو الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت) ، فمن عاهد على هذه المدارسة كل يوم وكل أسبوع وكل شهر أمسك ما يحفظ.
ثم بعد ذلك أنصحك أن تقرأ به في صلاتك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار حفظه، وإن لم يقرأه نسيه) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان) ، اسمعوا إلى هذا الحديث (يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل)، نعم، من أراد أن يحفظ القرآن يمنعه النوم بالليل، فإنه يقوم بالليل، فيُعْرَف صاحب القرآن بليله إذ ينام الناس، ويصلي به كذلك في النوافل الراتبة خلال اليوم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) ، خلفات: أي النوق الحوامل، (خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)، ويقرأ بها أيضا في سيره، في طريقك إلى العمل أو إلى درسك أو إلى جامعتك تقرأ هذه الآيات التي حفظتها بعد صلاة الفجر، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أثر عنه كما جاء في حديث عبد الله بن مغفل أنه قرأ سورة الفتح وهو على الراحلة ، بل وتقرأه في وقت اضطجاعك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- كان يقرأ القرآن وهو يتكئ في حجري وأنا حائض ، فتقرأه وأنت في بيتك ووسط عيالك وتقرأه وأنت في طريقك يكون أنسك تترنم به في كل مكان.
الوسيلة العظمى هي: الحفظ العملي، أن تعمل بما حفظت من القرآن: فليس هناك وسيلة أعظم من العمل، أن يصير القرآن خلقا لك، وإذا صار القرآن خلقا لك وسلوكا فهذا يدفعك ويعينك على حفظ كتاب الله عز وجل.
لن نحفظ القرآن وننال الدرجات العلى إلا إذا اهتممنا بتلك الرسائل، رسائل ربنا سبحانه وتعالى، يوم أن نسخر أوقاتنا لحفظ القرآن ولفهمه ثم العمل به، يوم أن نسخر لذلك أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا، يوم أن يكون القرآن شاغلا لنا في أنديتنا وفي منتدياتنا، يومئذ، ويومئذ فقط، تعود إلى هذه الأمة عزتها وتعود إلى هذه الأمة كرامتها.
وآخر ما أوصيك به الصبر، الصبر فإن هذه منزلة عظيمة، فإن لم يكن هناك صبر عليها فلن ينالها العبد، وهذه سنة لله عز وجل، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراًإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:6]، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، واعلم أن من لازم طرق الباب أوشك أن يُفْتَح له، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35].